المقاومة الإسلامية في الأندلس بعد سقوط غرناطة..ثورة البَشَرَات الثانية 1568م

سقطتْ مملكةُ غرناطة 1492م، وسَقط بسقوطها آخرُ معاقل المسلمين في الأندلس، وكانت معاهدة التسليم تضمنُ حريةَ العقيدة والعبادة لمسلمي الأندلس، اشتملت المعاهدة على سبعةٍ وستين شرطًا، حسب المصادر العربية، منها:

{تأمينُ الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وبقاءُ الناس في أماكنِهم ودُورِهم وعَقَارهم، وإقامةُ شريعتهم على ما كانت عليه سابقًا، ولا يَحكم عليهم أحدٌ إلا بقوانينهم، وأن تبقى المساجدُ والأوقاف كما كانت، ولا يُمنع مؤذنٌ ولا مصلٍ ولا صائمٌ ولا غيرُه من أمورِ دينه، وأن يوافقَ على كل هذه الشروط “صاحبُ روما” أي البابا}.

رأتِ الحكومةُ الإسبانية أن تسيرَ الأمور في بادئ الأمر على وفق شروط التسليم؛ حفاظًا على الهدوء والسكينة في المدينة ريثما تستقر الأمور.

ولكن هذا الهدوء لم يستمر سوى سبعة أعوام، ثم بدأ البطشُ والتنكيل، ونكثُ العهود، وخَلْفُ الوعود، ونقضُ العقود. فمُنع الأذانُ من المساجد، وأُخرج المسلمون من غرناطة إلى ما حولها من القرى والنواحي.

حاول أهلُ غرناطة التأقلمَ مع الوضع الجديد، بعد أن سيطر الإسبانُ على أرضِهم وممتلكاتهم، وفُرضتْ عليهم الضرائب ُوالرسوم، ومُنعوا من أداء شعائر دينهم، مع محاولاتٍ مستمرة لإقناعهم بالتخلي عن عقيدتهم وعروبتهم. فلما تبين للإسبان إصرارُ المسلمين على التمسك بدينهم ولغتهم جنحوا إلى سياسة العنف والمطاردة.

في عام 1499م طاف الجنودُ الإسبان على مسلمي غرناطة فجمعوا ما لديهم من مخطوطاتٍ عربية ومصاحفَ وحملوها إلى ساحةِ المدينة في ميدان “باب الرملة” فجُمعت عشراتُ الألوف من هذه الكتب في مختلف العلوم والآداب وأُشعلت فيها النيرانُ، ولم يُستَثنَ منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والكيمياء والرياضيات؛ لســدِّ النقص في الجامعات الإسبانية، وهكذا ذهبتْ ضحيةَ هذا الإجراء البربري عشراتُ الألوف من الكتب التي أنتجها الفكر الإسلامي في الأندلس.

وقد قدّر البعضُ عددَها بثمانين ألف مخطوطٍ عربي، في حين يُبالغ بعضُ مؤرخي الإسبان فيجعلها مليونًا وخمسة آلاف كتابا، والقصدُ عزلُ مسلمي الأندلس عن تاريخهم وتراثهم ولغتهم وحضارتهم العربية والإسلامية، ثم حُوّل مسجدُهم إلى كنيسة سميت باسم “سان سلفادور”، وأُكرهت فتياتُهم على الزواج من الإسبان، كما أُكره الرجالُ على الزواج من الإسبانيات؛ والهدفُ تذويبُ الهوية الإسلامية والعربية والقضاء عليها.

وفي نفس العام صدر القرار الملكي بفَرْض التنصير الإجباري على كل مسلمي الأندلس، أو ترحيلهم إلى المغرب إن رفضوا ذلك، وهكذا تم تنصيرُ خمسين ألف أندلسي، وحُولت مساجدُهم إلى كنائسَ، أو أُزيلت من الوجود.

ثم أصدر الملك فرديناد عام 1508 مرسومًا يحظُر على الأندلسيين التحدث باللغة العربية، وارتداء الملابس العربية، وممارسة أي عاداتٍ أو طقوس إسلامية أو عربية.

قامت انتفاضاتٌ عديدة وحركاتُ مقاومةٍ عنيفة في جنوب إسبانيا، منها ثورة ألمرية، وثورة وادي آش، ثورة بسطة ورُندة، وثورة حي البيازين، (أحد أحياء غرناطة، وكان يسكنه عشرة آلاف أسرة مسلمة، أي حوالي خمسين ألف من المسلمين)، وثورة البَشَرات الأولى 1499. ولكن فشلتْ كلُّ هذه الثورات، وتمَّ إخمادُها بسبب عدم التنسيق بين القرى والمناطق، وانعدام التواصل بين مسلمي الأندلس وإخوانهم في بلاد الغرب الإسلامي.

اقرأ أيضًا: الأندلس المفقود: مَن يمتطي صهوة الجواد إليك من جديد؟

ثورة البَشَرات الثانية 1568

تنحصر منطقة البَشَرات Alpujarras في الأراضي المرتفعة بين جبال “سيرا نيفادا” والبحر المتوسط، ويبلغ طولها نحو تسعةَ عشر ميلًا، وتضم الكثير من القرى التي يقطنها العرب.

أسباب الثورة

كان الملك فيليب الثاني مسيحيًا متعصبًا لكنيسته الكاثوليكية، خاضعًا لأهواء رجالها، فأَصدر في نوفمبر 1566 قراراتٍ تعسفية، وأمر أن تُطبع في ســريةٍ تامة ثم تُنشـر فجأة في جميع أنحاء غرناطة في الأول من يناير 1567 في ذكرى سقوط المدينة، ليصبحَ مناسبة قومية يُحتفل بها كل عام.

{أعطى هذا القانون مدة ثلاث سنوات لمسلمي الأندلس لتعلم اللغة القشتالية، وبعدها لن يُسمح لأحد أن يكتبَ أو يقرأ أو يتخاطب اللغة العربية، ولن يُعترف بأيّ عقودٍ أو معاملات تجري بهذه اللغة، كما يجب أن تُسلم جميعُ الكتب العربية خلال شهرٍ إلى رئيس المجلس الملكي في غرناطة، ومَنع القانون صُنعَ الثياب العربية الجديدة، وإتلاف ما تبقى منها، كما حظر الحجابَ على النساء، وأوجب فتحَ أبواب المنازل أيام الجمع والأعياد؛ ليتمكنَ رجالُ السلطة والقساوسةُ من رؤية ما يدور داخلها، كما تم حظر التخضيب بالحِناء، واستخدام الحمامات، بل يجب هدمُها سواءً كانت عامة أو خاصة! كما حظر عليهم استخدام الأسماء والألقاب العربية}.

حاول المسلمون إيقافَ تنفيذ هذه القرارات، وأرسلوا وفدًا إلى الملك فيليب الثاني، ولكن تم تجاهلُ شكواهم وقُوبلوا بالإهانة والازدراء، وهنا لم يعد أمامهم طريق إلا الثورة المسلحة أمام قراراتٍ تقضي على هويتهم الإسلامية قضاءً مبرمًا.

أحداث الثورة

نتيجة لتجارب العرب السابقة فقد أدركوا أن ســرَّ النجاح في الكتمان والإعداد، فقام أحدُ زعمائهم ويدعى “فرج بن فرج” هو صباغ عربي يرجع نسبُه إلى أسرة بني سراج العربية، بالدعوة إلى الثورة والمقاومة، واجتمع المسلمون على تولية “فرناندو دي فالو” ملكًا عليهم وقائدًا للثورة، وهذا اسمه الإسباني، لكنه كان عربيًا صميمًا ينتمي إلى بني أمية، فهرعتْ إليه الوفودُ من كل ناحية، واحتفل الموريسكيون بتتويجه في التاسع والعشرين من ديسمبر سنة 1568 في احتفالٍ بسيط مؤثر.

فُرشتْ فيه على الأرض أعلامٌ إسلامية ذات أهلة، فصلّى عليها الأميرُ متجهًا صوب مكة، وقبَّل أحدُ أتباعه الأرضَ رمزاً للخضوع والطاعة، وأقسم الأميرُ أن يموتَ في سبيل دينه وأمته، وتسمى باسمٍ عربي هو محمد بن أمية صاحب الأندلس وغرناطة، وتم الاتفاقُ أن تكونَ ساعة الصفر هي ليلة الخميس 14 أبريل 1568، وهو يومٌ مقدسٌ عند الإسبان ينشغلون فيه باحتفالاتهم، ولكن تمّ تسريبُ الخبر عن طريق أحد الجواسيس، فتم تأجيل الموعد.

استكمل الثوار عدتَهم، واتُّفقَ على إشارة بدء الثورة، وقُسِّم الثوارُ ثلاث مجموعات:

  • المجموعة الأولى: تسيطر على مركز الحاكم العام لولاية غرناطة.
  • المجموعة الثانية: تسيطر على المستشفى الملكي، ثم محكمة التفتيش، وتعتقل قضاتها وزبانيتها، وتحرر السجناء المعذَّبين.
  • المجموعة الثالثة: تقتحم سجن غرناطة، وتعتقل رجالَه وجلاديه، وتحرر السجناءَ المنكوبين.

ثم تجتمع المجموعاتُ الثلاثة في ساحة غرناطة، وينضم إليهم السكانُ ويتم الدفاع عن المدينة، وتم تحديد الأول من يناير 1569 ليكون يوم انطلاق شرارة الثورة والمقاومة، ولكن حدث شيءٌ عَجَّل بقيام الثورة، حيث قابل الثوارُ في 23 ديسمبر مفرزًة إسبانية مكونة من خمسين جنديًا، فأبادوها وانتشرت شرارة الثورة، وحاول الثوار تنفيذ مخطط الثورة فوصلوا إلى مدينة غرناطة، وبالفعل دخلوها، ولكن نظرًا لتقديم الموعد وتغييره أحجم السكانُ عن الانضمام إلى الثوار، فاضُّطر الثوار إلى الانسحاب من المدينة.

كان محمد بن أمية متحصناً بقواته في آكام “بوكيرا” الوعرة، وكان الموريسكيون رغم نقص مواردهم وسلاحهم، قد حذقوا حربَ الجبال ومفاجآتها، فما كاد الإسبانُ يقتربون حتى انقضوا عليهم، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، ارتد الموريسكيون على أثرها إلى سهول “بطرنة”، وتخلف كثيرون منهم ولاسيما النساء، فَفتك الإسبانُ بهم فتكاً ذريعًا، وبعث إليه بعضُ المسالمين ليستسلم، فكتب الدون ألونسو فنيجاس “بنيغش” سليل الأسرة الغرناطية القديمة إلى ابن أمية يعاتبه، وأنه قد جانب العقلَ والحزم في القيام بهذه الحركة التي تعرضه وتعرض أمته للهلاك، ونصحه بالتوبة والتماس العفو!

وكان محمد بن أمية يميل إلى الصلح والتفاهم، وتبودلت بالفعل المكاتبات بينه وبين الماركيز “دي منديخار” في أمر التسليم، ولكن المتحمسين من أنصاره ولاسيما المتطوعين المغاربة رفضوا الصلح، فاستؤنفت المعارك، ورجحت كفة الإسبان، وهُزِم الموريسكيون مرة أخرى، وأعلن الماركيز “دي منديخار” أن الأسرى الموريسكيين يعتبرون رقيقاً، وفرّ محمد بن أمية، وأُســرت أمُّه وزوجُه وأخواته، وقَتل الإسبانُ من تخلَّف منهم أشنعَ قتلٍ، وكان ممن تخلف منهم زعيمٌ باسلٌ يدعى الزمار ” أسرَه الإسبانُ مع ابنته الصغيرة، وأرسلوه إلى غرناطة حيث عذبوه عذابًا وحشيًا إذ نُزع لحمُه من عظامِه حيًا، ثم مُزِّقت أشلاؤُه. وهكذا كانت أساليب الإسبان ومحاكم التحقيق إزاء العرب المتنصرين.

اقرأ أيضًا: ما لا تعرفه عن محاكم التفتيش

واختفى محمد بن أمية في منزل قريبه “ابن عبو”، وكان من أنجاد الزعماء، وطاردَه الإسبان دون أن يظفروا به، ووقعت بين الفريقين عدة معاركُ شديدة، قُتل فيها كثيرٌ من الفريقين، ومُزِّق الموريسكيون، وفَتك الإسبان كعادتهم بالأسرى، وقتلوا النساء والأطفال قتلا ذريعًا.

ووقعتْ في نفس الوقت مذبحةٌ مروعة أخرى في غرناطة، فقد كان في سجنها العام نحو مائة وخمسين من أعيان الموريسكيين، فأذاع الإسبانُ أن الموريسكيين سيهاجمون غرناطة لإنقاذ السجناء، وعلى ذلك صدر الأمرُ بإعدام السجناء، فانقضَّ الجندُ عليهم وذبحوهم في مناظرَ مروعة من السفك الأثيم.

وكان لهذه الحوادث الأخيرة أثرٌ في إذكاء الثورة، وكان نذيراً جديداً للموريسكيين بأن الموت في ساحة الحرب خير من الذبح في أقبية السجون، فسرى إليهم لهيب الثورة بأشد من قبل، فانقضوا على الحاميات الإسبانية ومزقوها تمزيقاً، واحتشدت جموعهم مرة أخرى تملأ السهل والجبل، وعاد محمد بن أمية ثانية إلى قيادة الثورة، والتف حوله الموريسكيون أضعاف ما كانوا، وبعث أخاه عبد الله إلى القسطنطينية (إسطنبول) بطلب العون من سلطانها، وأرسل في نفس الوقت إلى أمير الجزائر وإلى سلطان مراكش يطلب الانجاد والغوث.

ولكن سلاطين القسطنطينية لم يلبوا ضراعة الموريسكيين بالرغم من تكرارها منذ سقوط غرناطة، وأرسل أمير الجزائر مشجعاً ومعتذراً عن عدم إمكان إرسال السفن، ووعد سلطان مراكش بالمساعدة والغوث، ولكن هذا الصريخ المتكرر من جانب الموريسكيين لم ينتج أثره المنشود، ولم يلبه غير إخوانهم المجاهدين في إفريقية، فقد استطاعت جموعٌ جريئة أن تجُوزَ إلى الشواطئ الإسبانية، ومنهم فرقة من الترك المتطوعين، وأن تهرعَ إلى نصرة المنكوبين.

اقرأ أيضًا: ما لا تعرفه عن دور العثمانيين في الأندلس

وهكذا عاد النضالُ إلى أشده، وخشيَ الإسبانُ من احتشاد الموريسكيين في البيازين ضاحية غرناطة، فصدر قرار بتشريدهم في بعض الأنحاء الشمالية. وكانت مأساةً جديدة مُزقتْ فيها هذه الأُسـر التعسة، وفُرِّق فيها بين الآباء والأبناء والأزواج والزوجات، في مناظرَ مؤثرةٍ تُذيب القلب.

وبينما كانت هذه الحوادث والمعارك الدموية تضطرم في هضاب الأندلس وسهولها وتحملُ إليها الخرابَ والموتَ والدمار، إذ وقع في المعسكر الموريسكي حادثٌ خَطِر، هو مصرع محمد بن أمية، وكان مصرعُه نتيجة المؤامرة والخيانة، وفى الحال اختار الزعماءُ ملكاً جديدًا هو “ابن عبو”، واسمه الموريسكي “ديجو لوبيث”، فتسمى بمولاي عبد الله محمد، وأُعلن ملكاً على الأندلس بنفس الاحتفال المؤثر الذي تم سابقًا. وكان مولاي عبد الله أكثرَ فطنة وروية وتدبراً، فحَمل الجميعَ على احترامه، ونَظَّمَ الجيشَ، واستقدَم السلاحَ والذخيرة من ثغور المغرب، واستطاع أن يجمع حوله جيشاً مدرباً قوامه زهاء عشرة آلاف مجاهد.

وفى أواخر أكتوبر سنة 1569 سار مولاي عبد الله بجيشه صوب “أرجبة” وهي مفتاح غرناطة، واستولى عليها بعد حصارٍ قصير، فذاعت شهرتُه وهرع الموريسكيون في شرق البَشَرَات إلى إعلان طاعته، وامتدت سلطتُه جنوبًا حتى بسائطَ رُندة ومالقة، واشتَدَّتْ غاراتُ الموريسكيين على فحص غرناطة La Vega.

ولما رأى فيليبُ الثاني استفحالَ الثورة الموريسكية، وعجزَ القادة المحليين عن قمعها، عيَّن أخاه الدون خوان قائداً عاماً لولاية غرناطة، الذي اعتزم أن يسير لمحاربتهم بنفسه، فخرج في أواخر ديسمبر 1569 على رأس جيشه، وسار صوب وادى آش، وحاصر بلدة “جليرا” وهى من أمنع مواقع الموريسكيين، وكان يدافع عنها زهاء ثلاثة آلاف موريسكي، منهم فرقة تركية، فهاجمها الإسبانُ عدةَ مراتٍ وصوبوا إليها نارَ المدافع بشدة، فسقطتْ في أيديهم بعد مواقع هائلة، أبدى فيها الموريسكيون والنساءُ الموريسكيات أعظمَ ضروب البسالة، وقُتل عددٌ من أكابر الإسبان وضباطهم، ودخلها الإسبان دخول الضواري المفترسة، وقتلوا كل من فيها من النساء والأطفال، وكانت هذه المذبحة البشعة في فبراير سنة 1570.

وهنا رأت الحكومة الإسبانية أن تجنح إلى شيءٍ من اللين، خَشية عواقب هذا النضال الرائع، فبعث الدون خوان رُسُلَه إلى الثوار في أمر الصلح، وصدرَ أمرٌ ملكيٌ بالوعد بالعفو عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم خلال عشرين يوماً، ولهم أن يقدموا ظَلَامَاتهم فتُبحث بعناية، وكل من رفضَ الخضوعَ قُضى عليه بالموت. فلم يصغِ إلى النداء أحدٌ؛ ذلك أن الموريسكيين أيقنوا نهائيًا أن اسبانيا لا عهدَ لها ولا ذمام.

بعد أسابيع أرسل الدون خوان رُسُولَه إلى مولاي عبد الله في أمر الصلح، فقال: إنه يترك الموريسكيين أحراراً في تصرفاتهم، بيد أنه يأبى الخضوعَ ما بقي فيه رمقٌ ينبض، وأنه يُؤثر أن يموتَ مسلمًا مخلصًا لدينه ووطنِه على أن يَحصلَ على مُلْك اسبانيا بأسره وقد تخلّى عن دينه وأمته.

ثارت الحكومة الإسبانية لهذا التحدي، واعتزمت سحقَ الثوار بما مَلكت، واجتَاح الإسبانُ في طريقهم كلَّ شيء، وأمعنوا في التقتيل والتخريب، وهدمِ الضياع والقرى والمعاقل، وأَتلفوا الأحراشَ والمزارعَ والحقول، حتى لا يبقى للثائرين مثوى أو مصدرٌ للقوت، وأخذتِ الثورة تنهار بسرعة، وفرَّ كثيرٌ من الموريسكيين إلى إخوانهم في إفريقية، ولم يبقَ أمام الإسبان سوى مولاي عبد الله وجيشه الصغير. بيد أن مولاي عبد الله لبث معتصمًا بأعماق الجبال، يحاذر الظهور أمام هذا السيل الجارف.

وفى مارس سنة 1571 كشف بعضُ الأسرى مكانَ مخبئه للإسبان، وهنالك استطاعوا إغراءَ ضابط مغربي من خاصته يدعى جونثالفو “الشنيش”، وأغدق الإسبان له المنحَ والوعود إذا استطاع أن يُسلّمَهم مولاي عبد الله حيًا أو ميتًا. وكان الإغراءُ قويًا مثيرًا، فدبَّر الضابطُ الخائن خطتَه لاغتيال سيدِه، وفى ذاتِ يومٍ فاجأه مع شرذمة من أصحابه، فقاوم مولاي عبد الله ما استطاع، ولكنه سقط أخيرًا مثخنًا بجراحه، فألقى الخونةُ جثتَه من فوق الصخور كى يراها الجميع.

ثم حملها الإسبانُ إلى غرناطة، وهناك استقبلوها في حفلٍ عظيم، ورتَّبوا موكباً أُركبت فيه الجثةُ مُسنَدةً إلى بغل، وعليها ثيابٌ كاملة كأنما هي إنسانٌ حي، ومن ورائها أفواجٌ كثيرة من الموريسكيين الذين سلَّموا عقِبَ مصرع زعيمهم، ثم حُملت إلى النَّطع، وأُجرى فيها حكمُ الإعدام، فقُطع رأسُها ثم جُرَّت في شوارع غرناطة، مبالغةً في التمثيل والنكال، ومُزقت أربعًا، وأُحرقت بعد ذلك في الميدان الكبير، ووُضع الرأسُ في قفصٍ من الحديد، ورُفع فوق ساريةٍ في ضاحية المدينة تجاه جبال البَشَرَات.

وهكذا انهارت ثورة البَشَرَات وسُحقت، وخَبَتْ آخرُ جَذوةٍ من العزم والنضال، في صدور هذا المجتمع الأبي المجاهد، وقضتِ المشانقُ والمحارقُ والمحنُ المروعة على كلِّ نزعةٍ إلى الخروج والنضال، وهبَّتْ روحٌ من الرهبة والاستكانة المطلقة، على ذلك المجتمع المهيض المُعَذب، وعاش الموريسكيون لا يُسمع لهم صوتٌ، ولا تَقوم لهم قائمة، في ظل العبودية الشاملة والإرهاق المطلق حتى صدر قرار الترحيل والإبعاد النهائي عام 1609.

المصادر

محمد مصطفى المالكي

تخرجت في جامعة الأزهر، كلية اللغة العربية، قسم التاريخ والحضارة. وعملت إمامًا وخطيبًا. والآن منسق… More »

‫4 تعليقات

  1. مقال جميل ويعرض الكثير من الحقائق ولكن من عدم الأمانة وعدم الحياد أن يتم تخصيص انتقال المورسكيون فقط الى المغرب ! فالأصح أن تقول إلى شمال إفريقيا، خصوصا وأن أعدادهم في تونس والجزائر أكثر بكثير من المغرب. وثانيا، تخصيص المقاومة الشديدة للمغرب، حيث ان المغرب تأسس حديثا (بداية القرن العشرين) لذلك من الأمانة القول إما من عرب شمال إفريقيا أو من المسلمين الذي يرجع أصلهم إلى شمال إفريقيا.

  2. مصيبتهم أن كل واحد فيهم كان يريد ـن بكون الزعيم الحاكم فوقعوا كلهم بربطة المعلم وكسرهم اللاتين وطردوهم أجمعين

  3. بارك الله في جهودكم .. اكتشفت الموقع مؤخرا و أنا سعيد بالتعرف على المواضيع الشيقة و المهمة جدا .. شكرا للقائمين على المساهمة في صنع الوعي ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى