معركة الدونونية.. يوم نصرَ المغاربة الأندلس

معركة الدونونية هي إحدى أعظم المعارك التي حدثت في الأندلس، والتي كان لها وقع عظيم في قلوب النصارى؛ فقد كانت الحد والحاجز الذي حال بين النصارى ونَيْلهم من الأندلس، وأخَّر مرادهم.

فما هي هذه المعركة؟ وكيف استطاع عشرة آلاف مقاتل أن ينتصروا على تسعين ألف مقاتل؟ وما الدور الذي قام به يعقوب المنصور في المعركة ليحقق النصر؟ وما هو السبب في تسمية هذه المعركة بـ “الدونونية”؟

معركة الدونونية هي معركة وقعت في 674هـ / 1276م، بين جيوش المسلمين المتحدة من قوات المرينيين وقوات محمد بن الأحمر الفقيه ضد قوات ملك قشتالة ألفونسو العاشر. ويعود سبب تسمية هذه المعركة بـ “الدونونية” إلى اسم قائد جيش النصارى وزعيمهم “الدون نونيو دي لارا”.

أحداث معركة الدونونية

تولي ابن الأحمر الفقيه للحكم

بعد أن مات محمد بن الأحمر الأول، تولى ابنه محمد بن الأحمر الثاني، المسمى بـ (محمد بن الأحمر الفقيه)؛ حُكم البلاد وإدارة أحوالها. وبمجرد توليه للبلاد وجد ابن الأحمر الفقيه أن قوة المسلمين قد ضعفت في الأندلس، وأن عدو المسلمين ألفونسو العاشر سارع إلى الاستعداد للقيام بالهجوم على غرناطة، عندها لم يتهاون ابن الأحمر الفقيه بطلب العون والنصرة من يعقوب المنصور المريني، الذي استجاب مسرعًا لنجدة المسلمين.

نجدة يعقوب المنصور المريني لأهل الأندلس

قام يعقوب المنصور المريني بالاستجابة إلى طلب ابن الأحمر الفقيه؛ فقام بتحضير جيش قوامه خمسة آلاف مقاتل، وخرج بهم إلى الأندلس ليتحد جيش يعقوب المنصور مع جيش ابن الأحمر الفقيه المكون من خمسة آلاف مقاتل، فيصبح بذلك قوام جيش المسلمين عشرة آلاف مقاتل.

وصول خبر إقبال جيش النصارى

معركة الدونونية

بعدما وصل يعقوب المنصور إلى مدينة إستجة ونزل عليها، جاءه خبر إقبال (الدون نونيو دي لارا)، قائد جيش النصارى وزعيم حربهم، بجيش قوامه تسعون آلف مقاتل؛ منهم ثلاثون ألف فارس وستون ألف راجل.

فلما سمع يعقوب المنصور بالخبر أمر بأشياخ قبائل مرين، وأمراء العرب وقواد الأندلس من الفقهاء والصالحين وأشياخ المطوفين للاجتماع، فقام فيهم يعقوب المنصور يشاورهم كيف العمل، مقيمًا بذلك أمر الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصفة الأمة (وأمرهم شورى بينهم) -الشورى 38-، فاستشار أولًا أشياخ بني مرين ثم أشياخ العرب ثم أشياخ المطوعة ثم قواد الأندلس، فقال كل منهم ما لديه من القول والنصح، وبعد أن سمع يعقوب المنصور أقوالهم، جمع شتات أمره فأمر الجيش بالاستعداد للقاء العدو وحثهم على الصبر والثبات.

انطلاق حرب الدونونية

وبعد وصول خبر القائد يعقوب المنصور إلى كافة أنحاء الجيش، أخذ الجيش بالاستعداد للقتال، وبينما هم كذلك، إذ بدأت طلائع جيوش النصارى بالإقبال نحوهم. فلما رأى يعقوب المنصور ذلك، ترجل عن جواده وأسبغ وضوءه وصلى ركعتين، ثم رفع يديه إلى السماء، ودعا بدعاء النبي(1) -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، فقال:

اللهم انصر هذه العصابة وأيدها، وأعنها على جهاد عدوك وعدوها.

فلما فرغ من الدعاء، استوى على جواده، ونادى على المسلمين، فقال: “يا معشر المسلمين، وعصابة المجاهدين، أنتم أنصار الدين، الذابون عن حماه، والمقاتلون عداه. وهذا يوم عظيم، ومشهد جسيم، له ما بعده، ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت حورها وأترابها، فبادروا إليها، وجِدّوا في طلابها، وابذلوا النفوس في أثمانها. ألا وإن الجنة تحت ظلال السيوف. إن الله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة، وشمّروا عن ساعد الجِدّ في جهاد أعداء الله الكفرة، وقتال المشركين الفجرة، فمن مات منكم مات شهيدًا، ومن عاش منكم رجع إلى أهله سالمًا غانمًا مأجورًا حميدًا. فاصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون”.(2)

فكان لهذه الخطبة العظيمة والكلمات البليغة الأثر الكبير في نفوس المجاهدين؛ فقد أشعلت غيرة قلبهم على الإسلام، ورفعت من هممهم إلى سقف الشهادة، فأخذوا يعانقون بعضهم البعض، مودعين أنفسهم للشهادة في سبيل الله، والدموع تتساقط من عظمة الموقف، فارتفعت أصواتهم بالشهادة والتكبير، وكلهم يقول: “عباد الله إياكم والتقصير”.

فأخذ أبطال المسلمين بالتسابق إلى جيش النصارى معتمدين على الحي الذي لايموت، فالتقى الجمعان واشتد النزاع والقتال وعظمت الأهوال، لكن المسلمين لم يتوانوا عن الجهاد والقتال.

وكان قد قسم قائد النصارى (دون نونيو) جيشه إلى خمسة أجزاء، ليُظهر بذلك جموعًا كثيرة. لكن جموعه لم تغنِ عنه شيئًا أمام شجاعة المسلمين وطلبهم للجنة، فكانت الجموع خاسرة بفضل الله، وقُتل زعيم النصارى (دون نونيو) وولده وهُزم جيش النصارى، وكان نصرًا للمسلمين.

بعد معركة الدونونية

وبعدما انتهت المعركة، وظفر المسلمون بالنصر على عدوهم واستعادة قوتهم في الأندلس؛ قُسم الجيش إلى نصفين، نصف اتجه بقيادة ابن الأحمر الفقيه إلى جيان ففتحها، ونصف اتجه بقيادة يعقوب المنصور المريني إلى أشبيلية؛ فحاصرها وحررها وصالح أهلها على الجزية. فكانت هذه المعركة بذلك بداية فتوح عظيمة ونصرة رفيعة.

عودة يعقوب المنصور المريني 

بعدما انتهت المعركة والفتوح، أخذ يعقوب المنصور المريني جيشه وخرج من الأندلس دون أن يأخذ شيئًا من غنائم المعارك، تاركًا إياها لأهل الأندلس.

الأسباب المعنوية لانتصار المسلمين في معركة الدونونية

معركة الدونونية

لا نستطيع من خلال ملخص سريع حصر أسباب النصر كلها؛ خصوصًا مع فقر المصادر التي تذكر كافة تفاصيل المعركة. لكننا نقدر على أقل تقدير ذكر بعض النقاط الأساسية، والتي كان لها أثر عظيم في تحويل سير الأحداث، نذكر منها:

نصرة المسلم أخاه المسلم

هذه الحقيقة التي تجسدت في أفعال القائد العظيم يعقوب المنصور المريني، الذي سارع لنصرة أخيه المسلم ابن الأحمر الفقيه في الأندلس. فقد جهز الجيش وأعد العدة بمجرد وصول الخبر إليه، دون أي فائدة مرجوة إلا نصرة أخيه. وخير ما دل على ذلك هو عدم أخذه شيئًا من غنائم النصارى وتركها لأهل الأندلس.

الامتثال لأمر الله والاقتداء بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-

نجد ذلك جليًا في جميع أفعال يعقوب المنصور المريني. ومن ذلك أنه قام بالشورى بين شيوخ المسلمين بمجرد بلوغه خبر المعركة، وأخذ من كل عصبة وقبيلة ممثلًا، ولم يقتصر على المرينيين، الذين هو منهم، فهو بذلك فعل أمر الله (وشاورهم في الأمر) -آل عمران 159-. كما أنه -رحمه الله- فعل سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودعا بدعائه قبيل المعركة.

خطاب المعركة

لا يمكن لشخص مسلم يقرأ، لا أقول يسمع هذه الكلمات إلا وأن يمتلأ قلبه بالشوق إلى لقاء الله وبلوغ الجنة؛ فكيف لمن كان في أجواء المعركة، فكيف بمن ترك ماله وأهله وخرج للجهاد في سبيل الله، كيف سيكون حاله عندما يسمع أنه هو الرابح، سواءً مات فهو إلى الجنة، أو عاش فهو راجع إلى أهله غانمًا سالمًا، كيف ستكون نار قلبه من الشوق والحماس!

خاتمة

معركة الدونونية ليست إلا إحدى المعارك التي حدثت في الإسلام، فهي ليست بطفرة بين معارك المسلمين، فكم هي المعارك التي أيّد الله بها المسلمين مع قلتهم على الباطل وجيوشه، فقد قال سبحانه وتعالى:

(إِنْ يَنْصُرُكُمْ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الذِي يَنْصُرْكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ المُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 16) 

فيجب أن يعقل المؤمن ويوقن أن النصر بيد الله -تعالى- وحده، وأنه ليس عليه إلا أن يأخذ بالأسباب ويعد العدة، عندها سينصر الله من يعلي كلمة الحق الثابتة على كلمة الباطل الزائفة، شاء من شاء وأبى من أبى.

المصادر

  1. (1) دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما جاء من حديث عمر بن الخطاب “ثم قال: اللَّهمَّ أينَ ما وَعَدْتَني؟ اللَّهمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَني، اللَّهمَّ إنَّكَ إنْ تُهلِكْ هذهِ العِصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ، فلا تُعْبَدُ في الأرضِ أبدًا، قال: فما زال يَستَغيثُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ ويَدْعوه حتى سَقَطَ رِداؤُهُ”. أخرجه مسلم (1763).
  2. (2) صفحة 149، ذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية.
  3. كتاب الأندلس من الفتح إلى السقوط، الدكتور راغب السرجاني.
  4. كتاب الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، علي بن أبي زرع الفاسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى