الجزائر من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
يعتقد الكثيرون أن الحروب الصليبية قد ولّى زمنها مع سقوط آخر الممالك الصليبية الشامية في العصور الوسطى، والحقيقة أن الحملات الصليبية عادت لتشن غاراتها على بلاد الإسلام تحت رايات جديدة وغايات متجددة في أواخر العصر الحديث! وقد تنامت النزعة الصليبية بشكل كبير عقب سقوط آخر الإمارات الإسلامية في الأندلس، إذ لم يَكْتفِ الصليبيون بإبادة المسلمين وتنصيرهم وطردهم بل تجرؤوا على ركوب البحر لغزو شواطئ المغرب الإسلامي الذي لجأ إليه الأندلسيّون الناجون من جحيم محاكم التفتيش، حرصًا منهم على قبر أي احتمال لعودة الإسلام لشبه الجزيرة الإيبيرية. لتبدأ قصة الجزائر مع الجهاد البحري الذي تبنّته وأصبحت قاعدة له، قبل أن تسقط في قبضة الاحتلال الفرنسي في 1830م. ولك أن تتخيل أن البلاد التي شهدت ثورة ضد الطغيان والاستبداد هي نفسها البلاد التي أقلعت منها أساطيل الغزو والاستخراب باسم قيم ومبادئ الحرية والإخاء والمساواة!
الغزو الفرنسي للجزائر حرب صليبية
لطالما كانت الجزائر قلعة من قلاع الإسلام وحصنًا من حصون الأمة بتاريخها الحافل في الجهاد والرباط، لكنها عاشت واحدة من أشد النكبات التي ألمت بالأمة في تاريخها الحديث، يوم وقعت أسيرة الاحتلال الفرنسي الصليبي الذي دام 132 عامًا. احتلال لم يعرف العرب والمسلمون في وحشيته وإجرامه مثيلًا، ذلك أنه لم يكن مجرد نزوة استعمارية عابرة، ولا كما عُرِف لاحقا “بالحماية والانتداب”، وهذا باعتراف الفرنسيين أنفسهم، يقول المستشرق الفرنسي أوغستين برنار Augustin Bernard: “وليست الجزائر مستعمرة كالهند الصينية، ولا هي دومينيون مثل كندا، ولكنها جزء من فرنسا كما كانت أيام روما، إننا نريد أن نجعل هناك جنسًا يندمج فينا عن طريق اللغة والعادات، سيتم نشر لغة فيكتور هوغو”.
وخاطب قائد الحملة الفرنسية “دي بورمون” قادته منتشيًا بنجاح حملته قائلًا: “لقد فتحتم معنا من جديد باب المسيحية في أفريقيا”، وهذا وزير الحربية آنذاك كليرمون تونير Clermont Tonnerre يعلنها صراحة: “إنها حرب صليبية هيّأتها العناية الإلهية لينفّذها الملك الفرنسي الذي اختاره الرب ليثأر من أعداء الدين ويغسل العار الذي لحق بالشرف الفرنسي”، ويُمنّي النفس بتنصير الجزائريين بقوله: “يمكن لنا في المستقبل أن نكون سعداء ونحن نُمدّن الأهالي ونجعلهم مسيحيين”. ويؤكد على ذلك الكاردينال شارل لافيجري Lavigerie Charles الذي يُعد أبرز وجوه الحملة الصليبية على الجزائر بقوله:
يتعيّن على فرنسا أن تفسح لنا المجال لنقدم لهم الإنجيل وإما عليها أن تطرد هذا الشعب إلى الصحاري.
ويقول في موضع آخر: “لا مدنية لشعبها ما لم يتنصّر ويَتَفَرْنَس”، وهو الذي لم يُخفِ يومًا أطماعه وأحلامه بإعادة شمال أفريقيا للنصرانية باعتبار أن الغزو الفرنسي ما هو إلا استعادة لميراث النصرانية في شمال أفريقيا قبل الفتح الإسلامي الذي عدّه عملية معاكسة لمسار التاريخ وتهديدًا للثقافة الرومانية الإغريقية والعقيدة النصرانية! فأسس الجمعيات والمدارس التبشيرية وعلى رأسها جمعية “الآباء البيض” في 1874م، مستغلًا حالة الفقر والجوع والحرمان التي أنهكت الجزائريين ليسهل عليه تنصيرهم. ثم انظر كيف لا يرون “المدنية” و”التحضّر” إلا في إطار الفرنسة والتنصير، والعجيب في الأمر أن شرط الفرنسة والتنصّر كان مقتصرًا على الجزائريين المسلمين فقط لقاء الفوز بتذكرة دخول “جنة الحضارة الفرنسية”، في حين ترك المحتل لليهود حرية معتقدهم وأملاكهم، بل شرّع قانونًا يمنحهم بموجبه الجنسية الفرنسية (مرسوم كريميو 1870م)!
وقد سجّل سيد قطب رحمه الله شهادته في مقالة أوردتها جريدة “البصائر” سنة 1953م، جاء فيها: “لقد أُريدَ بالجزائر أن تكون أندلسًا جديدة، أُريدَ بها أن تنسلخ من جسم الوطن العربي الإسلامي وأن تبتلعها الصليبية الأوروبية الجديدة، لم يَعرف بلد آخر في الشرق أو في الغرب ما عرفته الجزائر من أساليب الصليبية، حتى الأندلس وحتى فلسطين لم تعرفا هذه الأساليب، لقد امتدت هذه الأساليب إلى تفتيت التماسك العنصري والعائلي، وامتدت إلى تخليط الأنساب وتحطيم الأخلاق، امتدت إلى إزالة الصبغة العربية والصبغة الدينية، وتم هذا في غفلة من العالم الإسلامي والأمة العربية في القرن الماضي، لهذا كله تخلصُ لي من كفاح الجزائر دلالة لا تخلصُ لي من كفاح أي بلد آخر، دلالة مطمئنة تدعو إلى الثقة والتفاؤل، إنّ هذا العالم الإسلامي لن يموت ولن يفنى، ولو كان يُراد له الموت لمات ولو كان كُتِب له الفناء لَفَني”.
لقد كان الاحتلال الفرنسي للجزائر مشروعًا استيطانيًا حرّكته روح صليبية حاقدة منتقمة، لم يهدف لإخضاع الأرض واستنزاف ثرواتها فحسب، بل كان من صميم غايته اقتلاع جذور خصمه الحضاري اللدود -الإسلام- ووضع قدم للنصرانية على ساحل أفريقيا الشمالي الذي لطالما كان قاعدة للجهاد، وسدّا منيعا تحطمت عليه كل محاولة لاختراق العمق الإسلامي من مغربه.
الشرارة الأولى وسقوط الأقنعة
لعل أشهر الحوادث التي كشفت زيف حضارة المحتل، يوم انتفض الجزائريون واعتصموا داخل “جامع كتشاوة” العتيق رفضًا منهم لقرار سلطات الاحتلال القاضي بتحويل الجامع إلى كاتدرائية، مُذكِّرين المحتل ببنود وثيقة الاستسلام التي تعهّد فيها باحترام دور العبادة (معاهدة دي بورمون De Bourmont) في 5 يوليو 1830م، والتي نصّت على استسلام الجزائر وتسليم قلاعها وحصونها وموانئها، مقابل ضمان الحرية الدينية وعدم التعرّض لأملاك الجزائريين وأعراضهم، فما كان من الجنرال (دي روفيغو De Rovigo) إلّا أن أمر بفتح النار على المصلين العزّل، وتبجّح بفعلته الشنيعة قائلًا:
يلزمنا أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه معبد إله المسيحيين.
وانقشعت سحب البارود والدخان لتكشف عن واحدة من أبشع المجازر التي عاشها الجزائريون في تاريخهم الحديث، ففي ساعة واحدة سقط ما لا يقل عن 4 آلاف من الشهداء دفاعًا عن مقدساتهم!
لقد كانت تلك المجزرة المروعة هي الصدمة التي فتحت عيون الجزائريين على حجم الكارثة والمصيبة التي ألمّت بهم في دينهم ودنياهم! بعد أن خُدعوا بوعود المحتل الكاذبة وشعاراته البراقة التي ساقها لهم وهو يروج لمبادئ ثورته، لتنطلق واحدة من أروع قصص البطولة والفداء في تاريخ الأمة، رُفعت رايات الجهاد لطرد الغزاة الصليبيين وقامت ثورات وانتفاضات شعبية مسلحة، تفشل واحدة هنا فتنشب أخرى هناك، ورغم سوء تنظيمها وتخطيطها وقلة مواردها وضعف عدتها وعتادها وعدم اجتماعها على قيادة موحدة، إلا أنها تمكنت من تعطيل زحف الاحتلال وحجّمت توغله في البلاد واستنزفت طاقاته ماديًا وبشريًا، وعجز عن إحكام سيطرته المطلقة على كامل البلاد إلا بعد قرابة 20 عامًا، وذلك يوم أُلحِقت الجزائر بالقطر الفرنسي بوصفها “محافظة فرنسية” في 1848م.
أساليب الهيمنة الفرنسية على الجزائر
عمد الاحتلال إلى سياسة المكر والخديعة التي أجادتها القوى الاستعمارية في العصر الحديث، فرفع شعار الحضارة والمدنية بالموازاة مع تعزيز آلته الحربية. لذلك تنوعت مظاهر حربه على الجزائر بدءًا بمحاولته النيل من دينها ولغتها ومعالم حضارتها، إلى ارتكاب المجازر وعمليات الإبادة الجماعية والنفي في حق أهلها:
أولًا: الأرض المحروقة
كان لسياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها فرنسا الأثر الأكبر على فشل الثورات الشعبية وتعطل مسيرة جهاد الأمير عبد القادر وغيره من زعماء حركة الجهاد في أقاليم كثيرة، وهي السياسة التي تنسجم مع فكر منظري الاحتلال مثل (ألكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville) الذي طالب علانية بتطبيق الحرب الشاملة ضد المقاومين الجزائريين وحرض على معاقبة القبائل المتعاونة مع المجاهدين. استهدفت هذه السياسة الوحشية مصدر رزق السكان الأول ووقود جهادهم، حيث لجأ الاحتلال إلى إحراق الأراضي الزراعية، وإتلاف البساتين والحقول، ومصادرة الممتلكات والحيوانات وردم آبار المياه لتجويعهم عقابًا لهم على تعاونهم مع المجاهدين، ثم إجبارهم على قبول شروطهم والجلوس لمفاوضتهم. وفي ظل غياب دعم مادي وعسكري وحصار مفروض من الخلان قبل الجيران، أُنهِكت القبائل المجاهدة وأُرغِم قادتها على إيقاف المعارك وعقد الهدن التي استغلها المحتل في تعزيز قواته بمزيد عدد وعتاد.
ثانيًا: الإبادة والنفي
أسلوب وحشي آخر اعتمده الاحتلال الفرنسي كنوع من العقاب في حق من تسوّل له نفسه التعاون مع المجاهدين أو إبداء التعاطف معهم، وعطفًا على ما سبق، لجأت سلطات الاحتلال إلى جريمة أخرى لا تقل بشاعة عن سابقتها، إذ نفّذت عشرات عمليات الإبادة الجماعية قتلًا وحرقًا وخنقًا وإغراقًا، فنذكر على سبيل المثال لا الحصر، مجزرة قرية “بني صبيح” عام 1844م التي هُجِّر أهلها إلى الشعاب فاحتمت بإحدى المغارات في سفح جبل، فلاحقتهم القوات الفرنسية وحاصرتهم داخل المغارة وقامت بتكديس كميات هائلة من الحطب قرب مدخل المغارة، ثم أضرمت النيران في مدخلها حتى قضى الجميع حرقًا وخنقًا!
ثم النفي والطرد إلى أقاصي الأرض، ففي عام 1871م، أعلن “الشيخ المقراني” ورفيقه “الشيخ الحداد” الجهاد ضد المحتل، وقادا معارك ضارية كبّدوا فيها المحتل خسائر فادحة وحرروا بعض المدن والأقاليم كليًا، قبل أن يسقط الشيخ المقراني شهيدًا ويقع الشيخ الحداد أسيرًا، فتراجعت حركة الجهاد وبدأت عمليات انتقامية بشعة شنها المحتل تأديبًا للثائرين، بدءًا بالإعدامات الميدانية إلى مصادرة الأملاك ثم النفي من البلاد، حيث نُفذ حكم النفي في حق قيادات يتقدمهم “أبو مزراق المقراني” شقيق الشيخ الشهيد، ونجلا الشيخ الحداد ومعهم أكثر من ألفيّ مجاهد، حيث أبحرت بهم السفن إلى جزيرة “كاليدونيا الجديدة” الواقعة في أقاصي المحيط الهادي، وهي الأرض التي لا زال يعيش بها أحفاد المجاهدين الجزائريين إلى يومنا هذا! عمليات النفي بلغت أكثر من 40 رحلة واستمرت بين 1864-1921م… كانت مأساة بكل ما في الكلمة من معنى!
ثالثًا: التنصير والفرنسة
كان الاحتلال يدرك أن مصدر وحدة الجزائريين الأول هو الدين الإسلامي، ثم اللغة العربية التي تشكل رافده الرئيس، فكما جيّشت فرنسا جيوشها لإخضاع البلاد عسكريًا، سيّرت في المقابل جيوشًا من المنصّرين والمبشّرين. والبداية بالاستحواذ على الأوقاف الإسلامية وإغلاق المساجد والكتاتيب القرآنية وتحويل ما بقي منها إلى كنائس ومخازن ومستودعات، ثم حظر استعمال اللغة العربية وفرض اللغة الفرنسية محلها بالقوة، وقد أنشأ الاحتلال في سبيل نشر لغته وثقافته وعقيدته مدارس ظاهرها التعليم وباطنها التبشير. وقد وصف شیخ المؤرخین الجزائريين “أبو القاسم سعد الله” رحمه الله هذا الحال بقوله:
بینما كان الجیش الفرنسي یقوم بدوره في حرب الجزائریین وتشریدھم، وبینما كان المستوطنون یغتصبون أرضھم ودیارھم، كان المفكرون الفرنسیون یحاربون الجزائریین أیضًا، ولكن بسلاح الأفكار المدمر، وقد تعرض ھؤلاء المفكرون بالضرب والطعن في كل المقومات الذاتیة للجزائري: شخصه وتاریخه ولغته ودینه وأخلاقه، وأمام ضعف الدفاع الفكري الجزائري طیلة قرن تقریبًا، كانت ضربات المفكرین الفرنسیین صائبة إلى حد كبیر، وكادت تنفذ إلى العظم والمخ.
رابعًا: خطاب ديني مشوّه
ومن أعجب ما بلغه مكر المحتل الفرنسي الرامي لإخماد جذوة الجهاد لدى الجزائريين، استغلاله للفكر المنحرف الذي كان سائدًا في بعض الزوايا الصوفية الطرقية غرب البلاد، التي ركنت للاحتلال وفتنت الناس في دينهم بحجة أنه لا طاقة للجزائريين بفرنسا وجبروتها، ونذكر على سبيل المثال “الطريقة التيجانية” التي وقفت في صف الاحتلال صراحة، فحاربها الأمير عبد القادر بضراوة، وأمام هذا الانقسام الجزائري الخطير طلب الجنرال “بيجو” من لحى السوء استصدار فتوى شرعية تقنع المجاهدين المسلمين في صفوف الأمير بإلقاء السلاح، وقد كان ذلك، إذ تجهز جمع من وجوه الطرقية على رأسهم “محمد التيجاني” و”المازاري” -آغا الدوائر- و”مولود بن سالم الأغواطي”، وشدوا الرحال نحو القيروان ثم الأزهر فالحرم المكي، ونجحوا في الحصول على فتوى مفادها: “جواز وقف الجهاد والاستسلام”، وصادق على نص الفتوى “الشريف عون” في الحجاز، وأقرّهم عليها بعض فقهاء دمشق وبغداد! فرح الجنرال “بيجو” بفتواه وجعلها مرسومًا عامًا في الساحات سنة 1842م. وبذلك اكتشفت فرنسا أسلوبًا جديدًا لشن حرب نفسية على الجزائريين، باستغلالها الفكر الصوفي المنحرف الذي قرّبته ودعمته واستغلّته منذ ذلك الحين لضرب وحدة الشعب الجزائري وتشكيكه في أصول دينه، وقد زاد عدد الطرق الصوفية في ظل الاحتلال بشكل مخيف، حتى أحصي في مدينة الجزائر وحدها 23 طريقة يتبعها ما يقارب 350 زاوية تنشر البدع والضلال وتكرّس الجهل والجمود!
خامسًا: فرّق تسُد
وبناء على ما جاء في النقطة السابقة، اهتدى الاحتلال لفكرة تشكيل فرق عسكرية من المرتزقة بمعونة الأعيان المؤيدين له والمتكسبين ماديًا من ورائه، فظهرت فرقتان رئيستان: “الزّوَافْ” و”الصّبَايْحِية”، وأصبحتا رأس حربة الاحتلال الفرنسي في معاركه ضد المجاهدين، معتمدًا على حسن معرفتهم بتضاريس البلاد وأساليب قتال الجزائريين من جهة، وتوفيرًا لنفقاته الحربية من جهة أخرى. وقد ارتكبت هاتان الفرقتان من المجازر والجرائم ما يندى له الجبين، وحاولت اختراق صفوف المجاهدين وخططت لعمليات اغتيال استهدفت قادة الجهاد. كما سعت فرنسا لضرب وحدة الشعب الجزائري عبر تقسيمه فئويًا وعرقيًا حتى قبل أن تطأ قدمها الجزائر، ونرى ذلك في البيان الشهير الذي ادّعت فيه أنها جاءت لطرد “المحتل التركي” وليس لحرب الجزائريين. وبعد أن تم الغزو ركزت فرنسا جهودها على منطقة “القبائل” ذات العنصر البربري، حيث فصلتها عن باقي الأقاليم وكثفت عمليات التنصير والفرنسة بها، وعمدت إلى إثارة النعرات العرقية بين البربر وإخوانهم العرب، بترويجها لخرافة انتمائهم إلى العنصر الأوروبي الآري الأبيض، وتذكيرهم بماضيهم النصراني قبل “الغزو العربي” لبلادهم! وهي الحملة التي تصدى لها بشراسة إمام المصلحين ابن باديس القائل: “إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنًا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر، وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرًا مسلمًا جزائريًا، وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله”. لكن فرنسا نجحت في وضع بذرة الشقاق التي ستنمو بعد سنوات لتعلن ميلاد ما يسمى “بالقضية البربرية”، وسيكون لنا معها شأن بإذن الله.
سادسًا: التجنيس والإندماج
استغلت فرنسا حالة الفقر الشديد والجهل الذي انتشر بين الجزائريين لاستمالتهم لصالحها عبر إغرائهم بتحسين ظروفهم المادية والمعيشية لقاء قبولهم بالاندماج في منظومتها القيمية ونيل جنسيتها، فاستطاعت تكوين نخب صُنعت على عينها، وتشكلت أحزاب وجمعيات تطالب بالإندماج وفق الشروط الفرنسية، وأخرى قبلت فكرة الإندماج مقابل الحفاظ على الأحوال الشخصية للجزائريين، قبل أن يتصدى لهذه المساعي جملة من الأعلام المصلحين يتقدمهم الإمام عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي والطيب العقبي والعربي التبسي، الذين أسسوا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي عملت على إحياء الهوية العربية الإسلامية، وحاربت الإندماج والتجنيس ودعاوى التغريب، وأنشأت مدارس للبنين والبنات وأسست الجرائد والمجلات الدعوية، وكان أبرز ردودها على مسألة التجنيس، تلك الفتوى المزلزلة التي هزت بها الجمعية أركان المحتل واستنفرته لشن حملة شعواء على رموز الحركة ومقراتها الدعوية، وقد جاء فيها: “التجنّس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكمًا من أحكام الإسلام عُدّ مرتدًا عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنّس مرتد بالإجماع، وإذا أراد المتجنّس أن يتوب فلا بد لتوبته من إقلاع كما هو الشرط اللازم بالإجماع في كل توبة، وإقلاعه لا يكون إلا برجوعه للشريعة الإسلامية ورفضه لغيرها”. وكان لسان حال الجمعية:
شعبُ الجزائر مسلمٌ … وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله … أو قال مات فقد كذب
أو رامَ إدماجًا له … رام المحال من الطلب
يا نشءُ أنت رجاؤنا … وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها … وخُضِ الخطوب ولا تهب
وقد كان ذلك، فما هي إلا سنوات قليلة حتى شاء الله تعالى أن يكون الرعيل الأول من مفجري ثورة نوفمبر 1954م معظمه من خريجي مدارس ومعاهد جمعية العلماء المسلمين، الثورة التي كانت كلمة السر فيها (خالد وعقبة) تيمنًا بأعظم القادة الفاتحين المسلمين وأبطالهم. وبعد إعلان الجهاد، حاولت فرنسا إغراء الجزائريين “بإصلاحات” سياسية واقتصادية مثل مشروعيّ “قسنطينة” 1958م و”جاك سوستيل” 1955م، بعد أن روجت للرأي العام أن ما يحدث مجرد مطالب اجتماعية حرّكها الفقر والجوع، في محاولة يائسة لإخماد حركة الجهاد وإفشالها وإسقاط الزخم عنها.
زالت القواعد العسكرية وبقيت القواعد الثقافية!
“يا معشر الجزائريين! إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ”، فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، إن الثورة قد تركت في جسم أمتكم ندوبًا لا تندمل إلا بعد عشرات السنين”. هذه كانت كلمات البشير الإبراهيمي التي خاطب بها الجزائريين يوم عاين وشاهد أن النفوذ الفرنسي لا يزال ضاربًا أطنابه في البلاد رغم خروجه منها ظاهريًا!
وكما ذكرنا آنفًا، عمل الاحتلال جاهدًا على تحقیق إدماج الجزائریین في البوتقة الفرنسیة عن طریق فرض لغته وثقافته ومنظومة قوانينه ومناهج تعليمه، بالموازاة مع محاربته دينهم ولغتهم وثقافتهم وطمس معالم هويتهم وتشويه تاريخهم ومقومات حضارتهم، وقد قضى المحتل 132 عامًا في سبيل تحقيق ذلك دون جدوى، فما كان منه إلا أن ارتضى بما دون ذلك، التبعية بكل أشكالها سياسيًا واقتصاديًا والأهم ثقافيًا ولغويًا! فعمد لزرع عملائه وتمكين أذرعه ومهّد لهم الطريق لاختراق صفوف المجاهدين والقوى السياسية في آخر السنوات. ويؤكد ذلك المؤرخ الفرنسي “أندري جوليان”:
إن فرنسا منذ 1958م لم تعد تقاتل من أجل منع استقلال الجزائر، بل لمنح الاستقلال لفئة تحافظ على مصالح فرنسا في الجزائر.
هذا التصريح على قساوته إلا أن واقع الحال والمآل في الجزائر يؤكده، وسنبيّن بعضًا من أوجهه:
في عددها الـ 23 الصادر يوم 24 ماي 1994م، نشرت صحيفة “الحقيقة” الجزائرية حوارًا بين الرئيس الأسبق “الشاذلي بن جديد”، والسفير السابق “عبد القادر حجار” رئيس اللجنة الوطنية للتعريب في عهد الرئيس “هواري بومدين”، وخلاصة حوارهما سؤال طرحه رئيس لجنة التعريب للرئيس: “لقد تم غلق قاعدة المرسى الكبير سنة 1968م وأنت قائد للناحية العسكرية الثانية بوهران، وتم غلق ثانوية ديكارت في العاصمة سنة 1988م وأنت رئيس للجمهورية، فأيهما كان القرار الأصعب؟”، فرد الرئيس الشاذلي: “قرار غلق الثانوية كان الأصعب!”.
ثانوية “ديكارت” هذه هي مؤسسة تربوية كانت تابعة عمليًا للسفارة الفرنسية التي كانت تموّلها وتصيغ مناهجها المخالفة للمناهج التعليمية الجزائرية! قبل أن تُؤمّم وتصبح خاضعة لمنظومة التربية الوطنية، ويطلق عليها اسم الشيخ المجاهد “أبي عمامة” رحمه الله، قائد حركة الجهاد في الجنوب الغربي. لم يكن هذا القرار ليمرّ على فرنسا مرور الكرام، فقد توالت التحرشات والضغوط التي توجت بزيارة رسمية لوزير خارجيتها شخصيًا “رولاند دوما” لكن دون جدوى، وبعد أشهر قليلة فقط اندلعت أحداث 5 أكتوبر 1988م بشكل مفاجئ، مخلفة سقوط عشرات الضحايا، مشهد وصفه الكثير من المتابعين آنذاك بأنه ردة فعل فرنسية تمت عبر أذرعها في الجزائر… وما أكثرها!
وبعد سنتين من سقوط “قاعدة ديكارت”، عيّن الرئيس الشاذلي رجلًا مشهودًا له بالنزاهة والكفاءة، اسمه “علي بن محمد” على رأس وزارة التربية والتعليم، وكان على رأس مهامه إصلاح ما يمكن إصلاحه في المنظومة التربوية الجزائرية، والأولوية لإعادة الاعتبار للّغة العربية الوطنية، وتقليص سطوة اللغة الفرنسية التي كانت مهيمنة على كل شيء باعتبارها “غنيمة حرب”، وكان قرار اعتماد اللغة الإنجليزية في الطور الابتدائي القطرة التي أفاضت كأس أذيال فرنسا ومن تشربوا قيمها، فهاجت الصحف وماجت الأقلام وغصّت الشوارع بأعداء الانتماء الحضاري للجزائر، بإيعاز من فرنسا التي دبرت مكيدة للوزير ونفذتها أذرعها في دواليب السلطة، تمثلت في تواطئها على تسريب مواضيع شهادة البكالوريا نكاية بالوزير الذي اضطر تحت الضغوط لتقديم استقالته.. فأجهض مشروعه الإصلاحي.
مرة أخرى، يعود برنامج التعريب الشامل الذي أقرّه البرلمان الجزائري مطلع التسعينات إلى الأضواء في 27 ديسمبر 1990م، ووقعه الرئيس في 16 يناير 1991م، وكان من المقرر أن يدخل حيز التنفيذ في 5 يوليو 1992م، لكن المتربصين بهوية الجزائر كانوا بالمرصاد مرة أخرى، فقبلها بأيام قليلة حدث الانقلاب العسكري الذي أطاح بالجبهة الإسلامية التي اكتسحت الانتخابات المحلية وكانت القوة السياسية الأولى في البلاد وقتئذ، وكانت ترفع شعارات إصلاحية إسلامية وتجاهر بالعداوة لباريس وتطالب بإنهاء الوصاية والهيمنة الفرنسية بتأييدها مشروع التعريب، ليُقطع الطريق مرة أخرى أمام استكمال المشروع الذي جمده الانقلابيون المدعومون فرنسيًا سنة 1992م!
بعد 4 سنوات قرر الرئيس “اليمين زروال” الذي اعتلى سدة الحكم في 1995م، إعادة بعث مشروع تعميم اللغة العربية في 21 ديسمبر 1996م، فتدخلت فرنسا من جديد وحركت جنرالاتها الذين سرعان ما أطاحوا بالرئيس زروال وأطيح بقانونه معه! قبل أن يشنوا حملات انتقامية ذات نزعة استئصالية حاقدة على كل ما يربط الجزائر بفضائها العربي الإسلامي.
بعد مجيء “عبد العزيز بوتفليقة”، طُويَ ملف التعريب بصفة نهائية، وهو الذي عزز نفوذ الفرنسية وأمدّها بأسباب البقاء والريادة وكرّس ثقافتها قولًا وعملًا، فكان لا يرْعوي عن مخاطبة شعبه بلغة “فولتير” في وسائل الإعلام المحلية والخطابات الرسمية، وكان أول ما بدأ به عهدته أن زار فرنسا شهر يونيو 2000م وألقى خطابه أمام البرلمان الفرنسي وباللغة الفرنسية طبعًا، وكأنها رسالة طمأنة وتجديد لعهود الطاعة والولاء! وفي سنته الثانية أعاد بوتفليقة الجزائر إلى مظلة المنظمة الفرانكفونية وذلك بمشاركته في قمة بيروت 2002م، وهي المنظمة التي هجرتها الجزائر منذ 1962م، إلا أنها عادت للمشاركة فيها بصفة دائمة بداية بملتقى بيروت.
ولم يَكْتَفِ بوتفليقة بذلك بل عمل على إضعاف وعرقلة مَجْمَع اللغة العربية الذي أصبح هيكلًا بلا روح ولا برامج ولا نشاط ولا أي أثر يذكر! وأطلق العنان للغة الفرنسية لتصبح لغة التعليم منذ السنة الثانية من الطور الابتدائي، واللغة المعتمدة في التخصصات العلمية والتقنية في الجامعات والكليات، ولغة الخطابات والمراسلات الإدارية. وكانت آخر لمسات بوتفليقة المعبرة عن تفانيه في خدمة المشروع التغريبي الفرنسي في الجزائر تعيينه للوزيرة “نورية بن غبريت” ذات الأصول اليهودية والمعروفة بتشرّبها الثقافة الفرانكفونية، والتي دعت لاعتماد “العامية” بدل اللغة العربية الفصحى في مراحل التدريس الأولى بذريعة صعوبتها على الأطفال! ثم استعانتها صراحة بلجنة خبراء فرنسيين لصياغة ما أسمته “بمناهج الجيل الثاني” في إطار “إصلاحات تربوية” مزعومة، قبل أن ينتفض الجزائريون ويتوقف هذا البرنامج الخبيث.. إلى حين!
أزمة المناهج، نكبة أخرى!
من المهم جدًا أن نضع الأمور في نطاقها ونسمي الأشياء بمسمياتها، لأننا ابتلينا في الجزائر بنخبة تُحسب على الثورة الجزائرية، لكنها عملت -ولا تزال- على إفراغ الثورة من مبادئها الشرعية وقيمها الإسلامية التي قامت على أساسها، خدمة لتوجهات سياسية وميول فكرية غربية الهوى، ورغم أن هذه النخبة تمثل عينة يسيرة لا تكاد تعتبر إلا أنها تمكنت من تمرير رؤيتها مستغلة تمتع أصحابها بقدر واسع من الثقافة أهّلهم ليكونوا في طليعة صناع القرار من سياسيين ورجال دولة.
وقد أثّرت هذه الأدلجة في صياغة تاريخ الجزائر وتدوينه وتقديمه للناشئة في المدارس، وشاهدنا كيف قلّل هؤلاء من أثر الحركة الإصلاحية الإسلامية التي اتهموها صراحة بالتخلف عن قطار الثورة ومعاداتها! وقرأنا الثورة الجزائرية قراءة جامدة لا روح فيها، إذ كان من لوازم تجاهل الإشارة لطبيعة الغزو الفرنسي الذي كان “حملة صليبية مكتملة الأركان”، أن يسقط النظير المكافئ ذا الدلالة الشرعية “الجهاد الإسلامي”، فهل تنبهتم الآن لخطورة التلاعب بالمصطلحات وإهمال تأصيل المسائل؟
هذا ما لم يغفل عنه الشهيد “عميروش” رحمه الله -أحد قادة الولاية الثالثة- الذي وبّخ أحد جنوده لمجرد أن أحلّ لفظ “المحاربين” محلّ “المجاهدين” في أحد بياناته، ورغم أنه زللٌ يسير إلا أن ذلك يدل على مدى حرص القائد على دلالة الألفاظ والمصطلحات المعبرة عن “إسلامية” الثورة، ووعيًا منه بأن المعركة معركة حضارية و”جهاد في سبيل الله”، لا كما أرادها البعض: ثورة شيوعية ماركسية ضد الإمبريالية! ودليل ذلك بیان الشیخين “البشیر الإبراھیمي” و”الفضيل الورتلاني” عقب إعلان الجهاد في الفاتح نوفمبر 1954م بيوم واحد، جاء فیه: “خفقت القلوب لذكرى الجھاد الذي لو قُسمت فرائضه لكان للجزائر منه حظان بالفرض والتعصیب، واھتزت النفوس طربًا لھذه البداية التي سیكون لھا ما بعدھا… اعلموا أن الجھاد للخلاص من ھذا الاستعباد قد أصبح الیوم واجبًا عامًا مقدسًا فرضه علیكم دينكم، وفرضته علیكم قومیتكم، وفرضته رجولتكم، وفرضه ظلم الاستعمار الغاشم الذي شملكم، ثم فرضته أخیرًا مصلحة بقائكم لأنكم الیوم أمام أمرين: إما حیاة أو موت، إما بقاء كريم أو فناء شريف”.
ويروي المجاهد “محمد الأحمر” في أحد شهاداته، أن أحد الضباط قدم لتفقد جنوده في الجنوب الغربي للبلاد، فسأله الضابط المراقب عن الشعار الذي يرفعه الجنود فقال: “لقد التحقوا بالثورة للجهاد في سبيل الله”. فقال الضابط المراقب: “بل علّمهم أن جهادهم في سبيل الوطن”. فما إن سمع بعض الجنود كلامه حتى ألقوا بأسلحتهم أرضًا وقالوا بحزم:
إما أن نقاتل العدو باسم الجهاد في سبيل الله، أو نرجع من حيث أتينا!.
وساق الكاتب “محمد زروال” في كتابه “اللمامشة في الثورة” شهادة تاريخية عن قيادة الجهاد بالأوراس (الولاية الأولى)، حيث كلفت القيادة أحد الضباط بصياغة بيان يبشر بإعلان الجهاد في إقليم الجنوب، فصاغه ذلك الضابط بلغة مشبعة بشعارات الثورية الشيوعية الاشتراكية، ووصف الثورة بالكفاح من أجل الطبقة الكادحة ومقاومة الإمبريالية، ولا عجب، فقد كانت تلك النغمة هي السائدة في منتصف القرن العشرين في دول “العالم الثالث”، فرفضت القيادة بيانه رفضًا قاطعًا وكلفت آخر بإعداد البيان، يقول المتحدث: “فما كان مني إلا أن ركزت في صوغه على الدعوة إلى الجهاد والشهادة في سبيل الله”، فنال استحسان القيادة وأمرت باعتماده ونشره.
المصادر
- جهاد الجزائر – د. أحمد بن نعمان.
- آثار عبد الحميد بن باديس – د. عمار الطالبي.
- آثار البشير الإبراهيمي – أحمد طالب الإبراهيمي.
- تاريخ الجزائر في القديم والحديث – مبارك بن محمد الميلي.
- أرشيف الفاتيكان السري حول غزو الجزائر – لورا فيشيا فاليري.
مقال رائع، تعيش الجزائر ويعيش شعبها البطل العظيم. انا فدا الجزائر.
اخوكم من الأردن …
بارك الله فيك وجعلها في ميزان حسناتك
مقال مفيد شكرا لكم.