الحروب الصليبية التاريخ الذي أصبحنا نعيش واقعه!
من الأحداث المتكررة المتتالية والمستمرة منذ قرون على المسلمين تقريبًا بنفس تفاصيلها هي غزوات الدول النصرانية على بلاد المسلمين، ما يُسمى بالحملات الصليبية، والتي انطلقت حملتها الأولى بإعلان البابا أوربان الثاني في كنيسة كليرمونت-فيراند بفرنسا عام 1095م الحرب المقدسة لتحرير فلسطين والقدس وقبر المسيح من قبضة الكفار والوثنيين. والمعني بالكفار والوثنيين هنا هم المسلمون.
فانطلقت أول الأفواج المنظمة من الجيوش النصرانية من أوروبا سنة 1096م لتدخل القدس وتحتلها في شهر يوليو سنة 1099م/492هـ ويستبيحها الغزاة الصليبيون لمدة عشرة أيام ذبحوا فيها ما قُدِّر بستين الى مائة ألف من سكان القدس. وتعاقبت بعدها وعلى مدى أكثر من مائة وخمسين سنة حملة صليبية تلو الأخرى، يحصي عددها بعض المؤرخين في ثمانية حملات رئيسية وإثنى عشرة حملة ثانوية أو صغيرة.
والمثير للانتباه أن هؤلاء الأوروبيون الصليبيون كانوا دولًا وشعوبًا منحطة متخلفة في كل المجالات: العلمية والاقتصادية والصناعية والثقافية والاجتماعية، في حين كان المسلمون يعيشون رقيا وازدهارا في كل هذه المجالات وكانوا الاقوى من ناحية المقومات المادية، ومع ذلك استطاعت الجيوش الصليبية الأوروبية قطع أكثر من أربعة ألف كيلومتر من أوروبا الغربية متوغلة في بلاد الاسلام وصولا الى القدس، وتقريبا بدون خط إمدادات متصل يمدهم بما يحتاجون إليه، فكانت مؤونتهم قليلة وجد محدودة حتى أنهم كادوا يهلكون جوعا إبَّان حصارهم لأنطاكيا من أكتوبر 1097م الى يونيو 1098م، وحققوا رغم كل هذا انتصارات كاسحة واحتلوا أراضي شاسعة من بلاد المسلمين ممتدة من الرُّها وأنطاكيا مرورا بالساحل الشامي واللبناني الى القدس وأجزاء من فلسطين.
أسباب الهزيمة
فما الذي أدى إلى انهزام المسلمين رغم قوتهم ورغم أنهم يقاتلون في بلدهم، وكانوا بشعوبهم يتفوقون عددا وعدة؟
يمكن تلخيص أهم أسباب انهزام المسلمين أمام الصليبيين في النقط التالية، وهي نفسها أسباب خنوع المسلمين اليوم وهزائمهم أمام الصليبيين الجدد واستسلامهم لغزوات الصليبيين الحديثة:
- انغماس المسلمين في الشهوات وتعلقهم بالحياة، وانتشار الفساد، وبذخ الأمراء والملوك وإسرافهم. بمعنى آخر ضعف العقيدة الإسلامية في نفوس الناس. وينقل ابن كثير بعض صور الفساد الذي انتشر في بلاد المسلمين قبيل الغزو الصليبي: [قام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مع الحنابلة في الإنكار على المفسدين، والذين يبيعون الخمور، وفي إبطال المؤاجرات وهن البغايا وكوتب السلطان في ذلك فجاءت كتبه بالإنكار](البداية والنهاية). فحقَّ على المسلمين قول الله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)}(الإسراء).
- وضعف العقيدة وحُبُّ الدنيا جعل المسلمين يفقدون روح القتال والصمود، فسيستسلمون بسهولة للعدو، وأصبح غرضهم البقاء على الحياة، كيفما كانت ذليلة {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}(التوبة).
- وضعف العقيدة الإسلامية أدى إلى حب السيادة بين الأمراء والملوك، وهذا أدى بدوره إلى تفرقة البلاد الإسلامية إلى إمارات متناحرة، هَمُّ كل أمير وملك الاحتفاظ بمركزه وسلطته والاستمتاع بالحظوة الاجتماعية، فقُبيل الغزو الصليبي كان العالم الإسلامي ممزق أشد تمزيق سياسيا، كان منقسما إلى عدة دويلات وإمارات، حتى كان أبناء المَلك الواحد يتناحرون فيما بينهم ويقتسمون البلاد ليستقل كل واحد منهم بِمُلك إمارة ودويلة. وأذكر أهم الإمارات والدويلات التي كانت تشكل العالم الإسلامي قُبيل الغزو الصليبي:
- دولة السلاجقة الكبرى تمتد على جنوب العراق وشمال إيران، وكانت تتحكم بالخلافة العباسية التي انحصر حكمها على بُقعٍ من العراق مع العاصمة بغداد! والسلاجقة هم أحد السلالات التركية من قبائل الغز (الأُغُور) الوثنية. ويعتبر سلجوق بن دقاق مؤسِّس نواة الدولة السلجوقية السُّنية بعد اعتناقه الإسلام، لكن محمد بن ميكائيل بن سلجوق، الملقب بركن الدين طغرل بك (وُلد 385هـ/995م – توفي 455 هـ/1063م)، يُعتبر أول ملوك الدولة السلجوقية. استجاب طغرل بك لطلب الخليفة العباسي القائم بأمر الله لإنقاذ الخلافة العباسية من البُوَيهيين الشيعة، فدخل بغداد سنة 447هـ/1055م وطرد منها آخر ملوك البُوَيْهيين وأصبحت بذلك الخلافة العباسية تحت حماية السلاجقة السنيين.
- بيت سلاجقة كرمان تسيطر على جنوب إيران وباكستان.
- سلاجقة عراق العجم وكردستان في شمال العراق.
- سلاجقة الشام، وكانوا منقسمين هم بدورهم إلى عدة إمارات منها: إمارة حلب تحت زعامة رضوان بن تتش، وإمارة دمشق تحت حكم دقاق بن تتش، وإمارة فلسطين تحت حكم سقمان وإيلغازي.
- سلاجقة الروم بآسيا الصغرى (الأناضول).
- الدولة العبيدية (الفاطمية) تحكم مصر، وهم على مذهب الشيعة الإسماعيلية. ومؤسس الدولة العُبيدية هو عبد الله بن حسين الملقب بِ “عُبيدالله المهدي” (وُلِدَ سنة 873م/259هـ، توفي 934م/322هـ). وتختلف الشيعة الإسماعيلية عن “الاثنا عشرية” في اعتبار الإسماعيليين إسماعيل، الابن الأكبر للإمام جعفر الصادق، هو الإمام السابع الذي يرث الإمامة والخلافة عن الرسول، بينما رأى الشيعة “الاثنا عشرية” أن وارث الإمامة هو ابن جعفر الصادق الأصغر “موسى الكاظم”.
- تونس وأطراف من الجزائر وليبيا كان يحكمها الزيريون.
- شمال أفريقيا والأندلس كان يحكمها المرابطون.
- وحُبُّ السلطة والتمسك بها دفع الأمراء والملوك المسلمين ليخذل بعضهم بعضا وليتواطؤوا مع الكفار ضد بعضهم البعض، فكثرت الخيانات!
- ومقابل ضعف عقيدة المسلمين وتعلقهم بالدنيا وبالتالي تفرقهم وخذلانهم لبعضهم البعض، استطاع الصليبيون الأوروبيون التوحد على عقيدة وهدف واضح: تحرير فلسطين والقدس وقبر المسيح من قبضة الكفار والوثنيين (ويقصدون بهم المسلمين).
- اتصاف الأوروبيين الغربيين بالصبر والنَّفَس الطويل، وأنهم لا ينسون الهزيمة، فتبقى في ذاكرتهم وتحرق قلوبهم حتى تحين الفرصة لإعادة الكَرَّة! فصدق فيهم وصف عَمْرٌو بن العاص لهم: “إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ”(صحيح مسلم).
الحروب الصليبية بين الأمس واليوم!
ومن يتدبر في أسباب انهزام المسلمين أمام الحملات الصليبية في العصور الوسطى، يجدها تشبه إلى حد كبير حالة المسلمين اليوم وسبب فشلهم وانهزامهم أمام الحملات الصليبية في عصرنا الحالي، فالمسلمون اليوم غارقون في الشهوات وحب الدنيا والركض وراء المال، وبلدانهم منقسمة إلى دويلات وإمارات متناحرة.
إلا أن الفرق بين حال المسلمين اليوم وحالهم أيام الحملات الصليبية الأولي، أن المسلمون في ذلك العهد، رغم خيانات بعض الأمراء، كانت لهم دائما بقايا محميات وإمارات غير خاضعة للصليبيين وغير متواطئة معهم، فكانت هناك دائما نقط ارتكاز وحمية للإسلام يجتمع حولها المسلمون من جديد ليعيدوا الكرة ويطردوا الأعداء، لكن دويلات وإمارات ومَمْلكات المسلمين اليوم تجدها كلها بدون استثناء تابعة سياسيا وولائيا للصليبيين تأتمر بأوامرهم وتحارب لصالحهم وتخون الإسلام والمسلمين، لا يُرجى من أيٍّ منها نصرة الإسلام والمسلمين.
ودعونا نقف فيما يلي على جانبٍ من أسباب انهزام المسلمين أمام الحملات الصليبية الأولي في العصور الوسطى، وهي الخيانات من بعض الأمراء والملوك المسلمين واستسلامهم السريع للصليبيين وتواطؤهم معهم ضد المخلصين من أهل الإسلام، لنرى تشابهها مع خيانات دويلات وأمراء المسلمين اليوم.
خيانة الدولة الشيعية العُبيدية
إبَّان حصار الصليبيين لأنطاكيا من أكتوبر 1097م إلى يونيو 1098م، رأى العبيديون (الفاطميّون) فرصتهم لإتمام خطتهم في القضاء على ما تبقى من الممالك والإمارات السُّنية في الشام، فبعثوا رسالة إلى الجيش الصليبي في يناير 1098م/491هـ، يعرضون عليه فيها التعاون معهم عسكريا وحماية حملتهم من جهة بلاد مصر ومن ثم يقتسم الصليبيون والعبيديون الشام فيما بينهم، فيأخذ الصليبيون أنطاكية ومدن الشمال، بينما يأخذ العبيديون بيت المقدس. وكما هو معتاد من الصليبين فإنهم يعطون وعود وعهود ويُمَنُّون خصومهم وأعدائهم حتى يستدرجوهم لخدمة مخططاتهم، ثم ما يلبتوا ينقلبون عليهم ويتنكرون لكل الوعود. وهكذا لما استطاع الصليبيون إسقاط أنطاكيا وارتفعت معناويتهم، وسقطت في المقابل معناويات المسلمين بسبب الاخبار المروعة التي وصلتهم من مذابح الصليبيين في أنطاكيا وبسبب غدر العبيديين وتواطؤهم مع الصليبيين، لم يراعي الصليبيون الاتفاق مع العبيديين، بل اكتسحوا المنطقة كلها ودخلوا القدس وجعلوها مملكة لهم.
ولعلنا نجد اليوم أوجه التشابه بين خيانة العبيديين أيام الحملات الصليبية في العصور الوسطى، وبين خيانة دولة الشيعة في إيران ولبنان اليوم، حيث تحالفوا مع الصليبيين في غزو العراق وسوريا واتفقوا معهم على القضاء على أهل السنة وتقسيم مناطق النفوذ في البلاد السُّنية التي يضعون عليها يدهم.
لكن يجب الإشارة هنا على أن الخيانة اليوم لم تصدر من القوى الشيعية فحسب، بل كذلك من دويلات سُنِّية، فنجد مثلا تركيا اتفقت مع الصليبين لمساعدتهم في احتواء ثورة الشام ومنع قيام خِلَافَة إسلامية، مقابل تمكين تركيا من السيطرة على جزء من الشمال السوري تمنع من خلاله قيام دولة كردية. وإذا كان الصليبيون في عصرنا هذا يَرَوْن في مصلحتهم أن يطلقوا العنان لنفوذ الشيعة المتطرفين على العراق والشام ولبنان واليمن (وستلي بلدان أخرى)، فإن الصليبيون اليوم يستغلون تركيا ثم يتنكرون لها.
فرغم وفاء القيادة التركية وللأسف في تنفيذ المطلوب منها في الشام على أتم وجه، لا يفي الصليبيون بوعودهم لتركيا، فيمدون المتطرفين الأكراد بالمال والسلاح والدعم السياسي. ومن السهل استشراف أنه بعد انتهاء دور تركيا في الشام، سيشن الأكراد المدعومين من الغرب حملة عسكرية في الشمال السوري ضد التواجد التركي، وحتى إن لم يستطع الأكراد إقامة دولة في سوريا على الحدود التركية، فإن دورهم سيبقى متمثلا في استنزاف تركيا وإشغالها وجعلها رهينة للمزيد من الابتزاز والضغط الغربي!
تخاذل وخيانة الأمراء السُّنِّيين
الخيانة لم تقتصر على الدولة العُبيدية، بل تخاذل أيضًا أمراء وملوك سُنِّيِّين عن نصرة المسلمين الذين غزاهم الصليبيون، فكان من أهم ما سَهَّل الاكتساح السريع لبلاد المسلمين من قِبَل الجيش الصليبي الضعيف مقارنة بقوة المسلمين، هو استفراده بقلعة وإمارة واحدة تلو الأخرى دون أن تتحرك الولايات المجاورة للنصرة! فشدة الحرص على الملك جعلت كل أمير ينأى بنفسه عن مؤازرة إمارة إسلامية تتعرض لغزو صليبي إما لأنه يرى في ذلك فرصة للتخلص من مناوئ له على الحكم، أو خوفا من أن يؤدي ذلك إلى الهزيمة وضياع الملك! وهكذا كان المسلمون يتفرجون كيف تُكتسح منطقة إسلامية وراء الأخرى ويُباد أهلها دون أن يتحركوا لنجدتهم ولا حتى مدهم بالمعونة من سلاح ومؤونة ورجال الخ.
بل تعدى الأمر من السلبية إلى التواطؤ مع الأعداء ضد المسلمين، ولنقف مع نموذجين من التخاذل والخيانة:
- رضوان بن تتش (توفي 507هـ/1113م)، أحدُ أبناء ألب أرسلان، كان ملكا على حلب. رضوان بن تتش كان مستعدا للتحالف مع الشيطان إن كان ذلك يحمي ملكه ويقضي على أعدائه ومناوئيه. فلما جاء رسول الأفضل شاهنشاه، وزير الخليفة العبيدي في مصر، إلى رضوان بن تتش بهدايا ورسالة تدعوه إلى طاعة المستعلي بالله، خليفة الدولة العُبيدية، وإقامة الدعوة له، ووعده في المقابل بأن يمده بالعساكر والأموال، استجاب رضوان للطلب وفتح المجال لأصحاب المذهب الإسماعيلي فظهروا في حلب وأصبحت لهم دار دعوة.
ولعلنا نرى في عصرنا الحالي صورة مشابهة لما فعل رضوان في زمانه، حيث تسمح عدد من البلدان الإسلامية، ومنها العربية، لإيران بنشر مذهبها الشيعي مقابل مصالح اقتصادية ومادية، أو استجابة لضغوطات الغرب الذي يسعى لنشر مذاهب في العالم الإسلامي تعينه على محاربة الإسلام السني وأهله!
ولكي يحمي رضوان بن تتش ملكه في حلب ويتجنب قتال الصليبيين، رضخ لشروط ملك أنطاكيا الصليبي تنكريد (طنكري) المذلة في معاهدة الصلح لسنة 496هـ /1102م والتي كان من بينها أن يقوم رضوان بتعليق جرس على قلعة حلب وأن يضع صليبا على منارة المسجد الجامع في حلب. وبعد احتجاجات قوية لأهل حلب ومشايخها، اضطر رضوان لمراجعة تنكريد ونجح في إقناعه بوضع الصليب أعلى بناية الكنيسة العظمى في حلب بدلا من المسجد.
ولما استنجد أهل حلب بالخليفة العباسي في بغداد، وأوعز السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه بتجهيز جيش يقوده أمير الموصل مودود بن التونتكين، وعمل مودود على تشكيل تحالف إسلامي لمواجهة الصليبيين، وقف رضوان بن تتش عقبة أمام هذا التحالف، ومنع أية اتصالات بين مودود وأهالي حلب و أغلق أبواب حلب أمام جيش التحالف الإسلامي وسجن أعيانها وشيوخها.
ولعل هذا التصرف من قِبَل رضوان بن تتش يشبه تصرفات بعض الفصائل في ثورة الشام اليوم التي تمتنع بكل قوة وبمختلف التبريرات الواهية عن التوحد مع الفصائل الثورية لتشكيل جبهة موحدة وتحت قيادة واحدة تقوى على مواجهة الحملة الصليبية-الرافضية-النصيرية!
- ومن الخيانات العظمى، ما قام به حاكم دمشق الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود (وُلد سنة 558هـ/1163م، توفي 577هـ/1181م)، حيث طلب المعونة من الصليبيين ضد نجم الدين أيوب (حاكم مصر)، مقابل أن يعطيهم قلعتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بدخول دمشق، وشراء السلاح منها متى أرادوا.
ولعل هذا يذكرنا بما تفعله بعض الفصائل الشامية اليوم، التي تستنصر بالكفار ضد فصائل مسلمة!
طعنات وغدر الباطنية
الباطنية أو الحشاشين فئة انشقت عن الشيعة الإسماعيلية، مؤسسها هو حسن الصباح (وُلِد 430ه/1037م، توفي 518ه/1124م). وقد استعان بهم رضوان بن تتش للقضاء على مناوئيه.
من بين الشخصيات الإسلامية المهمة التي اغتالها الباطنيون خلال خوض المسلمين حرب وجود شرسة ضد الصليبيين:
- قوام الدين بن علي الملقب بنظام الملك، أحد أشهر وزراء السلاجقة، كان وزيرا لألب أرسلان وابنه ملكشاه، تم اغتياله سنة 485هـ/1092م.
- البطل الموحد مودود بن التونتكين أمير الموصل وأحد السباقين لتوحيد الصفوف وتحريك الجهاد ضد الصليبيين، حيث حقق انتصارًا مهما على الصليبيين في معركة الصنبرة سنة 1113م/507هـ. اغتاله الباطنيون في دمشق سنة 507هـ/1113م عند خروجه من صلاة الجمعة.
- آق سنقر الحاجب أمير الموصل، كان من خيار الولاة، عُرف عنه حُسن الدّين وَحُبّ الجهاد، وكان من رواد المتصدين للصليبيين، اغتاله الباطنيون سنة 1126م/520هـ إبَّان أدائه صلاة الجمعة.
- عماد الدين زنكي (ابن الشهيد آق سنقر الحاجب) رائد الجهاد ضدَّ الوجود الصليبي بالشام ومدشن مسيرة الانتصارات ضده، استطاع استرجاع إمارة الرُّها من الصليبيين سنة 1144م/539هـ. اغتاله الباطنيون سنة 1146م/541هـ أثناء حصاره لقلعة جعبر.
- وحاول الباطنيون مرتين اغتيال صلاح الدين الأيوبي، لكن بائت المحاولتين بالفشل!
يمكن اعتبار الباطنية خوارج الشيعة، إذ يعتبرون كل المذاهب باطلة ما عدا مذهبهم، ولم يكونوا يعترفوا إلا بإمامهم، وكل من سوى جماعتهم وأميرهم مستباح الدم. فكانوا يترصدون أهم السياسيين والدعاة للإسلام والمشايخ، وخصوصا من أهل السُّنة، ويغتالونهم.
دور العلماء في الصحوة ضد الصليبيين
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (187)}(ال عمران)، العارف بأحكام الإسلام يحمل على عاتقه أمانة جد هامة عليه تبليغها، ومن أهم واجبات تلك الأمانة أن يتصدر العالِمُ والعارف بشرع الله صفوف المسلمين عند النوازل ليبين لهم الطريق الشرعي الذي يجب اتباعه ويرشدهم إلى الحق ويحثهم على الثبات عليه. فعند غزو الكفار لبلاد المسلمين أو تسلط صائل داخلي يستبيح دماء وأعراض المسلمين، يكون من واجب أهل العلم الشرعي أن يتصدروا صفوف المسلمين، ليس لتثبيط المسلمين وتخذيلهم ودفعهم للاستسلام للأعداء، بل لرفع همتهم وإحياء روح التضحية والجهاد في أنفسهم، ثم لترشيد الجهاد حتى يكون في سبيل الله لصد العدوان والتمكين لحكم الإسلام، دون غلو ولا تفريط!
وقد مَنَّ الله على أمة الإسلام إبَّان الحملات الصليبية بعلماء ربانيين كُثُر كانوا سباقين لتحمل المسؤولية وتأدية الأمانة، فتحركوا بكل قوة في بقاع الأرض، خطابةً وكتابةً وقتالاً، لتحميس الناس والأمراء على الجهاد. وسأكتفي بذكر البعض فقط من هؤلاء:
- أبو الفضل ابن الخشاب الذي تصدى لخيانات رضوان بن تتش، حاكم حلب، فأنكر عليه تقريبه للإسماعيليين وتمكينهم من الدعوة لمذهبهم في حلب، كما تصدى الشيخ ابن الخشاب لشروط معاهدة الصلح (496هـ /1102م) بين رضوان بن تتش وملك أنطاكيا الصليبي تنكريد والتي نصت على أن يقوم رضوان بتعليق جرس على قلعة حلب وأن يضع صليبا على منارة المسجد الجامع في حلب، فحرك الشيخ الناس ضد رضوان، مما اضطر الأخير لمراجعة تنكريد وإقناعه بوضع الصليب على بناية الكنيسة العظمى بدلا من المسجد!
وذهب ابن الخشاب في وفد من حلب إلى بغداد ليحرض الخليفة على تحريك الجيوش ضد الصليبيين، فخطب في جامع السلطان محمد وأخبرهم بما فعل الصليبيون بالمسلمين وبأنهم في طريقهم إلى حلب، فكان من تأثير ابن الخشاب أن أوعز السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه بتجهيز جيش يقوده أمير الموصل مودود بن التونتكين، وانطلق الجيش اتجاه حلب وحاصر إمارة الرُّها.
ولم يقتصر دور الشيخ ابن الخشاب في الخطابات الحماسية التحريضية، بل شارك كذلك في القتال كمعركة سرمدا (سنة 513هـ/1119م) التي انتصر فيها المسلمون على القوات الأنطاكية الصليبية.
تم اغتيال أبو الفضل ابن الخشاب بأمر من الصالح إسماعيل.
- ابو الحسن علي بن مسلم السلمي الدمشقي ألَّف “كتاب الجهاد” والقي خطبة نارية بعنوان “الغزو واجب”، بَيَّنَ فيها أن القعود عن ابتداء الغزو يؤدي إلى غزو الكفار لبلاد المسلمين، وبَيَّن أن الحملات الصليبية ممنهجة، حيث ربط بين الحملات الصليبية في الأندلس وصقيلية والشام.
- طاهر بن نصر الله بن جهبل نشر كتابا بعنوان “فضل الجهاد”!
المصادر
- الكامل في التاريخ لابن الأثير.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية لسهيل زكار.
- قصة الحروب الصليبية من البداية حتى عهد عماد الدين زنكي لراغب السرجاني.
- زبدة الحلب من تاريخ حلب لعمر بن أحمد أبو حفص.
- بغية الطلب في تاريخ حلب، لكمال الدين ابن العديم.
- الأيام الحاسمة في الحروب الصليبية لبسام العسلي.
- إسهامات أسرة بني الخشاب في الحياة السياسية في مدينة حلب ما بين القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي – القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي: مجلة كلية الأدب، العدد 98، عـبد الحسـن حنـون / سـلام علي مـزعـل / مهند عبد الرضا حمدان.
- دور العلماء المسلمین في المقاومة ضد الصلیبیین فى بلاد الشام (491- 690ھـ / 1098- 1291م)، لعبد الحمید جمال الفراني ورياض مصطفى أحمد شاهین.
- جدول بأسماء القادة والعلماء الذين اغتالهم الباطنيون.
بارك الله فيكم ونفع بكم و أكثر من امثالكم و أقر أعينكم برؤية ثمرة صنيعكم
رائع بارك الله فيكم