الأقصى وسنة الاستبدال
تحدثنا في المقال السابق الأقصى مفاهيم مغلوطة، عن حكم الهكسوس للأقصى ثم الفراعنة ثم الفلسطينيين وتوسعهم. ثم تحدثنا عن بني إسرائيل وأنهم -على عكس الفهم الخاطئ المنتشر بين الناس- كانوا مسلمين يعبدون الله الواحد قبل بعث موسى إليهم بسنين، فقد بُعث فيهم قبله الكثير من الأنبياء، بل هم أبناء نبيا الله يعقوب وإسحاق. ثم تحدثنا عن إرسال الله لنبيه موسى إلى بني إسرائيل ليُخرجهم من مصر ويفتحوا المسجد الأقصى حتى يُعبد الله وحده لا شريك له فيه. نستكمل في هذا المقال رحلتنا مع المسجد الأقصى وفتح بني إسرائيل له ثم توالي الفترات عليه حتى عاد كما كان بحاجة لفتح جديد.
فتح المسجد الأقصى
لما رفض فرعون أن يرسل بني إسرائيل مع موسى وحاربهم، نجّاهم الله منه وأغرق فرعون وجنوده. فقاد موسى بني إسرائيل حتى وصلوا لأبواب فلسطين. ويروي القرآن الكريم ما حدث في تلك الفترة بدقة، إذ قال لهم موسى: “يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم”. فما كان جوابهم إلا الرفض: “قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها” و”قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون”.
فعاقبهم الله بأن حرّمها عليهم وعاقبهم بالتشريد في الأرض: “فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض”، ليفنى هذا الجيل الذي رأى المعجزات وأيقن بها وأنجاه الله من بطش فرعون ومع ذلك رفض أمر الله له بأن يقاتل لتحرير الأرض المقدسة، حتى ظهر جيل جديد يستحق فتح القدس وإعادة التوحيد إليها من جديد.
مات نبي الله موسى خلال مرحلة التيه، وأعقبه نبي الله يوشع بن نون. وقد قاد يشوع بني إسرائيل وفتحوا جزءًا من فلسطين، ولكن لم يبلغوا القدس. ثم طلب بنو إسرائيل من نبيهم أن يدعو الله أن يبعث لهم ملكًا يقودهم لفتح القدس ودخول المسجد الأقصى: “ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله” فأحب أن يتأكد نبيهم من صدقهم في ذلك فسألهم: “قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا” فاستجاب الله لهم” وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا”.
فرفضوا أن يكون طالوت ملكهم واستكبروا عليه: “قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال”. فنهاهم نبيهم عن هذا وأوحى الله إليه: “إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة”. فلما جاءهم التابوت استسلموا لأمر الله وقبلوا بملكه عليهم، فحاربوا العمالقة (الفلسطينيين) في القدس وقتل (داوود)، وقد كان أحد الجنود، قائد العمالقة (جالوت). فدخل بنو إسرائيل القدس لأول مرة وأتى الله الحكم والنبوة لداوود ولابنه سليمان من بعده.
كانت فترة حكم نبي الله سليمان للقدس أزهى عصور الحكم، ويبين القرآن الكريم كيف أن الله قد أتى سليمان مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده وسخر له الجن والرياح، وكيف أن تلك الفترة شهدت طفرة في العمارة والتجارة. ومن أبرز أعماله أنه جدد بناء المسجد الأقصى وعمّره، كما أخبر رسول الله بذلك في حديثه عن نبي الله سليمان: “وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُمِ نْخَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”. وتقول الروايات أن المملكة بلغت أقصى اتساع لها في ذلك الوقت حتى شملت كلا من سيناء والعقبة وسوريا.
انحراف بني إسرائيل وعقاب الله لهم
لما مات نبي الله سليمان، اختلف بنو إسرائيل على من يتولى المُلك، فانقسمت المملكة لمملكتين: مملكة يهوذا في الجنوب نسبة إلى يهوذا الذي من نسله داوود وسليمان، وقد كانت تشمل القدس وبضعة كيلومترات حولها. ومملكة إسرائيل في الشمال. ثم ظهر الانحراف والضلال في بني إسرائيل ثانية واشتد، حتى أن أسفار العهد القديم تحدثت كثيرًا عن الانحرافات التي وقعوا فيها والفساد الذي انتشر في البلاد في عهدهم. حتى دخل الملك البابلي (نبوخذ نصر) القدس وأحرق المدينة والأقصى المبارك وفعل الأفاعيل ببني إسرائيل، حتى أنه ساقهم سبايا من القدس إلى العراق. والكثير من فصول التوراة قد كُتبت أثناء بقائهم خارج فلسطين في العراق.
ثم سقط البابليون أمام الفرس، وقد تبنى الفرس سياسة أكثر ليونة في حكمهم، فسمحوا لليهود الذين تم تهجيرهم من القدس بأن يعودوا إليها. إلا أن مجموعات قليلة فقط هي التي عادت وآثرت الأغلبية المكوث في العراق، بعد أن كيّفوا أنفسهم على الحياة هناك وأنشأوا لهم مجتمعًا، وتؤكد بعض الروايات أن من عاد للقدس أعاد بناء المسجد الأقصى، رغم عدم توافر أدلة أثرية على ذلك.
ثم غزا الإسكندر الأكبر المنطقة وسقطت القدس بيده، وسرعان ما تفككت الدولة اليونانية بعد موته وغزا الرومان المنطقة وسيطروا على القدس. وسمح الرومان لليهود بالبقاء في القدس وعبادة الله فيه، وعينوا على القدس حاكمًا شهيرًا يُدعى (هيرودوس). وقد اعتنق هيرودوس اليهودية وأعلن أن أباه يهوديًا وأمه رومانية، ولكن لم يتقبله اليهود بينهم لأنهم يستوجبون أن تكون الأم يهودية. وقد بنى هيرودس القلعة المشهورة التي ماتزال موجودة حتى الآن عند باب الخليل، ويطلق عليها اليهود خطئًا اسم قلعة داوود.
فأصبحت القدس تحت حكم الرومان إلا أن الأقصى مازال بنو إسرائيل موجودون فيه يعبدون الله فيه.
زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام
في فترة حكم الرومان للقدس زاد انحراف بني إسرائيل كثيرًا وبلغوا مرحلة من الانحراف لم يشهدوها من قبل، فقد أضاعوا الدين واتبعوا أحبارهم، ولم يقيموا شعائرهم، وحولوا المسجد الأقصى إلى سوق للبيع والشراء. وقد كان فيهم بيت مؤمن هو بيت “آل عمران”. ومن هذا البيت خرجت السيدة مريم وأختها، حيث وهبت امرأة عمران ما في بطنها لله وقد كانت مريم: “إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى. وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم”.
وقد تزوج أخت السيدة مريم نبي الله زكريا وأنجبا نبي الله يحيى. وقد ألقى الله كلمته للسيدة مريم فحملت وأنجبت نبي الله عيسى. فبعث الله بذلك أنبياؤه الثلاثة -زكريا وعيسى ويحيى- دفعة واحدة في نفس الفترة لبني إسرائيل، كأن الله ينذرهم للمرة الأخيرة ويحذرهم بالثلاث رسل معًا. فما كان من بني إسرائيل إلا أنهم رفضوا دعوة الرُسل الثلاثة وقتلوا زكريا ويحيى، وحاولوا قتل عيسى بن مريم ولكن الله أنجاه ورفعه إليه وحفظه عنده.
بنو إسرائيل فضّلهم الله على العالمين
تجدر الاشارة في هذا الموضع على مكانة بني إسرائيل وتفضيل الله لهم على العالمين، حيث أنعم الله عليهم بأن يكونوا من نسل أنبياء الله إسحاق ويعقوب، وكذلك خصّهم هم وحدهم بالرسالات دون باقي الأمم، وقد رأوا آيات وقدرة الله بأعينهم بداية من مبارزة موسى -عليه السلام- لسحرة فرعون وهزيمته لهم، ثم إرسال الضفادع والدم والقمل على المصريين عقابًا لهم على طاعتهم لفرعون وعدم تركهم لبني إسرائيل ليخرجوا مع موسى، مرورًا بعبادتهم العجل ومسامحة الله لهم، انتهاءً بالمائدة التي دعى المسيح أن ينزلها الله من السماء عليهم. فقد أكد الله هذا كله في القرآن الكريم وأكد أنه فضّلهم على سائر الأمم، فقال تعالى: “يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين”.
ورغم هذا التفضيل إلا أن لله سننًا كونية لا يحابي فيها أحدًا، فلما زاد انحرافهم عاقبهم الله بسنة الاستبدال، فاستبدلهم الله بقومًا آخرين لم يبعث فيهم رسولًا من قبل وهم العرب، فأخرج الله بذلك الرسالة منهم -عقابًا لهم- ووضعها في العرب في مكة حين بعث رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم.
وجعل أمته خير أمة، من غير بني إسرائيل، لكن هذه الخيرية لها شروط يجب أن تقوم بها الأمة وإلا عاقبها الله كما عاقب بني إسرائيل واستبدلها كما استبدلهم، يقول الله: “وإن تتولَّوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم”. وهذه الشروط هي أن تلتزم هذه الأمة بدينها وتقيمه وتدعو الناس كافة إلى الإسلام، وتجاهد أعداء الله الذين يحاربونه ولا يتكاسلوا عن ذلك، وكذلك أن يصون المسلمون أنفسهم ويُقوّمون مجتمعهم إذا طرأ عليه انحراف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: “كنتم خير أمة أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر”. وإن لم نفعل، نُستبدل كما استبدلوا. فسنن الله الكونية لا تحابي أحدًا.
وإن كان مفهوم السنن الكونية غير واضح، فالسنة الكونية هي القوانين التي تنطبق على الناس كلها، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، ولا تُحابي أحدًا. فهي قوانين كونية يخضع له الجميع، كل من يسير وفقًا لها أياً كان، فاز. وكل من خالفها، خاب وخسر.
خراب الأقصى وعودته تحت حكم المشركين وعدم توحيد الله فيه
وبعد قتلهم الأنبياء ومحاولة صلب المسيح، عاقب الله بني إسرائيل بالتشريد في الأرض وبضياع الأقصى منهم وبالاستبدال. إذ بدأت الاضطرابات تظهر في القدس، وحدثت ثورات منهم على الرومانيين فاشتعل الرومانيين غضبًا عليهم وأرسلوا لهم الجيوش، وكان أعظمهم الجيش الذي حاصر القدس سنة 70م، فاستباحوا المدينة ودمروا المسجد الأقصى وجعلوا القدس خرابًا، وكذلك أخرجوا بني إسرائيل منها وتركوا القدس أرضًا خاوية لا زرع فيها ولا بناء. واستمرت على ذلك حتى عام 135 ميلاديًا حيث عمرها الرومان وأنشأوا مدينة أخرى هناك أسموها (إيليا كابيتولينا)، ولكنهم لم يبنوا سورًا حتى حول المسجد الأقصى فتركوه أرضًا خاوية خارج حدود المدينة الجديدة.
بعد حوالي 300 سنة أعلن الإمبراطور الروماني “قسطنطين” وأمه اعتناقهما للنصرانية على مبادئ “بولس” -الذي تُنسب إليه النصرانية الحديثة، حيث أنه أكثر من حرّف فيها؛ فهو من قال بألوهية المسيح وأحلّ لحم الخنزير وغيّر الكثير من تعاليم المسيح- وانقسمت المملكة الرومانية لمملكتين: واحدة في الشرق وفيها الأرض المقدسة، وواحدة في الغرب.
فتحولت النصرانية إلى الديانة الرسمية في المملكة الشرقية، وزاد الرومان بغضًا لليهود؛ لأنهم في اعتقادهم أنهم صلبوا “عيسى بن مريم”. ولكنهم سمحوا لهم بمرور الوقت أن يزوروا القدس من آن لآخر مقابل رسوم معينة. دخل الفرس في معركة مع الروم عام 614 ميلاديًا، فتحالف اليهود مع الفرس وساعدوهم على دخول القدس وأقاموا المذابح في أهلها. وقد سجل المؤرخ النصراني “ستراتيجوس” لتلك الفترة في مخطوطاته حيث شهدها بنفسه، فذكر أن 70 ألفًا من أهلها تم قتلهم في ذلك اليوم.
وفي تلك الفترة، كان الله قد بعث رسوله “محمد بن عبدالله” –صلى الله عليه وسلم- في العرب، فأوحى الله له بأن الروم سيهزمون الفرس كما هزموهم: “ألم. غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين”. وبالفعل عام 624 قام الروم بهجوم شديد على الفرس واستعادوا القدس، حتى تم الصلح بينهما. فقام الروم بمعاقبة اليهود وطردوهم من القدس وحرمها “هرقل” عليهم ومنعهم من الإقامة في المدن القريبة منها حتى. وأعادوا بناء المدينة التي دُمرت في الحرب، ولكنهم أبقوا المسجد الأقصى أرضًا خالية خارج حدود المدينة وجعلوه مكبّا للنفايات إهانة لليهود.
بذلك عاد الأقصى كما كان قبل أن يفتحه الله على اليهود، عاد تحت حكم أناس لا يعبدون الله الواحد ويشركون به ويدعون معه من هو دونه. فأصبح بحاجة لفتح جديد يعيد التوحيد والإسلام إليه، ولكن هذه المرة ليس بني إسرائيل، لأن الله استبدلهم بقوم غيرهم، هذه المرة بالمسلمين الجُدد.
مقال عظيم جدا ، شكرا لكم .