طوفان الأقصى وإدراك اللحظة الفارقة
في تاريخ الشعوب والأمم لحظات فارقة يؤدي استغلالها لتوفير سنوات من العمل والجهد ويؤدي تفويتها بطبيعة الحال إلى الانتكاس والتراجع، وما زالت صرخة الشيخ حازم أبو اسماعيل -فك الله أسره-: «أوعوا اللحظة الفارقة تفلت منكم» تتردد في أذن من شهد انتكاسة الربيع العربي وتراجع التيار الإسلامي بعد أمل بالظفر والتمكين، وقد أدرك -من أدرك بعد فوات الأوان- معنى اللحظة الفارقة وأهمية استغلالها.
كان صباح السابع من أكتوبر الماضي إعلان حدث كبير بدأ بهجوم واسع من المجاهدين الفلسطينيين على المواقع الصهيونية والمستوطنات المحيطة بغزة في مشهد من العزة والبطولة لم يخطر في أحلام المتفائلين، هذا الحدث -أو الطوفان كما أسمته المقاومة- من نوعية الأحداث التي تغير كثيرا في ارتداداتها فيكون تاريخ الحدث فارقا زمنيا بين مرحلتين لما يترتب عليه من تغيرات على مستوى الفكر والوعي الجمعي لأطراف الصراع، ولما ينتج عن ردود الفعل التالية للحدث من تغيرات بنيوية على مستوى العلاقات السياسية وإعادة تشكيل التحالفات والسياسات المختلفة، وباختصار فإن معركة طوفان الأقصى ستدفع باتجاه خلق بيئة سياسية جديدة تشبه تلك التي تلت الثورة الايرانية عام 1979، أو أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
خلقت المعركة في تأثيرها الأولي حالة من الاهتمام والمتابعة التفصيلية للأحداث على مستوى العالم، وخلقت حالة من التعاطف والانحياز لدى جماهير الأمة بمختلف توجهاتها في صورة غير مسبوقة من الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ترافقت هذه الحالة مع تحشيد الحكومات الغربية لدعم الكيان واصطفاف هستيري من الإعلام الغربي لتشويه المقاومة في مشهد أسقط كل أقنعة الليبرالية والقيم الغربية.
وظهر التواطؤ العلني لأنظمة الخيانة التي تشارك في السعي للخلاص من مقاومة حماس ومن نموذج غزة الذي يهدد وجود هذه الأنظمة، وقد ظهرت صورة الخيانة بوضوح يلجم المدافعين عن الحكام ويوقظ من كان مخدوعا بهم، أكمل هذا الزلزالَ في الوعي الصمودُ البطولي لأهل غزة ومقاومتها فصوت الإيمان والرضا بقضاء الله الصادر من غزة على صفحات التواصل في العالم دفع الكثيرين للتساؤل عن مصدر هذا الإيمان، وتمتمات المجاهدين بآيات القرآن عند الرمي متوكلين على المولى فتحت سؤالا آخر عن نوعية التربية العقدية، وأعادت ضبط صورة البطل في الأذهان.
وإن كانت مشاهد الألم والدمار التي تدمي القلب وتفطر النفس حزنا وعجزا قد خفضت من الأمل عند البعض ودفعت بعض ضعاف النفوس إلى التشكيك في جدوى إقدام المقاومة على اقتحام مستوطنات الغلاف إلا أنها أكملت واقعية المشهد وأظهرت للأمة التكاليف المترتبة على الجهاد وعن حقيقة فاتورة الدم التي سندفعها في سبيل الوصول إلى التحرر الكامل.
تراجع بطبيعة الحال الاهتمام مع زوال تأثير الصدمة، ومع طول أمد الحرب وعاد كل أناس مقعدهم وعاد كل فرد إلى نشر محتواه السابق بعد تجمد التفاهة وسفاسف الأمور لعدة أيام، لكن المعركة ما زالت مستمرة في ميدان القتال وفي ميدان الفكر، وهناك فرصة تاريخية للبناء على لحظة الوعي الجمعي الناتجة عن المعركة؛ خاصة من خلال استثمار الحدث في تشكيل فكر الناشئة والفتية الذين يتبلور إدراكهم ووعيهم خلال هذا الوقت المهم من تاريخ الأمة. وعليه فإنه ليس السؤال الآن «ماذا حدث» ولكن السؤال الآن «ما العمل»؟
ربما تصعب الإجابة الكاملة عن سؤال ما العمل وربما تتعدد الرؤى في هذا الأمر، لكن لعلها تكون الخمس نقاط التالية إجابة تأسيسية على السؤال:
أولًا: الحفاظ على حالة الاهتمام
أهم ما يجب الحفاظ عليه هو هذا الاهتمام بالقضية الفلسطينية والأحداث المرافقة للمعركة لدى الجمهور والعامة وما ينتج عن هذا الاهتمام من أسئلة حول تاريخ الصراع وتفاصيل الأحداث، فطرح الأسئلة يؤدي إلى المزيد من رفع مستوى التثقيف حول قضية فلسطين وخطر التهويد على المسجد الأقصى، كما أن استمرار حالة التعبئة والحراك الميداني والشبكي يعطي فرصة أكبر لاستغلال الحالة والعمل على تشكيل الحركات والمشاريع الدعوية.
صحيح أن هذا الاهتمام ينقص ويزيد مع طبيعة العصر الحالي وكثرة الانشغالات والمواضيع وطبيعة وسائل التواصل المتغيرة ومتابعها الملول، وبالأصالة يتراجع الاهتمام والتأثر بسبب الطبيعة البشرية وتعوُّد الناس على المشاهد، لكن الفكرة تكمن في استغلال الشرارة لإشعال نارٍ أخرى؛ مثلا: استغلال الحالة في النشر التثقيفي العام حول القضية الفلسطينية أو عقد ندوات حول الخطر المحدق بالمسجد الأقصى أو في فتح دورات في العلم الشرعي وفقه الجهاد وغيرها من الأفكار التي يمكن أن تشكل جزءا من استثمار فعَّال للحالة.
ثانيًا: إحياء عقيدة الولاء والبراء
أول مكاسب هذا الاستقطاب الناتج عن المعركة هو إحياء عقيدة الولاء والبراء في نفوس شباب الأمة، وهنا يجب العمل على توجيه المواقف التضامنية على أساس ديني والنظر إلى التضامن مع غزة كما يجب؛ على أنه نصرة لإخوة العقيدة وليس تضامنا إنسانيا فحسب، وبالتالي معاداة دولة الكيان وداعميها من دول الغرب، ومِن ثم رفض الأفكار والعادات الغربية الغريبة علينا، كما يؤدي هذا الشعور بالولاء إلى تجاوز الوطنية والشعور العام بوجود معركة شاملة وضرورة استنهاض الهمم والعمل.
وهذه التعبئة العامة المصحوبة بالتثقيف تشكل خطوة هامة في إعادة بناء تيارات إسلامية شبابية تحمل هم قضايا الأمة عامة وتحمل هم نصرة الشرعية في بلدانها، وتخبرنا التجارب أن نزول الناس إلى المظاهرات لقضية لا تلبث أن تشكل حراكات وتسهل الحشد لمواجهة سياسات داخلية.
ثالثًا: تأثير عملي والبحث عن ثغر
إن أفضل وسيلة للاستفادة من المشاعر الناتجة عن التضامن والاهتمام خلال المعركة هي بتحويلها إلى عمل، وذلك لتحصيل ثمار حقيقية من الحالة من خلال استعادة التيار الإسلامي لحضوره في المجتمعات من خلال توجيه الطاقات إلى عمل كل فرد في مجاله وثغره المناسب والاستفادة من ذلك في نشر دور تحفيظ القرآن ومحاضرات العلم ومحاضن التربية والتثقيف العام لاستعادة الروح التنظيمية وتنشئة أجيال قادرة على مواجهة المعارك القادمة.
ومسألة البحث عن ثغر تجعل المسؤولية فردية على كل شخص، وتتطلب العمل بشكل جماعي أو فردي بحسب الفكرة والمكان الذي اختاره الشخص لنفسه نصرةً للدين، وهذا النوع من الاستثمار العملي يتطلب النزول إلى الميدان ولا يحقق الاستفادة منه أن تبقى الأفكار حبيسة الإنترنت.
رابعًا: إدراك حقيقة الصراع مع الأنظمة
التخاذل والوقوف مع العدو ديدن الأنظمة العربية، ولكن مشاركةَ الأنظمة في العدوان على غزة الواضحة هذه المرة للعامة والخاصة أكثر من أي مرة سابقة توفرُ على ناشري الوعي سنين من العمل؛ فليس هناك أكثر وضوحا من مشاركة مصر في الحصار وإدانة الإمارات للمقاومة وهروعها مع الأردن والسعودية إلى نجدة دولة الكيان بجسر بري، وإبداء سلطة عباس استعدادها لدخول غزة على ظهر دبابات العدو لحفظ أمنه بعد الحرب.
وعليه فإن التركيز على وظيفية الأنظمة من الأمور الهامة التي يجب الاعتناء بها خلال استثمار الوعي الحالي ليدرك الجيل الجديد أن أي مواجهة مع الأنظمة هي مواجهة مع النظام الدولي وأن طريق القدس يمر عبر العواصم العربية، وهذه فرصة حقيقية لمواجهة المداخلة وفضح حقيقة فكرهم وحقيقة الأنظمة التي يعملون لصالحها.
خامسًا: الثقافة العسكرية
انتشرت صورة الملثم بزيه العسكري يتلو البيانات العسكرية تحت النار وتعلق الكثير من الصغار والكبار بها، ومن بركات هذا المشهد انتشار الثقافة العسكرية بين جماهير الأمة التي تم تدجينها بشتى الوسائل، وأدى تداول أخبار ومقاطع المعركة إلى إدخال مصطلحات عسكرية إلى الأذهان ومعرفة عامة بأنواع الأسلحة وطبيعة المعركة غير المتكافئة بين الجيوش النظامية وحركات التحرر، وعلى مستوى آخر تعني الثقافة العسكرية الشعور بالجندية لدى جماهير الأمة بغض النظر عن الثغر الذي يقف عليه الشخص والشعور بأن الفرد جزء من معركة الأمة الكبيرة.
ومن جانب آخر يمكن استثمار هذا الأمر في نشر الخشونة وقيم الرجولة بين الجيل الناشئ في مواجهة التدجين الناتج عن الأفكار النسوية، ومواجهة التفاهة المنتشرة على الإنترنت بإشغال الفتية والشباب بتحصيل القوة البدنية وتحصيل المعرفة العسكرية.
وختاما إن هذه الحالة قد بعثت في حقيقة الأمر الأمل بصحوة إسلامية جديدة تزيل عوالق نكسة العقد المنصرم وتدفع إلى إعادة ترتيب الصفوف على أسس جديدة أكثر وضوحا خاصة مع ما خبرناه من عجزنا وتكبيلنا خلال المعركة، لكن هذا الأمل يبقى فرصة ولا تتحقق الاستفادة من الفرصة إلا بالعمل لتحويل مجرد الانشغال والانتباه إلى وعي عام يمكن البناء عليه.