من مؤتة إلى طوفان الأقصى: أثر العقيدة في الميدان
بتاريخ الخميس 23 من نوفمبر أعلن أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام عن توثيقهم استهداف 335 آلية عسكرية صهيونية منذ بدء التوغل البري استهدافا مباشرا وإخراجها عن الخدمة؛ منها 33 آلية في 72 ساعة الأخيرة، بمعدل آلية كل ساعتين تقريبًا! وهنا ينبثق التساؤل عن كيفية وأسباب صمود هؤلاء الثلة من المقاومين 50 يومًا من القصف العشوائي وشهر كامل منذ بدء الغزو البري، أنّى لهم هذا الثبات والإصرار في مواجهة العدوان؟
يجيبك التاريخ ببساطة؛ إنها العقيدة! فتاريخ هذه الأمة حافلٌ بالوقائع العجيبة التي تكاد لا تصدق، لولا أنها وُثِّقت ونُقلت لنا بالأسانيد الصحيحة، إن جهاد المسلمين عبر تاريخهم الطويل لم يكن معتمدًا في الأساس على قوة العدة والعتاد، ولا كانت الحشود العسكرية أولوية وضرورة للنصر، بل على العكس من ذلك نرى أن جُلَّ معارك الإسلام العظيمة التي غيرت مجرى التاريخ وأمالت الكفة لصالحه كان المسلمون فيها الفئة الأضعف في الميزان العسكري البحت، فكيف هذا؟ وما السر وراء الفتوحات العظيمة التي أنجزها قادتنا الأوائل حتى إنهم فتحوا نصف العالم تقريبًا في قرن من الزمن!
يتجلى لنا الجواب واضحًا في القرآن الكريم، دستور الأمة وبوصلتها في كل ميادين الحياة، فالمجاهدون يوقنون بقوله تعالى: {فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِیُبۡلِیَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مِنۡهُ بَلَاۤءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ (١٧) ذَ ٰلِكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَیۡدِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ (١٨)} [سُورَةُ الأَنفَال].
إن المؤمن الحق -وخاصة في ميدان القتال- يتجرد من اعتداد واعتماد سوى من توكله على ربه سبحانه، الذي وعد بالنصر للمؤمنين، وأخبر أن الفئة المؤمنة القليلة كثيرًا ما تغلب الجموع الكافرة الهائلة، قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةࣰ كَثِیرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٤٩] ونصوص الوحيين في تأكيد هذا المعنى كثيرة، وإن أحداث غزة الجارية الآن على ثراها الطيب لتذكرنا بموقعة هي من أعجب ما يكون، وذلك حين أرسل النبي عليه الصلاة والسلام، الصحابيَّ الحارث بن عمير الأزدي رسولًا يدعو للإسلام، فاعترضه شرحبيل بن عمرو الغساني -والي البلقاء الواقع تحت الحماية الرومانية- وأوثقه وضرب عنقه، فاشتد ذلك على النبي -صلى اللّه عليه وسلم- حين نقلت إليه الأخبار، فجهز جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع مثله قبل ذلك إلا في غزوة الخندق، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة -رضي اللّه عنه- وقال: ((إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة))، وعقد لهم لواءً أبيضَ، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وقد خرجت نساء المسلمين لتوديع أزواجهن وهن يقلنن: «ردكم الله إلينا صابرين» فرد عبد الله بن رواحة وقال: «أما أنا فلا ردني الله» فهل تتصور المعنى الذي خطر على قلب هذا البطل المقدام وهو يقول هذه الكلمة! لا بد أنها الشهادة.
تواترت الأحاديث بأن أهل الإيمان إذا ماتوا وكانوا في قبورهم تمنَّوا لو تقوم الساعةُ ليدخلهم ربهم الجنة ويرَوا ما وعدهم ربهم من النعيم المقيم، إلا صنفٌ من المؤمنين لا يتمنى ذلك، بل يطلب العكس تمامًا، أي واللّه! يودون لو عادوا إلى الدنيا فجاهدوا وقُتلوا ثم يعودون ليجاهدوا ويقتلوا مرات ومرات، لما يرون من شرف ومنزلة الشهادة في سبيل اللّه، وهذا ما ودّه نبينا المجاهد عليه صلوات اللّه وسلامه حين قال: ((والَّذي نَفسي بيدِهِ، لوَدِدْتُ أنِّي أُقتَلُ في سبيلِ اللَّهِ، ثمَّ أُحيا، ثمَّ أُقتَلُ، ثمَّ أُحيا، ثمَّ أُقتَلُ، ثمَّ أُحيا، ثمَّ أُقتَلُ)). والحديث متفق عليه، وكفى به شرفًا واللّه!
من هنا نفهم السبب وراء كلمة عبد اللّه بن رواحة، وكثير من المجاهدين حالهم مثل حاله، يتوقون للقاء العدو فيصيبون منه ويصيب منهم فينالون المنازل الرضية في الجنان العلية، فها نحن نرى ثلاثة آلاف مقاتل يواجهون مائتي ألف مقاتل من الروم، إنها «عملية انتحارية» بمفهوم اليوم! المؤمنون يمثلون 1.5% تقريبًا من جيش عدوهم، ولم يفُتُّ ذلك في عضدهم بل تقدموا لِساحِ الوغى، وخاضوا ملحمةً تواصلت يومين، وفي الثالث أخذ الراية زيدٌ وجعل يقاتل بضراوة ولم يزل يصول ويجول حتى شاط في رماح القوم وخر صريعًا، وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالًا منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعًا إياها حتى قتل، وروى البخاري عن نافع، أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعدّد به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في ظهره؛ أي أنه قتل مقبلًا غير مدبر، ولما قُتل جعفر أخذ الراية عبدُ الله بن رواحة، وتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، حتى حاد حيدة ثم قال:
أَقسَمتُ يا نَفسُ لَتَنزِلِنَّه
طائِعَةً أَوْ لا لَتُكرَهِنَّه
إِن أَجْلَبَ الناسُ وَشَدّوا الرَنَّة
ما لي أَراكِ تَكرَهينَ الجَنَّة
فطالَما قَد كُنتِ مُطمَئِنَّة
هَل أَنتِ إِلّا نُطفَةٌ في شَنَّه
جَعفَرُ ما أَطيَبَ ريحَ الجَنَّة
ثم حمل على القوم ونكّل بهم حتى لقى ربه شهيدًا، وبهذا استُشهد القادة الثلاثة الذين أمرّهم رسول اللّه، ولا غرْو أن يأخذ الراية سيف من سيوف اللّه، نعم هو خالد بن الوليد، ليتراجع بالجند عبر خطة محكمة قضت بانسحاب تكتيكي أرهب العدو ومنعه من اقتفاء آثارهم!
ولْنسِر بالزمن قليلًا ولْنقطع حدود الجغرافيا فنصلَ إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، وهي تتزين لاستقبال أبطال الإسلام من البربر والعرب، قد أعدوا العدة المتاحة لفتح تلك البقعة ونشر نور الإسلام فيها، والعجيب أن نجد عددهم أيضًا قليلًا جدًّا مقارنة بالقوط الغربيين، فالمسلمون صاروا 12 ألف مجاهد بعد إرسال الأمير موسى بن نصير مددًا من المغرب قوامه 5 آلاف، في مواجهة جيش عرمرم تتضارب تقديراته ما بين 40 إلى 180 ألف مقاتل كامل العتاد والسلاح، فعمَّ أسفر القتال؟ إن القتال الشرس لثمانية أيام متواصلات لم يسفر إلا عن نصر كاسح لعباد اللّه الموحدين واندحار القوط الظالمين، بل إن ملكهم المتغطرس (لذريق) لم يُدرَ مصيره إلى اليوم، مع ترجيح المؤرخين بأنه غرق في الوحل أثناء فراره! إنها العقيدة حين تتغلغل في النفوس، وليس كما روج بعض المؤرخين الغربيين بأن طارقًا أحرق السفن التي عبر بها جيشه ليفرضَ عليهم أمرًا واقعًا ويقطع عنهم كل أمل في الحياة إلا بالانتصار على القوط، يبررون بذلك هزيمة الجيش الكبير أمام بضعة آلاف من الموحدين الثابتين، فمقاييسهم في هذا الطرح مادية بحتة، لا تدرك قيم الشهادة والبسالة، ومعية اللّه لأهل جهاد عدوه ونصره لهم: {كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِیۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیٌّ عَزِیزࣱ} [سُورَةُ المُجَادلَةِ: ٢١] وليس الوعد بالنصر في معركة أو معركتين، أو جولة هنا أو هناك، بل هو وعد قديم متجدد بميراث الأمة الصالحة للأرض كافة، والدليل من قوله تعالى: {وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِی ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ ٱلصَّـٰلِحُونَ} [سُورَةُ الأَنبِيَاءِ: ١٠٥] ثم هذه الدعوى التي ادعوها من حرق السفن لا تثبت أمام النقد الموضوعي التاريخي، فالسفن لم يكن أغلبها للمسلمين أصلًا بل كانت ملك (يوليان) حاكم سبتة الذي عرض مساعدة الأمير طارق وجيشه في تلك الحرب، والخطبة الشهيرة التي نسبت لطارق -هذا القائد البربري العظيم- لا تناسب المقام بتاتًا، فأغلب الجيش بربري لا يتقن العربية العالية التي كتب بها النص، فحريٌّ بالأمير أن يستنهض هممهم بلغتهم الأقرب لمشاعرهم وتأثيرها فيهم أكيد، إلى غير ذلك من المآخذ التي تنسف تلك القصة كليًّا…
جيشٌ خرج بأمر اللّه، على نور من اللّه، يبتغي وجه اللّه والثواب الجزيل عنده، ليس بحاجة إلى أن تقطع سبل عودته أو تحرق سفنه، ذلك لأن التولي يوم الزحف، أي التراجع والفرار من أرض المعركة حين يحمى الوطيس، كبيرةٌ من الكبائر في شريعة المسلمين: {وَمَن یُوَلِّهِمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ دُبُرَهُۥۤ إِلَّا مُتَحَرِّفࣰا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَیِّزًا إِلَىٰ فِئَةࣲ فَقَدۡ بَاۤءَ بِغَضَبࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ} [سُورَةُ الأَنفَالِ: ١٦] فامتن اللّه عليهم وفتحوا الأندلس بآلاف معدودة فقط، وحين سقطت مدينة قرطبة وحدها كان فيها أكثر من مليون مسلم، فالعبرة في نوعية الرجال وليس في عددهم، ويرحمُ اللّه عمر حين سأل جلساءه أن يتمنوا فتمنَّوا ملْء بَيتٍ دنانير ودراهم يُنفقونها في سبيل الله، لكن عمر تمنى ملء البيت رجالًا من أمثال أبي عبيدة بن الجراح!
وفي الجزائر المسلمة، بلد ابن باديس البطل الإمام، التي جثم الفرنسيون على صدور أهلها 132 عامًا، لم يدب اليأس في قلوب أهلها، ولم يطبعوا مع عدوهم وقاتلهم، وما زادهم العدوان والطغيان إلا ثباتًا وصمودًا وإيمانًا بجدوى المقاومة المسلحة، التي هي من بديهيات الحقوق للشعوب المظلومة، وما سميت الجزائر بلدَ المليون شهيد إلا لِما قامت به ثورة التحرير الأخيرة التي اندحر على إثرها المحتل، لكن عدد شهداء القطر الجزائري أضعاف المليون بكثير، فكم من التضحيات قدمت مهرًا في سبيل تمهيد هذا الطريق، طريق الحرية والانعتاق من رقبة الغاصبين؟ ومن الطريق أن المقاومين اختاروا ليلة الأحد أول نوفمبر 1954 تاريخًا لانطلاق العمل المسلح، فهو يخضع لمعطيات تكتيكية وعسكرية، منها وجود عدد كبير من جنود وضباط جيش الاحتلال الفرنسي في عطلة نهاية الأسبوع يليها انشغالهم بالاحتفال بعيد مسيحي، وكانوا يرون ضرورة إدخال عامل المباغتة، وهذا يذكرنا تحديدًا بالسابع من أكتوبر وعملية طوفان الأقصى!
كانت بداية ثورة التحرير الجزائرية بمشاركة 1200 مجاهد في كل ربوع البلاد بحوزتهم 400 قطعة سلاح وبضعة قنابل تقليدية فقط! وكانت الهجمات تستهدف مراكز الدرك والثكنات العسكرية ومخازن الأسلحة ومصالح استراتيجية أخرى، بالإضافة إلى الممتلكات التي استحوذ عليها المحتلون، واستمرت الثورة بتفاصيلها الكثيرة سبع سنين أو يزيد بقليل، حتى كللت هذا الصبر وهذه التضحيات الجليلة بالاستقلال ونيل الحرية في عام 1962م، مصداقا لقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
ويا لها من لحظة عظيمة حين يدرك الثائر نُبل النهاية التي تنتظره بعد سنين من الجهاد والبذل فهما خياران لا ثالث لهما، يكررها الملثم أبو عبيدة على مسامعنا دائمًا، وهي كلمات الشهيد السوري عز الدين القسام: «وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد» وكلاهما حسنٌ: ﴿قُل هَل تَرَبَّصونَ بِنا إِلّا إِحدَى الحُسنَيَينِ وَنَحنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أَن يُصيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِن عِندِهِ أَو بِأَيدينا فَتَرَبَّصوا إِنّا مَعَكُم مُتَرَبِّصونَ﴾ [التوبة: 52] «أي: قل للمنافقين الذين يتربصون بكم الدوائر: أي شيء تربصون بنا؟ فإنكم لا تربصون بنا إلا أمرًا فيه غاية نفعنا، وهو إحدى الحسنيين، إما الظفر بالأعداء والنصر عليهم ونيل الثواب الأخروي والدنيوي. وإما الشهادة التي هي من أعلى درجات الخلق، وأرفع المنازل عند الله.
وأما تربصنا بكم -يا معشر المنافقين- فنحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، لا سبب لنا فيه، أو بأيدينا، بأن يسلطنا عليكم فنقتلكم. ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ بنا الخير ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ بكم الشر». تفسير السعدي.
وختامًا فإن شعبًا أبيًّا متجذرًا في أرضه كشعب فلسطين، آمن بأن الحقوق لا تُطلَب ولكنها تُنتزع انتزاعًا، وأن هذا العالم لا يحترم الضعيف وإنما يُقدّر القوة وأهلها، فهنيئًا لهذا الشعب المغوار تحرير الدفعة الأولى من الأسيرات يوم الجمعة 24/11، بعد أن جاهد أهل غزة ونزفوا الدماء كيما ينتزعون حريتهم من قبضة الصهاينة، وإن المحتلَّ -قبل غيره- يترقب وعد كتائب القسام بتبييض السجون وأن ينال كل أسرى فلسطين الحرية، واللّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
القصه جميله وتستحق أن الجميع يقراها ؛وحزينه ايضا ولقد فهمتها واستمتعت بقراءتها
وفهمت ما معنى كلمه القضيه الفلسطينيه
وشكراً جزيلا