مشروع الزواج في الإسلام.. الجزء الأول
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18]
نعم، لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة لا نستطيع لها حصرًا، ووجب علينا أن نشكر الله على هذه النعم العظيمة وأن لا نحزن إذا ما منعنا نعمة من النعم؛ فقد أعطانا بدلًا منها الكثير والكثير بلا حول منا ولا قوة، وإنما يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، وعلى الإنسان المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره وعطائه، وأن يحمده ويشكره سواء أعطى أم منع. ولنقف هنا على نعمة واحدة فقط من نعم الله عز وجل على البشرية جميعًا ألا وهي نعمة “الزواج”.
لقد خلق الله “سيدنا آدم” ومن ضلعه خلق له “حواء” كي تؤنسه، وهكذا هي فطرتنا التي خلقنا الله عليها أن يميل كل جنس منا إلى الجنس الاخر، وأن يشتهي الرجل المرأة ولا يسكن إلا إليها، وكذا المرأة لا تستقر حياتها إلا في كنف رجل يحتويها.
ولما خلقنا الله بهذه الغريزة فقد شرع الله لنا السبيل لإرضاء وإشباع هذه الغريزة على الوجه الذي يرضيه عنا، فشرع لنا الزواج وأرسل لنا الرسل ليعلمونا كيفية وشروط الزواج الذي سنه الله -عز وجل- لنا، وأنه إذا ما انحرف البشر عن الفطرة التي خلقهم الله عليها والالتزام بأوامره تحولوا إلى وحوش كاسرة تبطش بالضعيف -المرأة-، وتضيع حقوقها، وتظلم، وينتشر الفساد والزنا، وهذا ما كان سائدًا في الجاهلية قبل مجيء الإسلام. فكيف كان حال المجتمع وكيف كانوا غارقين في الشهوات والفساد والانحلال؟
الزواج في الجاهلية
لقد عرف المجتمع الجاهلي خمسة أنواع للزواج وهم:
- نكاح المقت: وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه بعد وفاة أبيه، وإن لم يرغب فيها الابن الأكبر تركها لأي من إخوته، بل كان له الحق في أن يزوجها ممن يشاء ويأخذ مهرها وصداقها لنفسه، بل إن شاء ألا يزوجها أبدًا لأي رجل فعل ذلك.
- نكاح المتعة: وهو نكاح إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة.
- نكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، فهو زواج بطريقة المبادلة بغير مهر.
- نكاح الاستبضاع: وفسرته عائشة -رضي الله عنها- بقولها: “كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه… وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع”.
- نكاح الرهط: وهو الذي فسرته عائشة -رضي الله عنها- بقولها: “ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها”.
ومن هذه الأنواع للنكاح يتضح لنا كيف كانت صورة المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، وبالطبع كيف يكون حال المجتمع المسلم إذا ما حاد وانحرف عن الإسلام فتطغى الشهوات الجنسية، وتحدث فوضى عارمة، وتغيب الأخلاق، وتظلم المرأة وتهدر حقوقها، وتكون بالنسبة للرجل كمثل السلعة له حق التصرف فيها كيفما شاء فلا حرية لها ولا كرامة ولا حقوق، وتختلط الأنساب نتيجة الزنى؛ فربما يتزوج الأخ أخته وهو لا يدري. فينشأ مجتمع مفكك غارق في وحل الفساد والشهوات. وإن معرفة الجاهلية وحياة الناس المتخبطة بعيدًا عن شرع الله مما يجعلك تدرك قيمة هذا الدين الذي بين يديك.
ولما كان غاية خلق الإنسان ابتداء هو: عبادة الله -عز وجل- بمعرفته سبحانه وعمارة الأرض وتزكية النفس، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً).
فإن مجتمعًا كهذا لا يصلح أبدًا للقيام بهذه المهمة، فكانت رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلم لإصلاح هذا المجتمع وإعادة الأخلاق إليه كما قال صلّى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وإرساء مبدأ العفاف حيث كان العفاف هو أول ثلاثة أشياء أمر بها النبي صلّى الله عليه وسلم في دعوته إلى الناس، كما قال أبو سفيان: “أمرنا بالصلاة والصدق والعفاف”، وكان الأمر بالعفاف في نص البيعة على الإسلام أيضًا: “بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا”.
ولأنه صلّى الله عليه وسلم يعلم أن الرجال هم طاقة الدعوة الإسلامية والقيام بالغاية التي خلقنا الله لها وهي عبادته وعمارة الأرض، وأن نقطة ضعف هذه الطاقة -الرجال- هم النساء؛ فإذا ما غيب العفاف واختلط الرجال بالنساء استنفذت طاقة الدعوة وضيعت الدعوة وعبادة الله؛ لذلك شدد النبي صلّى الله عليه وسلم في أمر العفاف حتى تستقيم الأمة وقال صلّى الله عليه وسلم: “ما تركت فتنة أضر على رجال أمتي من النساء”. لذلك حث على الزواج فقال: ”يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء” (رواه الجماعة).
ولاستمرار الدعوة إلى الله -عز وجل- وجب استمرار النسل من المسلمين لذلك قال صلّى الله عليه وسلم: “تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة”. وبهذا اتضح لنا حكمة الزواج وهي إنشاء مجتمع عفيف يحمل هم الدعوة إلى الله، ولا ينشغل بغيرها ويستمر التناسل في هذا المجتمع الذي بدوره استمرار لحمل رسالة الدعوة إلى الله.
ولكن كيف كان الزواج في الإسلام وما هي شروطه؟ وكيف كرم المرأة ورفع من قدرها وأعطاها من الحقوق مالم تعطه في أي مجتمع أو ديانة أخرى؟!
أولًا: الزواج في الإسلام
وصف الإسلام الزواج بالميثاق الغليظ وذلك للدلالة على أهميته وعظم هذه الرابطة التي تربط الرجل بامرأته، فالزواج: هو عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعًا غايته إنشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل. واشترط الإسلام إذن وليها وهو والدها أو أخوها أو قريبها من ناحية الأب في حالة عدم وجود أب أو أخ، أو من تختاره المرأة -في حالة عدم وجود هؤلاء-، وترى أنه يحرص على سعادتها ومصلحتها.
ويرى جمهور الفقهاء أنه لا يجوز للمرأة أن تزوِّج نفسها بدون إذن وليها، قال -صلّى الله عليه وسلم-: “لا نكاح إلا بولي”، ويشترط في الولي أن يكون رجلًا بالغًا عاقلًا مسلمًا، فلا يكون أنثى ولا صبيًا صغيرًا ولا مجنونًا ولا مشركًا.
شروط الإسلام في الزوجة
- أن تكون المرأة مسلمة أو كتابية -يهودية أو نصرانية- تؤمن بدينها، ولكن الإسلام يحثنا على اختيار المسلمة ذات الدين؛ لأنها ستكون أمًا مربية لأبنائك معينة لك على الخير والاستقامة، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم: “فاظفر بذات الدين تربت يداك”.
- أن تكون عفيفة محصنة، فيحرم الزواج من التي عرفت بالفحش والزنى، كما قال تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب).
- أن لا تكون من محارمه اللاتي يحرم عليه الزواج منهن على التأبيد، ولا يجمع في زواجه بين المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها.
شروط الإسلام في الزوج
يشترط أن يكون الزوج مسلمًا ويؤكد الإسلام على قبول الزوج إذا تحلى بصفتين:
- الاستقامة على الدين.
- وحسن الخلق.
قال صلّى الله عليه وسلم:
إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.
وهكذا اشترط الإسلام في زواج المرأة إذن وليها حتى يحفظ حقها وكرامتها، ولا تكون لعبة بيد ضعاف النفوس، فقد أوصى الإسلام ولي المرأة أن يتحرى الزوج الصالح لمن هي تحت ولايته، قال صلّى الله عليه وسلم: “من زوج كريمة من فاسق فقد قطع رحمها”. وقال: “النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته”.
وبالطبع فالرجال أعرف ببعضهم لأنهم يتعاملون معًا في التجارة أو البيع والشراء أو غير ذلك، وكذلك الرجل أعرف بطبائع الرجال عمومًا، فيسهل للرجل أن يميز الرجل الصالح من الطالح ومن يرضاه زوجًا لمن هو وليها ومن لا يرضاه.
ومن تكريم الإسلام للمرأة أن كفل لها المهر الذي تأخذه سواء قبل العقد أو بعده. وكان في أيام الجاهلية من حق أبيها، ومن رقي الإسلام أنه لم يحدد قدرًا معينًا للمهر، فالمهر ليس ثمنًا لشراء المرأة، وإنما المهر حق مفروض للمرأة، فرضته لها الشريعة؛ ليكون تعبيرًا عن رغبة الرجل فيها، ورمزًا لتكريمها وإعزازها أن أعطاها الحق في اختيار من تشاركه حياتها، ويكون أب لأبنائها وأن تكون راضية تمام الرضا به غير مكرهة.
بل ماذا أقول عن هذه العلاقة -الزواج- وتكريم المرأة فيها أن أوصى الله -عز وجل- الزوج بزوجه، وأن يعاملها بالمعروف ويحافظ عليها ولا يظلمها؛ لأنها نفسه. هو وهي خلقوا من نفس واحدة، يقول تعالى:
- (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ).
- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).
- (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
- (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).
فالحمد لله على نعمة الإسلام وعلى نعمة الزواج.