استعباد المرأة في المفهوم العلماني

شدد رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس على أن لباس البحر الإسلامي-المعروف بـ«البوركيني»-هو ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع مبني خصوصًا على استعباد المرأة، وشدد على ضرورة أن تدافع الجمهورية عن نفسها في مواجهة الاستفزازات

ومن جانبها، قالت وزيرة حقوق المرأة روسينول إن «البوركيني» رمز لمشروع سياسي معاد للتنوع ولتحرر المرأة [قناة الجزيرة: 18/8/2016م]

وكان عدد من رؤساء البلديات في فرنسا حظروا خلال الأسابيع الأخيرة ثوب السباحة المعروف بـ«البوركيني» والذي يغطي جميع الجسم بما فيه الرأس، وبغض النظر عن حكم البوركيني الشرعي، نمضي في مناقشة «نظرية استعباد المرأة في الفكر العلماني».

لقد اعتبر رئيس وزراء فرنسا-وكذلك معظم الناس في عموم الغرب-أن ستر المرأة لنفسها يعتبر «نظرية استعباد» وهذا التعبير كثيراً ما يستخدمه علمانيو العرب في بلادنا، فأي تشريع إسلامي أو مبدأ أخلاقي إسلامي يخص المرأة فإنهم ينظرون إليه من خلال نظرية «الاستعباد»!

ولأن موضوع التعليق كان حول «البوركيني» في مواجهة «البكيني» يحسن بنا أن نقول كلمة عن تاريخ البكيني.

تاريخ البكيني

كانت النساء في أوروبا قبل تصميم البكيني وانتشاره، تلبس في نزولها البحر كامل ملابسها، فلا يظهر غير شعرها، ويديها، وفي أحيان تلبس ملابس رياضية طويلة، بل وكان القانون الأسترالي يعاقب من ترتدي ملابس تلتصق بالجسد أثناء السباحة، حتى جاء مصمم فرنسي سنة 1946م وصمم «البكيني» وكان تصميماً فاضحًا-لا يختلف عن الملابس الداخلية في شيء-فلم تقبل حتى عارضات الأزياء المتحررات من ارتدائه خجلًا وحياءً! حتى وجد المصمم “عاهرة” تعمل في نادٍ للتعري، قبِلت بارتدائه وتسويقه.

وقالت ملكة جمال أميركا لعام 1948 م:

لا أقبل أن ترتدي الأميركيات البكيني، يمكن للفرنسيات ارتداءه إن أحببن لكن أرفض أن ترتديه فتيات بلدي

كما إن بعض الدول الأوربية وخاصة الكاثوليكية منها مثل إيطاليا والبرتغال وإسبانيا استصدرت-في الأربعينيات من القرن الماضي-أمرا بحظر البكيني. كما أنه وفي الخمسينيات من القرن الماضي لم ينجح البكيني في اقتحام الأسواق الأمريكية بقوة.

والسبب في اختيار المصمم لهذا الاسم ثقته بأن البكيني سيحدث ردة فعلٍ قويةٍ في العالم على غرار ردة الفعل التي رافقت التجارب النووية التي كانت تقام في جزيرة تسمى «بكيني».

انتشاره

ثم انتشر رويدًا عبر ارتداء المشاهير له في الأفلام والمسلسلات ثم انتشر عالميًا في خضم الحرب العلمانية على الدين والأخلاق.

إذن «البكيني» حتى 1946م كان يعتبر هو لباس العاهرات، الذي لا تجرؤ حتى المُنحلات على لباسه.

وبقوة العلمانية وانتشارها أصبح «البكيني» هو رمز للحرية والحضارة! وأصبح هو «المعيار» الذي يحدد هل المرأة متحررة أم مُستعبدة؟!

ثم.. ألا يمكن أن يأتي أحد من بعدهم يعتبر أن «البكيني» نفسه رمزًا لاستعباد المرأة، ومعادٍ للتنوع والتحرر! ويطالب بالعري التام كالحيوان تمامًا، ويعاقب المتجمدة المتزمتة التي ترتدي البكيني! فليس هناك من حدٍ للأهواء. وقد كان ذلك بالفعل وقام بعض الطلبة في جامعة أمريكية بمظاهرة تعرت فيها البنات اعتراضًا على وجوب تغطية حلمات الصدر، هذا إضافة إلى شواطئ التعري!!.

خطورة الفكر العلماني

وهذا هو الذي يهدف إليه الفكر العلماني بالعموم وهو فكر مادي دنيوي مدني «أي لا ديني» (Secular- Urban Earthly)، يريد أن يجعل السيادة للإنسان في تحديد الحلال والحرام والحق والباطل، وليس أي إنسان بل نوعية الإنسان الذي لا يقف في وجه الشهوات، ويُدنس الفطرة، ويحتقر الأخلاق، ويسخر من الدين.. الإنسان الذي يريد أن يَفجر أمامه. ومن هنا كان كُفر الفكر العلماني، وكفر الدعاة إليه على هذا النحو الذي يَعبد-في الحقيقة-الشيطان الذي يزين لهم الهوى، ويزين لهم أفعالهم، ويُريهم الحق باطلًا، والباطل حقًا!!

إن الفكر العلماني لا يريد فقط استعباد المرأة، بل يريد استعباد الإنسان كله، ويجعله في أسفل سافلين في صورة أحط من الحيوان.. والفكر العلماني هو الذي حوّل المرأة إلى سلعة وتجارة سواء في أعمال الدعارة أو التسويق عبر كشف جسدها، أو عرضها عبر نوافذ المحلات، وهو الذي استعبد الإنسان وجعله عبدًا ذليلًا لشهواته، وجعل المرأة مجرد سلعة أو آلة لإشباع حاجة الرجل، ولإطلاق سعار الجنس في كل مكان.

وهو الذي دمر الأسرة في الغرب، وصار الناس يبحثون عن الراحة الأسرية، والسكون الروحي فلا يجدون سوى سعار الجنس المحموم. فهو بالأساس فكر إلحادي، يهدف إلى انحلال الأخلاق، وعبودية الدنيا.

التعري طريق الإباحية

والتعري حتمًا سيؤدي إلى الإباحية، ومن يدعو إلى استثارة الرجل جنسيًا من كل طريق-كما هي طبيعته الفسيولوجية والنفسية-عن طريق هذا التعري، وفي نفس الوقت يدعوه إلى عدم الاستجابة لداعي الشهوة، أو تحريم ذلك.. هو جاهل ومتناقض، ولن يصمد أمام الاستثارة بهذا الشكل أي قوانين؛ ونرى حصيلة ذلك في الغرب من حالات التحرش والزنا والأطفال بلا أسر، والأرقام مفزعة ومخيفة تكاد تأتي على غالبية المجتمع! هذا هو الاستعباد الحقيقي..

الإسلام في مواجهة العلمانية

والدين الوحيد والثقافة الوحيدة والحضارة الوحيدة التي تقف في وجه العلمانية هو الإسلام.. ذلك لأنه يحمل فكرة مناقضة تماماً للعلمانية، فكرة تجعل السيادة لشرع الله وحده، والعبودية لله وحده.. وهذا أصل أصول هذا الدين. فالذي يُحدد الحلال والحرام هو الله، والذي يحدد الحق من الباطل هو الله.. فلا يترك هذا التحديد للإنسان، وهذا معنى الاستسلام لله وحده بلا شريك:

{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل : 116] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى : 21]

التحرير الحقيقي للمرأة في الإسلام

إن الإسلام جاء ليحرر الإنسان من العبودية لغيره من البشر والأهواء.. ويرد العبودية لله وحده، وجاء ليحرر المرأة من استعباد الرجل، ومن استغلال الرجل، وظلمه.. سواء أكان هذا الظلم بهدر حقوقها، أو كان هذا الظلم بتحويلها إلى مجرد أداة لتفريغ شهوته وقت الحاجة ثم يرحل عنها؛ فالله سبحانه خالق هذا الإنسان، قد كرّمه، وسخر له ما في السموات والأرض جميعًا منه، ليؤدي مهمة الخلافة-بالحق والعدل الرباني-على هذه الأرض.

فجاء الإسلام ليحرر الإنسان من سطوة الملوك والجبابرة والطغاة والطواغيت، وجاء كذلك ليحرر الإنسان من سطوة الأفكار الضالة المضلة، وجاء ليحرره من أهواء البشر، وهوى نفسه. إن العلمانية هي أحد صور التجسيد لقوله تعالى:

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان: 43]

على أن ما يهمنا في هذا المقال هو أن نعرض الإسلام في عزته وقوته وشموخه وريادته، واستعلاءه على مناهج البشر الوضعية، ونقول ثوابته بلا تلعثم ولا تردد، ولا مداهنة مع العلمانية.. فالصراع معها وجودي، فإما الإسلام وإما العلمانية، ولا يُلتفت في هذه الحالة إلى المحاولات التجميلية لـ «العلمانية المتدينة» أو غير المعادية للدين، أو التي تسمح بوجود الدين في حدود معينة، فهذه مجرد «دبلوماسية» أو «براجماتية».

أصل الفكر العلماني واحد

وهو سيادة الإنسان على تحديد الحق والباطل، واستبعاد الله سبحانه والدين من هذا الأمر، أو تلك التي ترى أن الحل الأمثل هو «حرية التعري» و«حرية الاحتشام» ونترك ذلك حسب الأهواء! بل للإسلام مبادئ وثوابت وحلال وحرام غير متروكة للأهواء، وليس للمسلم-ومن يعيش في دولة الإسلام-اختيار فيها. فمثلًا نقول كما قال رئيس وزراء فرنسا (لكن بثوابتنا نحن):

إن تعري المرأة-بأي صورة كانت سواء على الشواطئ أو غيرها-هو استعباد للمرأة، وهو مشروع سياسي لإفساد المجتمع، ونشر الانحلال والإباحية، ونُشدد على مواجهة الاستفزازات التي يقولها من يعادي المرأة، ويريدها أن تكون مجرد محلًا للشهوة والزينة لا بصفتها إنسانًا يجب أن يُحترم، ويجب النظر إليها نظرة إنسانية، قائمة على أسس إنسانية لا أسس شهوانية. وتعري المرأة هو في ذاته تعد على حرية الرجل الذي لا يريد مشاهدة ما يثير شهواته، ويعتبر التعري خدشًا لحياء المجتمع كله، وإفسادًا لجو الأسرة المقدس.. ونشدد على البلديات في كل بلادنا منع التعري سواء على الشواطئ أو غيرها، واتخاذ ما يلزم من إجراءات وقوانين للحفاظ على كرامة المرأة، وإعلام الزائرين لبلادنا بضرورة احترام ثوابت الإسلام وحضارته

السياحة والدخل القومي

وقد يقول قائل إن السياحة-وهي قائمة على التعري والخمور-تعد مصدرًا من مصادر الدخل القومي لدينا، فماذا نفعل؟

وإن كان السائل يغفل عن قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف : 96]

إلا أن جواب السؤال قد يرفع بعض الحرج: إن صناعة السياحة علم واسع، بعيدًا عن دجل الحكومات الفاسدة في بلادنا، والسياحة لا تقتصر كما يظن البعض على التعري والخمور والفجور، فالسياحة لها مجالات عدة. وقد برز مؤخراً مصطلح «السياحة الحلال» لمن شاء البحث عنه، وقامت مؤتمرات عديدة من أجله، ولتركيا وماليزيا تجربة رائدة في السياحة العائلية النظيفة، بعيدًا عن محرمات الإسلام.

والمسلمون ليسوا قلة، ومن يراجع أرقام السياحة الحلال، واهتمام كبرى الشركات السياحية والفندقية العالمية بهذا الموضوع في محاولة لجذب السائح المسلم، يعرف مدى القوة التي في أيدينا ونحن نغفل عنها.

وليس صحيحًا أن جميع السائحين من الغرب لا يريدون إلا التعري، فهذا مخالف للواقع وللفطرة، وصناعة السياحة مع احترام ثوابت الإسلام، وأخلاقه، ومبادئه.. أمر في غاية اليسر والواقعية والربح بإذن الله. ولكنه لا يكون-ولا غيره من الإصلاحات-إلا عندما تتحرر الأمة من الفكر العلماني جميعه، وتتحرر من الطغاة والطواغيت.. وتعيد بناء حضارتها على أسسها الإسلامية الصحيحة، وعلى هويتها الجامعة.

إن الصراع مع العلمانية قائم من قديم، ولكن المعركة الحاسمة لم تبدأ بعد، ولا بد أن نُعد أنفسنا فكريًا وروحيًا وسلوكيًا لهذه المعركة، ولا يغترن أحد بانتفاش باطل العلمانية، فما انتفشت هذا الانتفاش إلا بضعفنا نحن، وبهزيمتنا النفسية أمام قوة العلمانية.

إن المعركة تكون في البداية معركة «عقائد وأفكار» فإذا انتصرنا فيها، فالنصر المادي بعد ذلك هين بإذن الله.

راجع-إن شئت-مقال: التعري وعبادة الشيطان.

أحمد طه

كاتب ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى