حين يكون البلاء ميلادًا جديدًا (لقطات من مذكرات أسير حر)
في كتابه الذي اختار له عنوان (البلاء الشديد والميلاد الجديد) سجَّل فايز الكندري للتاريخ رحلته مع الأسر ظلمًا في ذلك المكان الذي ما إن يرد على ذهنك اسمه حتى تقفز إلى ذهنك خلفيةٌ سوداء قاتمة تحوي في داخلها ما لا تحب أن تسمع أو تتخيل.
تظنُّ في بداية رحلتك مع الكتاب أنك ستقرأ مأساة مضرَّجة بالدماء، سترى توحش الإنسان حين يستغني ويطغى، وأنك ستخرج أشدَّ نقمةً على أعداء الإنسان وأعداء الايمان كما يحدث لك حين تقرأ المترع بألوان من الظلم لا يكاد يتخيلها عقل البشر وتذهل منها الشياطين..
تظن أن شعور الاستعلاء بالحق الذي يمتلكك سيتهاوى تحت مطارق اليأس والهوان فيستحيل شعورًا بالذلَّة والصغار والرغبة في ثأر يعيد للمستضعف كرامته وأمنه. لكنك حين تقرأه تجد نفسك تخوض رياضًا وتشم رياحين وتترقَّى في مدارج الإيمان درجة بعد أخرى. قد تنقبض روحك حين تقرأ عن ظلمٍ تجاوز المدى ومكرٍ توعَّده الله بما يليق به من قدرة عادلة تحيل مكرهم إلى بوار.
لكنك ما إن يتهدَّدك شعور بالألم والغيظ، تعود فتجد صاحب النفق يمسك بيده المصباح لينير لك الدرب، يقول لك: لا تبتئس فما ابتأست أنا، بل أبشر بنور الله إذا سلمت له، وبالفهم عنه إذا تأملت في ملكوته وحكمته، أبشر بالرضا وباليقين يربط على قلبك الوجل التائه، يرقيك درجة درجة ويدفع اليأس مسافات بعيدة..
ستجد في الكتاب سنن التاريخ، بل وقصته كاملة، تجد العقيدة تشرح نفسها وتبين عن حقيقة الشهادة التي يعلنها، ستجد مدرسة في فقه النفوس تظهر من خلال وعي الأسير لذاته أولًا، ثم لغيره ممَّ جاورهم وصاحبوه في هذا البلاء، ولمَن وضعوه في هذا القبو، وللطلقاء في الخارج ممن وقعوا أسرى نفوسهم أو أسرى العالم المتوحش الذي يقودهم.
ستجد في الكتاب الألم الذي يذيب القلب، فذلك من أقدار هذا العالم، لكنك ستجد خفايا السياسة كأصْرح ما تكون لمن أراد أن يتعلم عنها دروسًا، كما ستجد خفايا النفس وما يمور فيها من فكر وخواطر وانطباعات تجد لها منزلًا رحبًا في تلك البيئة التي تعصرها عصرًا وتقلبها وتعيد تشكيلها على حسب ما تتحمل تلك النفس وتقبل.
النفس والبلاء
كان الكتاب تعبيرًا صادقًا موجزًا عن العنوان الذي حمل؛ ليس فقط قصة ابتلاء عمرها أربعة عشر عاما، بل هي قصة البلاء نفسه، كيف يكون ولم… وعن كيف تولد النفس الحرة من البلاء الشديد كما يصهَر المعدن الطيب ليخرج ذهبًا مصقولًا يأخذ بريقُه بالعيون.
لقد اختار صاحب التجربة أن يجعل من محنته مدرسة تُعلم مِن خلفه كما كانت له ميلادًا وخلاصًا مِن أسْر النفس وخمول الروح وشتات النفس في أودية مهلكة.
لم يكن صاحب التجربة على الضفة الأخرى، لم يكن لاهيًا ولا عابثًا، وكان يسير في طريق تضيء فيه النجوم لسالكيه، طريق العلم الذي يورث الخشية والعمل. لكنه مع ذلك كان مثل كثير من أبناء الأمة المنتمين لها، كان كغيره ممن قرأ وتعلم وحفظ المتون أو انتمى لحركة إسلامية ترفع شعارات النهوض واليقظة، شخص محب لدينه ووطنه وأمته.. لكن القلب لم يصل للاحتراق الذى ينير والضوء الذى يهدي.. كان مثلنا يعرف من المعاني الكثير، يحفظها ربما ويعلمها ويصوغها كأحسن ما يكون.. لكنه من خلال البلاء عاش تلك المعاني، عرف ما لم يعرفه الكثيرون ممن قرأوا وحفظوا، عرف أنَّ المعاني ليست كلمات تنمق وتحفظ، بل حياة تعاش ويبذل في سبيلها ما يملك الإنسان من وعاء جسدي وروح.
يحدثنا فايز عن القرآن، كيف عرف سره وكيف ترقى به مع كل شدة تنزِل به، وكل أمره في الأسر شدَّة وبلاء، لكنه كان يجد آياته تقف معه، وتخبره عن أسرارها كلما هبت عاصفة أو انفجر لغم من ألغام الحقد أو الألم أو الجراح المتمددة في أحشاء رفقاء الرحلة الثقيلة.
يرى الكاتب أن «للأسر سرًّا يكسر قيود الروح بأصفاد الجسد، سرًا لا يظهر إلا حين نجد الله، فإن وجدته وجدت نفسك به».
حين تنحصر أحداث حياتك بل والعالم من حولك في الجدران المطبقة عليك بلا رحمة، فإن المتأمل وحده من يخرج من أعماق الجب فائزًا لأنه اختلى بالنفس فخبر أمرها وزودها بوقود رحلته القادمة لتمده بلا انقطاع بما يبقيه. لقد نظر إلى مدرسة يوسف وتساءل ففهم منها أن السجن والتضييق محطة قد يختارها الله لبعض خلقه وإن كانوا من المصطفيْن عنده ليصنعهم على عينه، لينشئ بهم حياة أخرى لأنفسهم ولأمتهم، يربيهم الله على مهل ليدفع بهم حين يشاء فيكونوا قدر الله الذي لا يرد.
ولقد يظن بعض الناس ممن لم يخبروا الإيمان ولم يستوعبوا آثاره في القلب والنفس أن أهل البلاء الشديد إنما يتحولون لأنقاض بشر، وأنهم سيعانون ولا بد من آثار مدمرة للنفس والروح، وأنهم إما ناقمون أو خانعون مذللون.
ولقد قرأت فيما سبق مَن يصف كتاب أفراح الروح بأنه كلمات يائس متعجِّل للخلاص، وذلك لعمرى أبعد ما يكون عن فهم نفسية المؤمن المجاهد المتشوق للقاء ربه، ذلك المجاهد الذي لم يضغط على زناد ولم يقف على جبهة، كان ينازل نفسه ويأطُرُها على الحق، يدفع بها لتقول كلمة حق يومًا وتقف في صف مظلوم يومًا، وتقبل على الحياة إذا انتفت أسْبابها ايمانًا بخالقها ومُودِع الروح فيها.
وإن الكاتب ليبين عما في نفسيِّة الأسير من رقة وحب وانجذاب إلى روح الحياة الحرة قائلا: «ما المانع أن يمدح المعذب رغم الألم، وينتزع الابتسامة من مخالب الحزن والكآبة؟ ما المانع أن يكافح المؤمن وهو يضحك ويقاوم وهو سعيد ويطالب بالعدالة دون أن يشكو السلاسل في يديه وعنقه».
مع الآخرين
حين فهم الأسير أن حريته تكمن في تواصله الأول والدائم مع مَن سوَّاه وفطره، عرف كيف يتواصل مع نفسه، يروِّضها، يراقبها، يمسح عنها الآلام، يأخذ بيدها لعالم متسع مهجور، لا يلِجه إلا أصحاب اللياقات الإيمانية، الذين اتسعت مداركهم لتعلم أين تجد راحتها وسلواها.
لم يكن تأثير التواصل مع كلمات الله والاستمداد منها قاصرًا على دفع النفس تلك الدفعة البعيدة فحسب، بل امتدت لتقذف في القلب بصيرة إيمانية يدرك بها صاحبها ما خلف السطور والكلمات والتصريحات، بصيرة يتعلم بها الأسير الحر كيف يرى الآخر وكيف يتعامل معه بما لا يفقده عزته ولا يسقط حقَّه.
تقرأ دفاعاته وردودَه ورؤيته للأحداث التي تمرُّ به فتجد أثر المتدبِّر الذي لا تخدعه الصور ولا تسقطه مهزومًا كلماتُ الشفقة، بل يراوح بين حق يطلبه إذا واتت الفرصة وبين رأى يعرِضه إذا توفر المجال وبين رد قوي مسدد يلجم به المهاجم المتكبر.
وبينما ترتسم الصورة في الذهن من خلال ما تعرضه كلمات الله وأقداره، فإن النفس التي يعمل فيها القرآن ويصوغها التدريب المضني على التمسك بميزانه، قادرة على أن تتوسط في الحكم على الناس، فلا تراهم جميعًا تلك الذئاب الضارية لا تتورَّع عن نهش فريستها بالمكر والدهاء حينًا وبالهجوم المتوحش حينًا، بل تستطيع أن تلمح ذلك الطيف الإنساني في قلة من الجنود أو المحامين أو المحققين ممن غُلبوا على أمرهم فلا يبخس حقهم في الذكر ويقدر معروفهم وإن لم يغير من واقعه ولا واقع أصحابه شيئا.
تلك الرؤية المتوازنة كانت حاضرة أيضًا في فهم قضية إخْوانه الذين تأسست من أجلهم قلعة الموت البطيء، لقد فهم شعورهم الذي دفعهم إلى أن يدفعوا بأنفسهم في خضم الموت ويجتازوا عقباته الوعرة واحدة تلو أخرى.
لقد جعلته التجربة الحية يدرك أن قضيتهم في جوهرها أنهم عاشوا قضايا أمتهم بقلوبهم لا بالأفكار والنظريات والخطط الواضحة، فكان يقدر مشاعرهم وإن اختلف مع نظرتهم وطريقتهم، لقد سمع من الجميع، وقدَّر اختلافهم وعبر عما يرجوه من صلاح الأحوال بأن تكون الأمة بمجموعها على وعي، وأن يكون عملها واحدًا متسعا كالثوب العامر ينسج منه كل فريق طرفًا حتى يكتمل النسج وتستوي الرقعة قائمة.
شبهات وردود
يغرق عالَمنا الآن في موج متلاطم من الشبهات والمفاهيم المغلوطة والشكوك التي تزعزع الإيمان الموروث وتجعله في مهب الريح. وإن من أعظم شبهات اليوم التي يلقيها المؤمن والكافر على حد سواء، هي ذلك الشر الرهيب الذي تكاد تنفطر منه السماوات والأرض، يسأل المؤمن لماذا لا ينتصر الله لنا ويسأل الكافر كيف يكون الله موجودا ويترك الشر على هذا النحو..
وإن تعجب لشيء فاعْجب لهذا الدين العظيم كيف يربِّي أتباعه ولكلمات الله الحية تأخذ بيد القلوب حتى تزيح عنها كل ظلمة وتجلو عنها كل يأس، أيكون أكثر الناس اطْمئنانًا وايمانًا وقدرة على دحْض الشبهة من هو ملقًى في قاع الحب لا تسمع له حسًّا؟ هذا المستسلم لقدر الله المتأمِّل لحكمته ينتفض بكل أنَفة ليبلغ عن ربه ويجيب من كتاب ربه ما يدحض به شبهات الماكرين والمعاندين.
لقد غرَّ المحققَّ العسكري جهلُه وراح يلقي بشبهته الأثيرة على الأسرى المعذبين يظنها بغروره سيفًا يجتث به إيمانهم، فلما حان دور صاحبنا، هزأ بسيفه وأطاح به في وجه غروره.
تحدث فايز أولًا عن الإله الذي غمر الكون بجمالٍ وإحسان تنعم فيه الخلائق كلها ثم لا يعمي عنه إلا من غشاه ظلام الكبر فزعم أنه لا يرى الشمس لأنه لم تعجبه أنوارها. ثم أفاض في وصفٍ بديع للألم الذي قدره الله ليستخرج به عبودية الإنابة إليه وتذكر نعمه، ليكون وقودًا للنفس الحرة القوية وللفكرة الواعية والعمل المبهر.
أما تلك الشرور التي تغصُّ بها الأرض فما هي إلا خيارات الإنسان الذي حُمل الأمانة فما تحملها، فمضى عابثًا طاغيًا يثقل الأرض برجسه ثم يتساءل مستنكرًا، كيف يتركني الإله معاندًا! لقد رسم له الصورة كاملة حتى لم يبق لصاحب البهتان مخرجًا، تمامًا كما تعلمنا مدرسة القرآن الذي يبين الحجة حتى لا يكون للناس على الله حجة إلا من ظلم وأسرف على نفسه.
ولا ريب أن العيش في رحاب آيات الله وبناء النفس الحرة الأبية من خلالها أمر لم يختبره وحده صاحبُ الكتاب، بل يجدها كل متدبر واعٍ يسعى جهده لتلقي ما فيه من أنوار وهدايات، وإنما تجلت آثاره هنا واضحة، لأنها تولدت من رحم مخاض أليم يكاد يفتك بالنفس ويلقي بها فريسة للموت رغم بقاء أنفاس الحياة.
إن هذا الكتاب الذي خطه قلم الأديب وجرت فيه الأنفاس الحرَّى فجعلت منه نهرًا عذبًا رائقًا سيالًا بالمعاني لحرِيٌّ أن تقتبس منه الفكرة السديدة والمنهج الواضح المتوازن، والقلب السليم الذى يعرف ما له وما عليه، وإنه لجدير بالدراسة والبحث والعودة إليه مرة بعد أخرى.
وأكاد أستنبط أن من الحكم التي قد تكون خلف ذلك الأسر أن يظهر مثل هذا الكتاب ليكون سفرًا للعالمين، وتاريخًا تعرفه شعوب الأرض وأممها عما جرى ويجري حين يغيب نور الله ويتسيد من لا يعرفونه ربا. ليكون شاهدًا على حفظ الله لدينه برجال تصهرهم المحن وتعيد صياغتهم، وعلى مكر يُكاد بالليل والنهار لتنتزع جذور هذا الدين كي لا تنبت في الأرض براعمه من جديد، ويأبى الله إلا أن يبطل ذلك.
وأخيرًا ليأخذ حملة هذا الدين دروسًا تترى من التجارب الحقيقية التي تمنح رؤية صادقة وافية لا يتخللها زيف اللقاءات المغلقة ولا الأقوال المجتزئة، ولا وهْم التوافق أو المصالح المشتركة، فجزى الله صاحب الكلمات خيرًا عما قدم، ونسأل الله له العفو والثبات وأن يجعل محنته التي منحته ميلادًا جديدًا تاجًا يلقى بها ربه راضيًا مرضيًا.
لقد وقعت في الخطأ الذي وقعتم فيه منذ عامين ونشرت رابط الكتاب المذهل ووصفته بأنه التطبيق العملي لكتاب في سلال القرآن،ولقد تغاضيت عن حقوق النشر لأن الكتاب المبهر لا يمكن أن يسمح له بالنشر في بلادي،ولقد اخترت أهون الضرين، لكنني أنصح كل من يستطيع شراء الكتاب أن يشتريه، وليت الرائع الشيخ فايز الكندري يتيح نسخة اليكترونية للبيع على الانترنت، كي لا يضطر القارئ لنسخه دون حق، في كتب كثيرة يمكن أن تصفها بأنها كتاب العام، لكن هذا الكتاب كتاب القرن