يوسف من ضيق السجن إلى آفاق السماء

ما أكثر ما كُتب في تدبر كتاب الله تعالى، وما أكثر ما كتب في تدبر سورة يوسف تدبرًا مقاصِديًّا، ولا ريب أن التفسير المقاصدي يختلف من عالِمٍ لآخر حسب طرق اشتغال كل عالم ومقدارِ تبحره ونبوغه في علم دون غيره، وعلى الرغم من كل هذه البحوث العلمية الزَّاخرة، لا تزال معاني وخواطر هذه السورة القرآنية تنضب بدررها ومكنوناتها كلما دعت الحاجة لذلك. فإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية، «يطالع على الآية الواحدة مائة تفسير، ثم يسأل الله الفهم قائلًا: «يا معلم آدم وإبراهيم علمني»، فيفتح له بتفسير جديد» لم يقع عليه غيره، فكيف لا نطمع في استخراج مقاصد وحكم ربانية من مِشكاة هذا الوحي الذي  تغيب عنا أكثرُ معانيه.

وشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الباعث الذي عنَّ لي في إنجاز هذا البحث طلب الوقوف على مقاصد هذه السورة من خلال شخصية يوسف عليه السلام، وبعد أن كان الداعي في الوقف على مقاصد سورة يوسف باعثًا ذاتيًّا مستقلا، صار باعثه تعليميًا بحثيًا… فكان هذا ضميمةً للكشف عن كنانته بعد جرْدِ وتدبرِ كلام العلماء والبحث في مقالاتهم وكتبهم، وليس المقصود هنا الخوض في استخْراج دقائق المقاصد من هذه السورة الكريمة، إنما القصد محاولة استفراغ الجهد على قدر طاقتنا ومستوانا العلمي، فبسم الله نبدأ وعلى الله نستعين.

لا يخفى على المسلم البسيط فضل السورة في التخفيف من حدة الآلام والأحزان التي همت بالرسول صلى الله عليه وسلم عند موت عمِّه وزوجه خديجة، تلك الشِدَّة والوحشة التي هانت عندما كانت تُتلى عليه صلى الله عليه وسلم قصَّة سيدنا يوسف عليه السلام الذي انتقل من وحشة وظلمة البئر ومن مكْر الإخوة وظلمهم إلى العيش في قصر العزيز، حتى أضحى عزيز مصرَ ومالك خزائنها. يُروى عن خالد بن معدان أنَّ«سورة يوسف وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنة في الجنة» ، ولا يخفى على القارئ أن ما يتفكه به أهل الجنة في الجنة لا تدركه عقول ذوي الأبصار إذ إن ذلك مما غُيب عن بني الإنسان في حياتهم الدنيا، ولا عجب أن يقول فيها ابن عطاء «لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها» فكيف حال من تدبر معانيها؟

فلنستحضر إذًا المباحث التي سيجاب عنها في طيَّات هذا البحث إن شاء الله تعالى، وفق الخطة التالية:

  1. المحنة تصنع العظماء.
  2. من رحِم السجن يهبُك الحرية.
  3. في اللحظة التي تنكشف الحقيقة.

المحنة بوابة لصنع العظماء

ثمة شيءٌ ما كوني في سير حياة الأنبياء لا يمكن للمتأمل في قصصهم أن يغفل عنه، ولعل حقيقته تكمن في الولادة بين رحم الألم والحزن على فقد الوالدين أو عيش الطفولة الفطرية التي يحتاج الطفل فيها إلى رعاية الأم وحرْص الأب، بعيدًا عن كنف الأسرة وسكن روحها ورحمتها، وشواهد يتم الأنبياء عليهم السلام سطَّرها القرآن الكريم بداية بموسى عليه السلام الذي تربَّى يتيما في بيتٍ يحكمه الظلم والاستبداد، بعيدًا عن أمه وأهل بيته، مرورًا بعيسى عليه السلام وما اجتمع عليه من حين أن فتح عينيه على الدنيا إلى حين بلوغه من مشقَّة غياب الأب وحزن نفسه من طعن الأعداء في شرف أمه، وصولًا إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال النشقبندي عن يتمه صلى الله عليه وسلم: «أن الله قدر عليه اليُتم ليتجرد من كل جاه ظاهر وأن يرتبط بقلبه ومشاعره وكلِّيته بربه ومولاه الحق سبحانه»، وعلى هذا كانت حكمته سبحانه في تهيئة رسله وأنبيائه لأمره العظيم إنما هي من بوابة تعريض قلوبهم للحزن وجرح الأعداء كبرياءَهم، لكي يجعلهم سبحانه يستقبحون الظلم ويشعرهم بآلام الضعفاء والفقراء، وكان كل هذا من باب قوله: {ولتصنع على عيني}.

هناك ارتباط كبير بين قصص الأنبياء والرسل في التجرُّع من مرارة كأس اليتم، لكن هل كل قصصهم مع اليتم تتشابه؟ وهل يلاقي اليتيم على حقيقته من موت الأب أو الأم أو كلاهما، ما يلاقيه اليتيم الذي باعد الزَّمن بينه وبين أمه وأبيه الأحياء لا الأموات (علمُه بذلك مرهون باللحظة التي فارقهم فيها) نفس المرارة؟ لست أدري بحقيقة الأمر، وأنا نفسي لا أفاضل بين الأمرين إذ تنفر النفس الإنسانية من أن تتجرع من مرارة الحقيقتين.

الذي نعلمه من قصة يوسف قليل والذي غاب عنا كثير، لكن احتفظ بالقول الذي يعبر عن حقيقة اليتم: «كيف يمكن للمرء أن يحيى من دون أن يحتوي بين جنبيه نصف روحه التي تحيا في مكان ما من مكان عيشه» وعلى هذا يكون القول بأن قبول العيش من دون الروح التي يعلم بسموُّها إلى آفاق عالَم الملكوت، أخف من عيش الروح التي تعلم بحياة نصف روحها في جزء ما من عالم الملك والشهادة إلا أنه لا حيلة للوصول إليها.

وشاهدُ هذا من آواخر سورة يوسف وإن لم يُذكر شيء من حزنه عليه السلام فقد تم ذكر شيء من حزن والده الذي ابيضَّت عيناه من الحزن، والعجيب من هذا أن الأم التي هي أشد عاطفة وتعلقًا بالأبناء من الأب نفسه لم يذكر شيء عن حقيقة حزنها على ابنها يوسف الذي لا تعلم عن أمره شيئا، لا عن مسكنه ولا مشربه، ولا أين استقرَّ به الحال والمكان، هل لا زال يتنفس ربما؟ أم ضمه القبر إليه واحتضنه أصله.

هذه سنن الله في خلقه، هكذا تصنع نفوس العظماء، حقيقة الحكمة من اليتم يتم إدراكها بالنظر للنهايات لا البدايات.

من رحم السجن يهبك الحرية

من المثير أن يطلب يوسف عليه السلام من ربه أن يدخله السجن وهو الذي طلبتْه صاحبة الدولة ومن ينتهي إليها الأمر والقرار فلا خوْف عليه إن أجاب دعوتَها، لكن قيمة الحرية التي كان يبتغيها كانت تكمُن في الابتعاد من جهل الظالمين، تكمن في حقيقة القرب من الله عز وجل، ربما كان السجن مظلمًا لا تصله أشعة النور ولا تظله النجوم والغيوم، ربما كانت الوحشة الحالة الطبيعية للذي وجد نفسه بين القضبان، ربما تألمت الروح وضاقت في ذلك المكان الضيِّق، ربما تذكر أيام الصبا التي غابت عن الفكر منذ أمد بعيد. لكن روحه حقيقةً كانت تسمو في آفاق السماء «ففي السجن لا بد للإنسان من اجتياز اختبار صعب للغاية. فبعد سنوات من العزلة والحرمان، وحده الإنسان ذو الروح القوية يمكنه أن يخرج من دون علامات الوهَن وفقدان العزيمة، وهذه إشارة إلى أنَّ حياته الجوانية، لم تكن مملة، رغم كل الشدائد والمحن، وأنه قد سلَّى نفسه حتى في العزلة بالأفكار.

فبينما كان جسده خلف القضبان، كانت روحه قادرة على أن تحلق وتكون مع أحبابه، ومن خلال أفكاره يمكنه أن يكون في بلد بعيد» [1]، ومن حكمة الله تعالى بنبيَّه يوسف عليه السلام أن جعله بمنأى عن الصراع مع قوى التاريخ التي لا تعلم الحق من الباطل، حتى جعل نفسه ترى في السجن حرية، ولعل يوسف قد عبر عن قوة هذه القوى ومدى تأثيرها على نفسه، حين قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}، فاقتضت حكمة الله بعد أن تراكم الأمر وتعاظم على نفس نبيه أن يبعده عنها لئلا تميل نفسه إليها أو تفتر فتنهزم، أو تغفو فتغرق في وحَل من الشرك والظلم، أبعده إلى حين؛ يبدل ملكًا بملك وحكمًا بحكم ويذهب بقوم ويأتي بآخرين.

تكمن حرية الإنسان في بعض الأحيان في الذي يعتقد أنه سجنه، تكمن إنسانيته في عبوديته لله واتباع أوامره واجتناب نواهيه، هذه حقيقة الحرية التي بحث عنها يوسف عليه السلام وابتعد عن غيرها مما هو اليوم أصل الحرية ورباطها ومعقل أمرها.

في الحكمة من محنة السجن: «أنقذ الله سبحانه وتعالى نبيه من كيد النساء، فكان السجن الملاذ الحصين لإيمانه وإسلامه، وأخرجه منه بأهله وسكانه، فكان السجن النور الذي أنقذه من المحنة وغير حياته إلى أن أضحى عزيز مصر وصاحب نهضتها، فانظر كيف أن الشدة التي ألمَّت به في بداية أمره أبدلها الله له بالعز والتمكين من داخل سجنٍ اعتاد الخلق أن ينظروا لمن فيه على أنهم مجموعة من القوم الظالمين».

في اللحظة التي تنكشف الحقيقة

العدالة الإلهية لا تغفل عن حق مظلوم سواء كان قليلًا أم كثيرا، وتأخرها إما أن فيه زيادة في الأجر، أو أنه شيء من حكم الله في تدبير خلقه لا سبيل للاطلاع عليه ولا لمعرفة أسراره، ولعل الإنسان حين يقرأ قصة يوسف مع إخوته يطالع ذلك الظلم من فوق، يقلب صفحاته سريعًا وكأن الأحداث طبيعية وأن الذي عاش في الحدث كالذي ينظر إليه وهو منتهٍ، والحق أن الإنسان في لحظته يظلِم أو يُظلم وقد يمر العام أو العامان فينسى ما جرى، لكن الله سبحانه لا ينسى، ولو أن الأمر كان من تدبير بني البشر ما لقي أمرُ ظلمِ إخوة يوسف لأخيهم اهتمامًا أو تتبعًا بعد أن طال الأمد، ولما ناقش القضية ولا أيقظ الوقائع ولا أحيا أحداث الزمان، لكن في مقاييس الله وحكمه وحكمته فإنه سبحانه لا يغفل عن حق مخلوق ولو كان جناح بعوضة، وهذا من حكمته سبحانه وعدله بين خلقه سبحانه وتعالى.

المصادر:

كتاب: هروبي إلى الحرية، ص 62 علي عزت بيجوفيتش.

محسن ديدوش

حاصل على بكالوريا تعليم أصيل وليسانس دراسات إسلامية من المدرسة العليا للأساتذة؛ ولدي تجربة في… المزيد »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى