ما البديل عن مسلك الديموقراطية لإصلاح الأوضاع؟

هذا المقال استمرار للمقال السابق بعنوان ما البديل عن الديمقراطية؟ وهو إشارات سريعة للإخوة الذين يسألونني: اقتنعنا بكلامك عن فساد مسلك الديمقراطية شرعًا ولكن ما البديل عنه لإصلاح الأوضاع؟ في المقال السابق عرضت أربع نقاط، وقد ارتأيت ألا أستطرد في الموضوع كثيرًا بل أقتصر على إضافة الإشارة الخامسة التالية:

الإخوة يطالبون ببديل عملي موصل إلى الهدف. أي وكأنهم يريدون آلية مفصلة وخططًا مرحلية يظهر للعيان أن من سلكها سيصل إلى الحكم ويقيم الدولة الإسلامية. فأود أن ألفت أنظار إخواني إلى أن الله تعالى يبتلي عباده بأمرهم أن يسلكوا طريقًا قد يبدو مسدودًا مقفرًا، لكنه في النهاية هو الطريق الشرعي.

ويبتليهم خلال سلوكهم هذا الطريق بفُرَص ظاهرها أنها ستمكن لدعوتهم وتختصر المراحل وتقلل التضحيات وتنقلهم نقلة هائلة. لكن مشكلة هذه الفرص أنها تتطلب منهم تنازلات عن ثوابت دينهم الذي من أجله سلكوا هذا الطريق. والأمران بلاء: إقفار الطريق وانسداده بلاء، والفرص البراقة التي تلوح في الطريق بلاء. وكأنه عز وجل يريد أن يمتحن يقين عباده بالوعد، وحسن توكلهم، واستسلامهم لأمر الله وإيمانهم بحكمة ربهم وعلمه ورحمته، ويريد كذلك أن ينقي قلوبهم من التعلق بالأسباب المادية وأعمالَـهـم من الروغان حول أمره.

حتى إذا حصل ذلك من العباد ومارسوا العبودية بأصدق أشكالها: عبودية الاستسلام لأمر الله والاستقامة على أمره وعدم الميل عنه ولا حتى بدعوى خدمة الدين، جاءهم النصر والتمكين من حيث لم يحتسبوا وجعل لهم بعد هذا الانسداد الخانق مخرجًا بل وقَلَب مكر أعداء الدين عليهم وكاد للمسلمين بلطفه سبحانه.

ولنا عند هذه السنة وقفة إن شاء الله عندما نستعرض سير أنبياء الله موسى ويوسف عليهما السلام وقصة نعيم بن مسعود وقطز وموقف أبي بكر من بعث أسامة ونشأة دولة المرابطين.

دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نموذجًا

لكننا هنا نكتفي بذكر نموذج واحد، وهو دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقبائل في مرحلة الاستضعاف بمكة، ونحن نعلم أن البعض سيقول كلامًا لا يختلف كثيرًا عن كلام العلمانيين، إذ يرى أن الأمثلة من حياة النبي انقضى أثرها بانقضاء عهد الصحراء والقبائل وأنها لم تعد صالحة لعالمنا المعاصر! وليس كلامنا موجهًا لضعفاء الإيمان هؤلاء، بل لمن يؤمنون بقوله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة بعد إعلان دعوته، عشر سنين من التنكيل والاستهزاء والتكذيب في مكة، أصحابه فيها يعذبون ويشردون ويقتلون، ولا يدري النبي -صلى الله عليه وسلم- كم ستستمر هذه المعاناة، ثم رحلة الطائف التي كذبه فيه ساداتها ورماه بالحجارة سفهاؤها، والنبي في ذلك كله لا يقصر أبدًا في الاجتهاد والأخذ بالأسباب ولا في التخطيط لإنجاح دعوته، ولا يجلس في داره ينتظر الفرج، بل يخاطب كفار مكة جماعات وفرادى، ويُعلن حيث يحسن الإعلان ويُسر حيث يحسن الإسرار، ويرسل عددًا من أصحابه إلى الحبشة ليحفظ عليهم دينهم ويخفف معاناتهم. ومع ذلك لم يكن في الأفق تباشير دولة ولا تمكين وبدا أن الطريق مسدود.

في هذه الفترة الممحلة القحط الجدباء كرمال الجزيرة العربية تأتي فرص براقة! فقد ذكر ابن هشام والطبري وابن كثير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض نفسه من بين ما عرض على بني عامر بن صعصعة، فقال له رجل منهم: “أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟”

صفقة تبدو رابحة جدًا! أن يعلن بنو عامر النصرة للنبي، فينتقل إليهم هو وأصحابه، ويتوقف التعذيب والجلد والسحب على رمضاء مكة ووضع الصخور على الصدور والخنق حتى الموت، ويتحول النبي من مطارَد يرميه السفهاء بالحجارة ويضعون سلا الجزور على ظهره إلى رئيس مطاع، وينشر الدين بسلطان الدولة.

مجموعة من تحقيق المصالح ودرء المفاسد والمحافظة على ضرورات النفس والعرض والمال يقدمها بنو عامر على طبق من ذهب، والمطلوب مقابلها تنازل بسيط: أن يقبل رسول الله بشرط انتقال السلطة إلى أصحاب هذا العرض السخي بعد وفاته. وهو تنازل في أمر قد يبدو للوهلة الأولى أنه إداري لا علاقة لها بصلب الدين. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: “الأمر لله يضعه حيث شاء” رافضًا بذلك عرضهم السخي!

رفضًا تستهجنه كل الحسابات السياسية المادية الأرضية وتعتبره تفويتًا لفرصة العمر، بل لو حدث في أيامنا من غير رسول الله لوصفه فقهاء التنازلات بالتشدد والجمود، نعم، رَفَض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الشرط. فقال له أحد بني عامر: “أنقاتل العرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك” ثم تولوا عنه مدبرين. وتلاشى الأمل وانطفأ بريق الفرصة.

ومع ذلك ما ندم رسول الله وهو يراهم مدبرين عنه، ولا تبعهم ولا طلب أن يعطوه فرصة ليعيد النظر. ما ندم حين فاتت هذه الفرصة وعادت آلام الحياة وهو يرى أصحابه يعذبون والمشركين يستهزئون. فهو يعلم أن الإسلام المشروط المرتبط بأطماع الرياسة ليس الإسلام الذي يحبه الله تعالى، وأن من أسند ظهره إلى قوم هذا حالهم كان كمن أسس بنيانه على شفا جرف هار.

وتذكروا أنه عليه السلام ما كان يعلم في تلك اللحظة كم ستستمر الآلام، بل ما كان يعلم إن كانت المعاناة ستنتهي في فترة حياته.

وتكرر هذا العرض عندما جاءه بنو كندة فيما روى ابن كثير فقالوا: “إن ظفرت تجعل لنا الـمُلك من بعدك؟”. فقال:

إن الملك لله يجعله حيث يشاء.

والنبي في ذلك كله لا يتكلف ولا يشدد على نفسه ولا على أتباعه، إنما هو لا يساوم في أمور يعلم أنها لا تقبل المساومة.

ثم تأتي الفرصة الأكثر إغراء، ففي الأثر الذي حسنه ابن حجر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض نفسه على بني شيبان، وهم من قبيلة قوية ذات منعة. وتلى عليهم القرآن فمالوا إلى نصرته حتى قال له المثنى بن حارثة: “إنما نزلنا على عهدٍ أخذه كسرى علينا؛ ألا نحدث حدثًا، ولا نؤوي محدثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤيدك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا”.

أي أنهم استعدوا لنصرته على العرب لكن ليس على الفرس إذ جندهم آنذاك يقدرون بحوالي المليون! وهذا الاشتراط متوقع من أناس لم يتمكن الإيمان من قلوبهم. فهل قبل رسول الله على أمل أن يقنعهم بالتخلي عن هذا الشرط لاحقًا؟ لا بل رفض اشتراطهم وكان مما قاله لهم (رواه ابن حبان في الثقات والبيهقي):

إن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه.

وبعد حادثة بني شيبان مباشرة، ينتقل رسول الله إلى رجال ستة فيسألهم: “من أنتم؟” فيقولون: “نفر من الخزرج” فيقول لهم: “أفلا تجلسون أكلمكم؟”، فتتنزل الرحمات وتنفذ مشيئة الله بإكرام نبيه بعد هذا الثبات العجيب، وتأتي الهدية على هذا الصبر والتسليم واليقين والأخذ بالأسباب المشروعة منه صلى الله عليه وسلم، ويبتسم الكون بعد طول عبوس. فقد آمن النفر الستة جميعًا من ساعتهم إيمانًا نقيًا غير مشروط، وانطلقت من هذه اللحظة رحلة النصر والتمكين للرسول الأمين.

سنة التغيير

هكذا هي المعادلة: ثبات على أمر الله مهما بدا الطريق مسدودًا، مع أخذ بالأسباب والسير في كل طريق مشروع، ورفض للعروض التي تتطلب التنازل مهما كانت مغرية. (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) وليس هذا الذي حصل مع رسول الله فلتة عارضة خارجة عن سنة الله في التغيير، بل هي من سننه تعالى في التغيير يؤكدها الله تعالى في مواضع كثيرة: أن ليس على الدعاة إلا الثبات والأخذ بالأسباب قدر الوسع والطاقة، ثم النصر بعد ذلك يأتي من غير جهة الأسباب، وبخلاف المعادلات المادية الأرضية: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فالاخذ بالأسباب مهما كان عظيمًا ما كان هو السبب في التأليف بين قلوب الصحابة، إنما هو من الله تعالى.

وقال تعالى في بدر: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) وقال في غزوة بني النضير: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أخذ المؤمنون بالأسباب وحاصروا بني النضير وصبروا على حصارهم ست ليال. لكن الذي هزمهم بعد ذلك هو الله بطريقة مع أن المؤمنين أنفسهم ما ظنوا أن يخرج هؤلاء دون قتال.

وقال في الأحزاب: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) أخذ المؤمنون بالأسباب المشروعة وعانوا الأمرين في حفر الخندق ثم في حراسة المدينة من جحافل الكفار وخططوا وحفظوا النساء والذراري في حصن واجتهد رسول الله ليشق صف اليهود والمشركين، ثم بعد ذلك جاء النصر من غير جهة الأسباب وتولى الله سبحانه رد الكفار دون قتال.

وفي المقابل، عندما تعلقت قلوب البعض بالأسباب المادية فوُكلوا إليها: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)، وفي أحد، عندما تعلقت القلوب ببريق الفرصة المشوبة بالمعصية فضاع النصر وخوطبوا بخطاب اللوم: (حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ).

هذا هو الطريق

فهذا هو الطريق: دعوة شمولية لا تهمل جانبًا من جوانب دين الله تعالى، وتنتظم عقائد المسلمين وأفكارهم وسلوكهم ومعاملاتهم، وتحرُّك نشِطٌ بهذه الدعوة بالخلق الحسن والإخلاص في طبقات المجتمع كافة، وتربية للنفوس على التحلي بالعلم وتحمل التبعات وتقديم التضحيات وإيثار الباقية على الفانية، وحكمة تجعل الدعاة يحسبون كل خطوة يخطونها وتمنعهم من إلقاء أنفسهم في مواطن الهلكة دون فائدة، يقابلها قوة في الحق ومصداقية تمنعهم من أن يحصروا دعوتهم في الجوانب التي لا تغضب الباطل، ثم استنفاد الوسع في الأخذ بأسباب النجاح الدنيوية المشروعة والحرص على التميز في التخصصات ونفع الناس في دينهم ودنياهم، وجهادٌ للكفار والمنافقين باليد واللسان والقلب والمال، ولكل مقام في ذلك ما يناسبه.

وأن يكون ذلك كله على هدى من الكتاب والسنة محفوفًا باليقين والثبات والصبر وحسن التوكل، دون زيغ ولا تأوُّل فاسد، وبرهنة لله على الصدق برفض الفرص البراقة المشوبة التي تعرض نفسها للدعاة في هذا الطريق على أنها طوق النجاة.

وقد كنا إذا ما ذكرنا أهمية الدعوة يقول المجادل: بقينا ندعو سنوات طويلة ولم يتغير الواقع. فنقول: ليست أية دعوة تجلب النصر، بل دعوة كهذه، فهل رأينا دعوة كهذه سنوات طويلة؟ عد إلى وصفها الذي ذكرناه وقارنه بالواقع وستعرف الجواب!

رأينا جهودًا طيبة من الدعاة ومن الأحزاب والاتجاهات الإسلامية، وكان لهذه الجهود أثرها النافع على المجتمعات الإسلامية، ولا ينكر ذلك منصف. لكنك إذا استعرضت الملامح العامة المذكورة للجهد الإسلامي المنشود علمت مواطن الخلل في هذه الجهود وأنها تحتاج الكثير من الاستكمال والتنقية وتصحيح القواعد والأسس.

وبعد ذلك فبمقدار ما قد يبدو هذا الطريق الأصيل -وليس البديل- في عيون الماديين عقيمًا قاحلًا، فإن ذلك يزيدنا يقينا بصحته ونحن نستذكر هذه السنة من سنن الله تعالى في التمكين لمن يستقيم على الطريق ويأخذ بالأسباب المشروعة ويُعرض عن المشوبة منها مهما كانت براقة.

كانت هذه إشارات سريعة نسأل الله تعالى أن ينفع بها. سنمضي بعدها بإذن الله في السلسلة بالمخطط المرسوم لها، حيث سنعرض للمفاسد الفكرية والعقدية الناتجة عن المسلك الديمقراطي التنازلي لنرى خطورتها وانعكاساتها على المجتمعات الإسلامية لعل سالكي هذه السبل يتنبهون إلى المفاسد التي قلما تُذكر وقلما تعطى حجمها مع شدة خطورتها وانتشارها. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. إياد قنيبي

داعية إسلامي أردني ودكتور جامعي ومكتشف في مجال علم الأدوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى