
أوهام الهيمنة وسقوطها: سياسات ترامب وصناعة الفوضى في عالم لم يعد أمريكيًا
غزّة، تلك البقعة الصغيرة من الأرض التي تحولت إلى رمزٍ للصمود والمقاومة، وملعبٍ لصراعات المصالح الدولية والإقليمية. منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فترة رئاسته الأولى عن رؤيته للشرق الأوسط، تحت شعارات السلام الزائف والصفقات المبطنة، برزت تساؤلات حول دوافع سياسات ترامب وحدود تأثيرها.
فمنذ أن وطئت قدما دونالد ترامب البيت الأبيض، بات واضحًا أنه لا يسعى لإعادة تشكيل السياسة الأمريكية التقليدية فحسب، بل يسعى لتفكيكها وصياغتها وفق مبدأ “الفوضى الخلاقّة” التي يتقن صناعتها، ويتفنن في استغلالها. وبغض النظر عن تقييم إرثه كرئيس، فقد كانت سياسات ترامب الخارجية تجسيدًا لمفهوم “التاجر السياسي”، الذي يرى العلاقات الدولية كصفقات، والمصالح كأوراق ضغط، والأزمات كفرص لتحقيق المكاسب.
ترامب: تاجر الصفقات وصانع الفوضى

لفهم استراتيجية ترامب، يمكننا العودة إلى كتابه الشهير “فن الصفقة” (The Art of the Deal) الصادر في الثمانينيات، والذي يكشف بوضوح عن نهج الرجل الذي يفاوض من منطلق القوة؛ يثير الفوضى والجدل ليشتت خصومه، ثم ينتظر ليرى من سيصمد ومن سيضعف، ليفرض شروطه ببرود تاجر متمرس.
رئاسة ترامب الأولى كانت انعكاسًا صارخًا لهذه العقلية، فقد خلق أزمات مع حلفائه قبل أعدائه، بدءًا من تهديداته بإلغاء اتفاقيات التجارة الحرة مع كندا والمكسيك، وصولًا إلى انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، وفرضه عقوبات اقتصادية خانقة. وبلغت قمة فوضاه السياسية في الشرق الأوسط، حيث قاد عملية تطبيع غير مسبوقة بين دول عربية وإسرائيل، في إطار اتفاقيات إبراهيم، التي أعادت تشكيل المشهد السياسي الإقليمي دون حل حقيقي للقضية الفلسطينية.
اقرأ المزيد: ترامب.. واستراتيجية “الرجل المجنون”!! |
حقيقة سياسات ترامب.. شرق أوسط جديد
لم تكن سياسات ترامب تجاه غزة مجرد استجابة لضغوط اللوبي الصهيوني أو محاولة لكسب دعم التيار الإنجيلي المحافظ في الولايات المتحدة. إنما جاءت ضمن رؤية أوسع لإعادة هيكلة الشرق الأوسط في إطار مشروع “الممر الاقتصادي”1، الذي أعلن عنه الرئيس بايدن في سبتمبر 2023، بربط تجارة الهند وشرق آسيا بأوروبا مرورًا بالإمارات والسعودية والأردن، وصولًا إلى ميناء حيفا المحتل.
هذا المشروع، رغم بريقه الاقتصادي، يحمل في طياته تهديدًا واضحًا لمصالح الصين ومشروع “الحزام والطريق”، ويشكل تحديًا لمكانة قناة السويس.2 وفي ظل هذا الصراع، تسعى إسرائيل لفرض واقع جديد من خلال توسيع مناطق نفوذها في الجولان السوري المحتل، وإضعاف الدولة السورية بإثارة النزاعات الطائفية، وتعزيز الانقسام الداخلي، لمنع استعادة دمشق لدورها الإقليمي.
أما تهديد ترامب بتهجير الفلسطينيين من غزة وتحويلها إلى منطقة اقتصادية “جميلة وحديثة”، فهو جزء من خطة أشمل لاحتواء المقاومة الفلسطينية وإعادة تشكيل القطاع بما يخدم المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة. وعلى الرغم من رفض معظم القوى الإقليمية لهذه الطروحات، فإنها تظل أدوات ضغط تُستخدم كلما استلزم الأمر.
أمريكا ليست المهيمن.. خدعة القوة في عالم متعدد الأقطاب

لقد شهد العالم تحولًا جوهريًا في ميزان القوى منذ نهاية الحرب الباردة. فالصين أصبحت منافسًا شرسًا لأمريكا اقتصاديًا، وروسيا استعادت نفوذها العسكري في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، والهند باتت لاعبًا محوريًا في آسيا. وفي الوقت الذي كانت فيه أمريكا تدّعي السيطرة الكاملة على النظام الدولي، كانت هذه القوى تحفر لنفسها موطئ قدم جديد.
محاولات أمريكا لفرض إرادتها على العالم لم تعد تلقى الصدى ذاته: فشلها في إسقاط نظام الأسد في سوريا، وعجزها عن إبعاد روسيا من أوكرانيا، وفشلها المتكرر في إخضاع إيران وكوريا الشمالية، وفشل محاولاتها لإسقاط “مادورو” في فنزويلا، كلها شواهد واضحة على تراجع هيمنتها. وحتى صفقات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية لم تكن سوى محاولة يائسة للحفاظ على صورة هيمنتها المتآكلة. لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح: لماذا لا يزال البعض في عالمنا العربي يصدقون هذه الخدعة، بينما العالم بأسره لم يعد يعبأ بما تقوله واشنطن؟
ما بعد أمريكا: مستقبل الأمة في عالم جديد
في ظل هذا النظام العالمي الجديد، يصبح من الضروري على الأمة الإسلامية وحركات التحرر والمقاومة إعادة تقييم استراتيجياتها؛ فلم يعد العالم أحادي القطب، ولم تعد أمريكا “الشرطي الوحيد” الذي يخشى الجميع غضبه. إن التحولات في ميزان القوى، والتغيرات في أولويات الدول الكبرى، تتيح للأمة فرصًا جديدة للتحرك والمناورة.
تجدد الصراع في سوريا، ومحاولات إسرائيل الأخيرة لتأجيج النزاعات الطائفية هناك، ومحاولات الضغط على الفلسطينيين لإخلاء غزة، كلها شواهد على صراع وجودي يعيشه الاحتلال الصهيوني. ومع ذلك، فإن هذه التحركات تأتي في سياق دولي مختلف، حيث لم تعد أمريكا قادرة على فرض إرادتها بنفس القوة كما كانت في السابق.
ففي ظل هذا العالم متعدد الأقطاب، يتشكل نظام جديد تتداخل فيه المصالح الإقليمية مع التحالفات الدولية. كون المقاومة في غزة وسوريا وكل بقاع العالم الإسلامي لم تعد تواجه قوة أمريكية منفردة، بل شبكة معقدة من المصالح والأطماع. هذا الواقع يفرض على الأمة الإسلامية تحديًا جديدًا: كيف يمكننا التكيف مع هذا النظام الدولي الجديد وتحويله إلى فرصة للنهوض؟ هل يمكن استثمار حالة الفوضى هذه لبناء مشروع مقاومة متكامل يتجاوز الحدود التقليدية للصراع؟
النقد والتحليل: حدود النظرية ومخاطر الاستكانة

رغم وجاهة هذه القراءة للنظام الدولي الجديد، لا يمكن التعامل معها على أنها مسلّمة قطعية. لا تزال أمريكا تملك أوراقًا اقتصادية وعسكرية قوية، ولا تزال لديها القدرة على المناورة بطرق عديدة. كما أن المشاريع الطموحة مثل “الممر الاقتصادي” و”الحزام والطريق” قد تصطدم بعوائق إقليمية ودولية غير متوقعة.
في الوقت ذاته، فإن الانقسام العربي، والتطبيع المتسارع مع الاحتلال، واستمرار النزاعات الطائفية في المنطقة، قد يجعل من المقاومة هدفًا سهلًا للهيمنة الجديدة، سواء كانت بقيادة أمريكا أو بظل التوازنات الجديدة بين القوى الكبرى.
في الختام: كيف نختار مسارنا؟
إن الاستسلام للفتور واليأس ليس خيارًا، كما أن الاعتماد على معطيات غير مكتملة يُعدُّ مقامرة خطيرة. يبقى الأمل معقودًا على توحيد الصفوف، وتبنّي خطاب سياسي واعٍ يُحسِن قراءة التغيرات الدولية، ويستغلها لصالح الأمة الإسلامية.
ماذا لو استطاعت المقاومة الاستفادة من تراجع الهيمنة الأمريكية؟ ماذا لو تمكن العرب والمسلمون من بناء محور قوة جديد يتحدى المشروع الصهيوني ويعيد ترتيب البيت العربي؟ أسئلة تظل الإجابة عليها رهينة بمدى قدرتنا على مواجهة الفتور الداخلي وإعادة بناء مشروعنا الحضاري على أسس واعية وصلبة.
قد تكون أمريكا قد بدأت تفقد هيمنتها العالمية، لكن الرهان على سقوطها التام رهان خاطئ. المطلوب ليس انتظار انهيار الإمبراطورية، بل استثمار هذا الانحدار في بناء قوة حقيقية تعتمد على الوعي، الوحدة، والعمل المؤسسي المدروس. هكذا فقط يمكن للأمة أن تستعيد مكانتها وتحقق مشروعها الحضاري بعيدًا عن أوهام الهيمنة الأمريكية والأوهام الزائفة للسلام المزيّف.