
انتخاب ترامب والعصر الجديد في قارتنا العربية؟
الانتخابات الأمريكية التي انتهت بفوز ترامب بولاية ثانية في نوفمبر الماضي؛ والتي تواكبت مع تداعيات عملية طوفان الأقصى وما تبعها من حرب همجية إسرائيلية على غزة، تعد حدثًا مفصليًا سوف يكون له أكبر الأثر في تشكيل مستقبل قارتنا العربية خلال السنوات الأربع القادمة. ولا يوجد وصف أدق يبين حال قارتنا العربية اليوم من مصطلح VUCA، الذي يعني الفوضى التي تنشأ عندما يكون الحال متقلبًا وغير مؤكد ومعقدًا وغامضًا: فوضى سياسية واقتصادية وجغرافية، لكن الأخطر تلك الفوضى الثقافية التي تعيد تشكيل العقول والقلوب.
كانت أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في ولاية ترامب الأولى في تعاملها مع القارة العربية سياسيًا أو اقتصاديًا قد شهدت: طرح خطة الازدهار المعروفة بـ”صفقة القرن” لإغراء الفلسطينيين بحوافز اقتصادية إذا قبلوا دولة ذات سيادة محدودة وفشلت، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية المحتلة، وخروج علاقات الخليج مع إسرائيل إلى العلن من خلال اتفاقات إبراهيم، في ظل مبدأ الصفقة الذي يعتنقه كرجل أعمال أصبح رئيسًا.
ومع أنه من الصحيح أن الأمر لن يتغير كثيرًا بخصوص التوجهات السياسية والاقتصادية لترامب في قارتنا العربية خلال ولايته الجديدة، فإدارته الجديدة تضم مجموعة من المتشددين المؤيدين لإسرائيل، وكلهم أجمعوا معه على دعمها، وينظرون إلى حل الدولتين باعتباره طرحًا غير عقلاني وغير قابل للتطبيق وسيعملون على ترسيخ الاعتراف بخريطة متغيرة لإسرائيل تضمن أمنها، مع توسيع نطاق اتفاقات إبراهيم لتشمل دولاً جديدة؛ في القلب منها العربية السعودية، واستمرار نهج الدفع مقابل الأمن للنظم الغنية والتعاون الكامل مقابل الاستمرار للأنظمة الفقيرة.
لكن ما يجب التنبه إليه أكثر في ولاية ترامب الثانية هو الجانب الثقافي غير المرئي بوضوح من سياساته في قارتنا العربية، والمرتبط بالعمل على تغيير العقول والتوجهات نحو إسرائيل الذي تم في ولايته الأولى.
ويجادل هذا المقال بأن هذا الجانب الثقافي سوف يستمر بوتيرة أسرع وأعمق مع بدء ولايته الثانية، حيث يتوقع أن تبدأ حالة جديدة من عدم اليقين تجلبها رئاسته الثانية فيما يتعلق بالثوابت التي حكمت الصراع العربي الإسرائيلي ورسختها الحرب على غزة في وجدان غالبية أبناء الأمة العربية.
الديانة الإبراهيمية.. بداية التغييرات الثقافية

المتابع لحصاد فترة حكمه الأولى يلاحظ أن إدارة ترامب استطاعت في هدوء تمرير الترويج للديانة الإبراهيمية من خلال الإمارات التي كانت قاعدة لإطلاق مبادرات التعايش والتسامح التي تُوجت باتفاقات إبراهيم؛ والتي تم دمجها في غضون أسابيع في الكتب المدرسية في النظام التعليمي الإماراتي بما تعنيه من تغيّرات جذرية في رؤية إسرائيل، وسرعان ما انتشرت انتشار النار في الهشيم في مناهج التعليم في باقي دول الخليج. ثم كان ما نعرفه من الترويج للديانة الإبراهيمية وما واكب ذلك من مشاورات لتطبيع شامل مع السعودية عطّله هزيمة ترامب في الانتخابات.
واليوم وأنظمة قارتنا العربية السياسية تواجه وضعًا سياسيًا واقتصاديًا يتسم بالهشاشة وإمكانية الانهيار المفاجئ في أي لحظة، حيث تواجه تلك الأنظمة تحديات داخلية كبيرة تجعل التنبؤ بمستقبلها معقد للغاية، كما تواجه القضية الفلسطينية مفارق طرق حاسمة في تحديد مستقبلها، وتحاصر الجماهير العربية بين رؤى متضاربة حول المستقبل. سوف تستغل الإدارة الأمريكية الجديدة تلك الحالة لفرض سرديتها الجديدة المطلوب تعميمها بعد السابع من أكتوبر 2023 والتي تُحقق أهداف الأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي.
وستلعب القوى الناعمة دورًا رئيسيًا في استغلال تلك الحالة التي عليها الأنظمة والشعوب العربية ومعاناة فلسطين الشديدة؛ وخصوصًا أهل غزة، لخلق مساحات لفرص جديدة تجعل الوضع القلق الراهن غير قابل للاستمرار، وستعمل على خلق الشعور بالإلحاح اللازم للحاجة للسلام ومراجعة كل الخطابات المتعلقة بطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي.
ففي حين تُنجز الإدارة السياسية مهمتها من خلال نهج من أعلى إلى أسفل مع الأنظمة الحاكمة من خلال الاتفاقات الملزمة والأثمان المطلوب دفعها لتحقيقها، ستعمل القوى الناعمة بنهج من أسفل لأعلى على تغيير عقول وقلوب أبناء الأمة لتتوافق مع تلك القرارات لأنه من دون إرساء أسس هذه الاتفاقات في العقول والقلوب لن تقوم قائمة للعصر الجديد من السلام السعيد الرغيد الذي سيبشر به ترامب.
الهدف الأول.. غيّر قلوبهم وعقولهم

إن الرئيس التاجر صاحب فن الصفقة لم يأت فقط ليعلن موت الصراع بين الأنظمة العربية وإسرائيل، ولا حتى بين المجموعات الجهادية أو محور الممانعة والمقاومة عمومًا وإسرائيل، لا، ولكنه جاء أيضًا ليعلن موت هذا الصراع في عقول وقلوب أبناء وبنات العرب من الأجيال الجديدة لصالح السلام الذي يعزز التعاون بين أبناء العم بقيادة نخب ثقافية وسياسية جديدة قادرة على صنع ثقافة السلام وجني ثماره.
ففي خضم الحرب السياسية والاقتصادية والعسكرية التي سيخوضها محور ترامب ضد محور المقاومة ستكون هناك حرب ثقافية شاملة سيخوضها هذا المحور أيضًا محلها قلوب وعقول العرب المسلمين من خلال الاستثمار بشكل استراتيجي في التعامل مع: المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، ومناهج التعليم، باعتبارها رؤوس الحرب الثقافية القادرة على إعادة تشكيل الخطاب العام.
ومن هنا فمن المتوقع عودة نشاط مجال المجتمع المدني بقوة، والتركيز على عمله في مجالات التعليم والإعلام بهدف تغيير القناعات من “الأسفل إلى الأعلى”؛ فالمجتمع المدني باعتباره مفتاح الدخول إلى القاعدة الشعبية هو السبيل المأمون لتمرير الأفكار والقيم وتطوير وتنفيذ البرامج التعليمية وتقديم توصيات سياسية لوضع الأساس للسلام المطلوب ترويجه في مناهج التعليم والثقافة العامة.
كما ستكون وسائل الإعلام ووسائل التواصل هي الساحة الأكثر أهمية للتأثير التي تعضد عمل المجتمع المدني وترفده بالخبرات، وتمده بالتصورات، وتروج له بين فئات المجتمعات العربية المختلفة، فقد أصبح الاستهلاك المفرط لوسائل الإعلام نعمة يجب اغتنامها لترويج خطاب العصر الجديد وبالتالي تشكيل الرأي العام العربي.
ومن هنا ما سنراه من الربط بين التمويل المالي؛ سواء من أمريكا أو أوروبا أو الخليج، الممنوح لمؤسسات المجتمع المدني ووزارات الثقافة والإعلام والتعليم والشؤون الإسلامية وربما بعض الأحزاب السياسية وبين تنفيذ أجندة السلام المطلوب من خلال صنع وتأهيل المحترفين من: صناع المحتوى من رجال الدين والدعاة الجدد، والناشطين والسياسيين، والصحافيين، ومقدمي البرامج، وغيرهم من المشاهير في الفن والرياضة الذين يشكلون بشكل غير مباشر المنظور الذي يفسر من خلاله الناس الواقع.
كما سنجد حربًا ثقافية شديدة على الخطاب الشعبي العام العربي تجاه أمريكا وإسرائيل والذي يهيمن عليه حاليًا معارضو السلام المنشود: حربًا من أجل تشويه الشخصيات والمؤسسات والمصطلحات والخطابات التي تم تعميمها طوال الحرب على غزة التي أعادت الحياة لمفاهيم الجهاد والعزة والكرامة والاستقلال وكشفت زيوف الخطاب الغربي حول العدالة والقانون وحقوق الإنسان والسلام.
والمتابع لما يجري في الساحات الثلاث: المجتمع المدني، والإعلام، والتعليم الديني خصوصًا، سيجد أن هناك محاولات بدأت بالفعل لخلق منصات ومحتوى جديدَين للخطاب الداعم للسلام في الساحات الثلاث: لا يركز على السلام فحسب، بل يعزز أيضًا موضوعات مثل الديمقراطية والمساواة وحقوق المرأة والتعددية وصنع المستقبل للشباب والتسامح والتعاون. كل ذلك من أجل تعزيز خطاب السلام والترغيب في فوائده؛ وربما ستكون سوريا النموذج الذي سيتم تطبيق تلك الأفكار فيه بالموازاة مع دول الخليج وفي مقدمتها الإمارات والسعودية بمجرد توقيع اتفاق التطبيع المرتقب قريبًا.
فمن خلال بناء خطاب محكم ومتقن وبسيط يعالج كافة الشكوك المتعلقة بحقيقة السلام، وذلك من خلال خلق ثغرة في الخطاب الحالي المضاد له؛ والذي تهيمن عليه الدعاية الإسلامية، يمكن من خلالها الدخول للعقول والقلوب ودمج عنصر القرابة الثقافية وتبادل المنافع والفوائد الاقتصادية مع أبناء العم.
وذلك عبر طرح وجوه جديدة تم صناعتها على مدار العقد الماضي تقوم برسم صورة ملهمة لما قد سيبدو عليه السلام المأمول تتجاوز الخطاب القديم الفارغ من الثمار الدانية التي يمكن لكل واحد من أبناء العرب تناولها:
فعوضًا عن التركيز على الجغرافيا: الحدود، أو الأمن، أو التاريخ والصراع، والخطاب المعقد والممل الذي انصرف عنه غالب أبناء الشعب العربي لعقمه وعقم وجوهه القديمة، سيكون التركيز على الترويج لوجوه جديدة تبشر بالفوائد الاقتصادية والثقافية بخطاب سهل وبسيط يتحدث عن لغة اللحظة: فرص العمل والاستثمار، فرص الترقي والشهرة، متع الاستهلاك.
باختصار شديد: من نهج إدارة الصراع إلى نهج إدارة المنافع، ومن صراع الهويات الجماعية إلى منافع الذوات الفردية.
انتبه.. الحرب تحيط بنا!!

هذه هي المعركة الحقيقية التي يجب أن يتنبه لها الجميع في قارتنا العربية، وهي أخطر نتائج وجود إدارة ترامب؛ في ظل إدارة يمينية إسرائيلية متطرفة لا تخفي حقيقة توجهاتها، وفي ضوء ما كشفته عملية طوفان الأقصى من عورات الجميع في المنطقة، وما أضاءته من أنوار في قلوب العرب فرأوا حقيقة الصراع دون رتوش أو كذب أسقطت كل السرديات المضللة.
إن الحرب القادمة خلال هذه السنوات الأربع ليست في ساحة المعركة فقط في فلسطين وربما في غيرها، بل هي أيضًا على شاشات التلفاز، وفي الشبكات الاجتماعية، وفي المدارس وفي ساحات المجتمع المدني بكافة تجلياتها، لتسميم عقول العرب وقلوبهم.
فمن خلال التلاعب بمحتويات وسائل الإعلام ووسائط التواصل والمناهج الدراسية وأجندات عمل منظمات وأحزاب المجتمع المدني يمكن تغيير معتقدات المجتمع العربي نحو القضية الرئيسية والعدو الرئيسي المتمثل في الاستعمار الإسرائيلي والأمريكي.
فكما سيلعب ترامب وإدارته السياسية والاقتصادية دورًا رئيسيًا في تعميق استتباع الأنظمة العربية لصالح مقتضيات ومصالح الأمن القومي الأمريكي ورخاء اقتصاده، سوف تعمل قوى تلك الإدارة الناعمة دورًا قياديًا في مكافحة “عودة الوعي” لدى الشعب العربي، من خلال إضعاف النخب والمؤسسات التي تدعم حملات تنشيطه واستمراره، وذلك من أجل هدف واحد ومحدد: إعادة هذه القارة إلى الوراء إلى ما قبل السابع من أكتوبر؛ لأن هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق شرعية إسرائيل كدولة يهودية طبيعية في قارتنا العربية يعتمد أمنها على تمكين ثقافة السلام ومحو الثقافة الجهادية.
وربما تكون تصريحات ترامب الأخيرة عن” الجحيم الذي سوف يندلع في الشرق الأوسط” إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن الأمريكان والإسرائيليين بيد حماس، هي خير معبر عن ما ينتظر قارتنا العربية خلال سنوات ولايته على كافة المستويات؛ وليس على مستوى الحرب والدمار المادي والموت للبشر فقط.
الجغرافيا في قارتنا العربية ليست وحدها هي مدار الحرب فقط، لكن العقول والقلوب كذلك ستكون ساحات لمعارك أشد ضراوة ستخوضها الإدارة الأمريكية متحالفة مع إسرائيل والأنظمة المتحالفة معهما لتغيير التاريخ والثقافة والعقيدة.
إن أخطر ما يحمله ترامب لقارتنا العربية هي تلك المخططات الثقافية التي سيترك مهمة تنفيذها لقواته الناعمة الكثيرة بعشرات وربما مئات الآلاف التي تنتشر في ثنايا مجتمعات قارتنا العربية لتُحيلها إلى رماد مجتمعات لا رابط بينها، بينما ينشغل هو بجني الثمار السياسية والغنائم الاقتصادية وربما جائزة نوبل للسلام لأفضل تاجر رئيس.