كتاب: نحو عمران جديد.. إعادة التفكير في أسئلة النهضة
تحرير: بشار كباد
جاء هذا الكتاب بوصفه جزءًا من مشروعٍ فكري هو «الفقه الاستراتيجي»، وقد تحدثت عنه المؤلفة في بداية الكتاب، إذ أشارت إلى أنَّ التراث الإسلامي هو نتاج ما أثْمرته العقول الإسلامية على مر الزمن، التي كانت تراعي جانبيْن: الأول تطبيق الرؤية الإسلامية تجاه الكون والحياة، والثاني تأدية حاجات الناس الدنيوية، فظهر نتيجة لذلك العديدُ من العلوم مثل الفقه والحديث والتوحيد والتاريخ غيرها، وقد ساهمت هذه العلوم بإقامة الجسور بين الدين والدنيا، لذلك جاء مشروع الفقه الاستراتيجي لذات الهدف الذي قصدته تلك العلوم التي ذُكرت، لا سيما بسبب حالة القصور الفكري والمنهجي الذي تعانيه الأمة، بالإضافة إلى محاولة ردْم الفجوة بين العقل الفقهي الإسلامي، والواقع وتحدياته؛ لِما للعقل الفقهي من قدراتٍ عالية برَزتْ في تاريخ أمَّتنا الإسلامية، وساهمت في نهضتها.
الفصل الأول: المنطلقات والدعائم والأسس
في هذا الفصل نجد أنَّ الكاتبة تتطرق بدايةً للحديث عن مفهوم الفطرة، إذ تشير إلى مفهومها اللغوي، وعن حضور هذه اللفظة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وذلك لإشعار القارئ بأهمية هذا المفهوم الذي ينْبني في الإسلام على مفهوم التوحيد، الذي يرتبط بقضية الخلْق والوجود، وترى الباحثة أن الفطرة تتشكل من خلال أربعة مفاهيم هي: الفطرة السليمة، والعقل، والوحي، والسنن الكونية. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تكون الفطرة شرًّا بطبعها، بل هي بيْضاء تميل إلى الخير طالما كانت في سياق اجتماعي، لكنها تبدأ تميل للشر إذا عاشت بعيدا عن الجماعة، إضافةً إلى أنَّ الفطرة ترتبط أيضًا بمفهوم الحرية، وهذا ما أكده الدين الإسلامي، فعلى الرغم من وجود طبقتي الأحرار والعبيد في المجتمع الإسلامي إلا أنه ساوى بينهم على اعتبار أنهم بشر، وعليهم الحقوق والواجبات ذاتها، ثمَّ حدد الإسلام مفهوم الحرية، فهي ليست حرية مطلقة غير منضبطة، بل لها حدود تقف عندها، فجعَل كل ما يمس الأخلاق والدين والآخرين حدًّا تقف عنده حرية الفرد، ويستحق من يتجاوزه أن يعاقب.
وبعد أن عالجت الكاتبة مفهوم الفطرة، وتشابكها مع الحرية، نجدها تنتقل للحديث عن تشابك العلاقة بين الفطرة ومفهوم الأمة، فالإنسان يرغب بفطرته في العيش ضمن مجتمع، وهذا المجتمع يبدأ أول أمره صغيرًا ثم يبدأ يتطور حتى يصل إلى مرحلة الأمة، لكن في العصر الحديث أخذت فكرة الأمة عند العرب بُعدًا قوميًّا استمر لما بعد فترة التسعينيات، إذ أقرَّ القوميون بعد ذلك بتأصُّل وجود الإسلام في تركيبة الأمة، حتى إنَّ الدول العربية التي قامت بعد سقوط الخلافة الإسلامية في إسطنبول على طابعٍ قومي بدأت تظهر فيها أصوات داعية لاسترداد الخلافة، وتغيير نمط أنظمة الحكم فيها التي لا تتوافق مع طبيعتنا المتصلة بالإسلام، لذلك تقترح الباحثة ثلاثة مفاهيم لإعادة بناء الأمة هي: الفطرة، ومفهوم العالمية، ومفهوم المجتمع المدني.
وقد عالجت الباحثة أيضًا قضية العمل، وناقشت فكرة التكليف فيه، فقد وضع الإسلام فرْضين، هما: فرضُ العيْن الواجبُ على كل فرد، وفرضُ الكفاية الذي إن قام به مجموعةٌ سقط عن الباقين، وهذا الأمر لا يعني أن بقية الأمة لا واجبات عليها تجاه من يؤدُّون الأعمال التي تدخل في نطاق فرض الكفاية، بل يجب علينا دعمهم والوقوف إلى جانبهم، لا سيما السياسيين الإسلاميين، الذين تصدَّوا للعمل السياسي بطابعٍ إسلامي، فلا يكفي أن تقوم الدولة بالفروض دون أن تُدعم من الشعب، وهذا الأمر يجعل العمل كاملا متكاملا، أما عن مفهوم الواجب، فلا بد من إدراك أنَّ ما يفرضه الإسلام على المسلم من واجبات تنعكس على أمته ودولته، فالأمانة والصدق، وعدم الغش وغيرها تساهم في بناء الفرد ومن بعده المجتمع والدولة.
ولا بد قبل النهضة أن ندرك أن العمران لا يكون إلا في ظل المجتمعات المسْتأنسة التي ينبع منها الخير، فكما تحدثنا عن ضرورة فهم كيفية العمل في الإسلام، وأنه لا يستثني أحدًا، نشير إلى أنَّ بناء الأمة وتعميرها لا يكونان في ظل مجتمعات متوحِّشة، انتكست فيها القيم الأخلاقية، وقد أشار نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في حديثه مع الصحابة إلى هلاك الأمة التي يكثر فيها الخبث، ولو كثُر فيها الصالحون، وأشار ابن خلدون إلى أنَّ الإنسان بطبيعته الفطرية خيِّر، لكنه ما إن يسقط في متاهات السياسة وصراع الحكم تبدأ هذه الفطرة بالميْل نحو الشر. لذلك تحاول الباحثة أن تؤكد على أنَّ البدء بعمران الدول والأمة ينبغي أن يكون في ظل مجتمع صالح، لأن العمران ليس مجرد بناء مدنٍ وأسواقٍ للتجارة والاستهلاك، بل هو حيِّزٌ مكاني يختزل مفهوم الأمان والسكينة والراحة، فقبل عمارة الأرض يجب عمارة الأنفس والأرواح.
وعند عمارة المدُن لا بد من ضرورة مراعاة الجوانب الإنسانية، والتفكير بالإنسان وحاجاته، فلا بد من توفير مساحةٍ للعيش يعتاش فيها ويبني فيها عالمه وخصوصيته، أن يتوفر له نظامٌ اجتماعي واقتصادي يحقق له الرخاء والأمن بمفهومه الشامل، لتتحقق في المجتمع مفهوم المعمورة الفاضلة التي طرحها الفارابي التي تتمثل بمجتمعٍ عالمي يسوده شرع الله، بوصفه أعلى سلطةٍ موجودةٍ على الأرض.
الفصل الثاني عن المجتمع والدولة
إن المتأمل في متن هذا الفصل يجد أنَّ الكاتبة تعالج العلاقة بين المجتمع والدولة، إذ إنَّ أي مجتمعٍ كبير يلزمه دولةٌ تحكمه وتسيِّر أمره، ولا يمكن فصل حضور مجتمعٍ عن مفهوم الدولة؛ فالمجتمع يحتاج لنظام يضبطه وييسر أمره، فلذلك نجد أنَّ الكاتبة تناقش مفهوم الدولة الحديثة التي يُنظر إليها بأنها وجدت لتسيير القضايا السياسية والاقتصادية وضبط وإدارة المجتمع، وحصر العنف المشروع بيدها، من قوة عسكرية، وتنفيذ العقوبات، وحتى ممارسة العنف المباشر من ضربِِ وسجن وقتل، وحتى منع الحرِّيات، وتقييد حركة الناس، وهذا المفهوم هو المفهوم السائد لدى كثيرٍ من الدول، وتتبعه في نهجها وتعاملها.
إلا أنَّ الكاتبة تقترح إعادة النظر في هذا المفهوم، وترى أنَّ الدولة الحديثة التي ينادي بها العديد من المنظِّرين لم تستطع القيام بواجباتها، وذلك في تحقيق الأمن والعدالة، والرخاء الاقتصادي وصوْن الحريات، لا سيما في مجتمعنا العربي الإسلامي، إذ إنها ركزت في منظومتها وأيدولوجيتها على الفكر القومي البحْت، ومن ثم انكفأت على قُطريَّتها، ونسيت كافة الشعارات الوحدوية التي كانت تصدح بها، فترى الباحثة أنَّ الحل هو بناء الوعي لدى الأمة، قبل البدء ببناء دولة حديثة؛ فالأمة تأتي قبل الدولة، مفهومها أوسع بكثير منها، فالأمة هي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يمارس الفردُ فيه كافة نشاطاته من شعائر الدين والعمل، والحياة، وغيرها، وتطرح الكاتبة أيضًا مداخل ضرورية للفهم والتجديد.
أما فيما يخص العلمانية وحضورها في الساحة العالمية والعربية، تذكر الكاتبة بدايةً أن مشروع القيام بدولة قومية وإسلامية -في الظروف الراهنة- هو مشروعٌ فاشل، إذ سيتحول النظام فيها إلى نظامٍ استبدادي باسم الإسلام، وهذا الأمر ينطبق أيضًا على الدول الرأسمالية والاشتراكية التي تنوي ضم الإسلام لنظامها، وهذا الأمر لن ينفع لأنه يجمع بين ضدِّين، لكن الكاتبة ترى أنَّ العلمانية تمثل حلًّا مؤقتا يكون بديلاً عن دولة الاستبداد، وتستبق الكاتبات ردود الفعل فتقول ينبغي أن نفكر: أي علمانية نقصد؟ إنها ترفض أن تكون العلمانية والإسلام ثنائية صلبة ثابتة على الدوام، بل ترى أن العلمانية منظومة مثل كل المنظومات الليبرالية والاشتراكية التي توافق الإسلام في شيء وتختلف عنه في شيء آخر، وأنها تصلح بديلاً مؤقتا في الحاضر. إن النموذج الدولة الذي عرفناه هو دولة حداثة مشوهة ومستبدة، تبسط الدولة فيها سلطتها على الدين عكسَ ما كان واقعًا في المجتمعات الغربية، وبالتالي فالعلمانية التي تدعو الكاتبة للتصالح معها ستحرر المجال أمام الخطاب الديني دون فرض واقعٍ عليه ليبدأ المجتمع بعد ذلك بالتحول تدريجيًا نحو الشريعة الإسلامية، والتخلِّي عن المبادئ القومية والاشتراكية والإمبريالية التي تشبعت بها بعض الدول والمجتمعات العربية وتفوَّقت في حضورها على حضور الشريعة الإسلامية. تصرِّح أن العلمانية التي تدعو إليها هي محطة انتقالية أو جسر للعبور إلى النموذج الإسلامي، وتدعو الكاتبة إلى تطوير رؤية في العمران والاجتماع والسياسة يمكنها تحمُّل وتلقِّي النموذج الإسلامي في السياسة، ومع ذلك فإنها كانت جريئة في استخدام مصطلح العلمانية؛ فهذا النوع من المفاهيم -ولو بيَّن الكاتب ما يعنيه به- سيبقى مثيرًا للجدل نظرًا لحمولته التاريخية والثقافية.
الفكرة الرئيسة التي تحاجج من أجلها الكاتبة هي أن واجب الوقت هو بناء نموذج حضاري متكامل؛ لا يستورد الحلول السياسية الجاهزة فحسب، بل يبني وعيًا حضاريًا يقدم البدائل في العمران: اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا. وأثناء اكتمال ذلك الوعي لا بأس بتقييم الواقع والتكيف مع الحلول المتاحة. وبالتالي ترفض الكاتبة الحلول السريعة التي تأتي من فوق، وتعوِّل على أن يكون ثمة اجتهاد جماعي لبناء الوعي الذي تحتاجة الأمة.
جزاكم الله خيرا