سبيل صلاح الأمة وأولويات نهضتها
تعثر ركب الأمة اليوم وكثُرت نوازلها وتداعت عليها الأمم؛ مما انعكس على مكانتها ودورها في الركب الحضاري، كذا دورها القيادي الذي اختصّها به ربُها؛ وذلك إثر تخليها عن دينها وتخلفها عن الأخذ بأسباب النهوض والعودة، وتجاهل السنن الكونية.
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
حال الخطاب الدعوي وكيف يجب أن يكون؟
ورغم عودة بعض الصادقين إلى المنهج القويم والصراط المستقيم للعمل على رفع الذل والهوان اللذين لَحِقا بخير أمّة أُخرِجت للناس، إلا أنّ هذه اليقظة على الصعيد الحركي لم تمتزج بمثيلتها في الجانب الدعوي، فما زال خطاب الدعاة الإسلاميين اليوم يكاد ينحصر بين الخطاب القتالي المحض بعيدًا عن الجماهيرية منعزلًا عن واقع عموم الأمة وبين الخطاب الإصلاحي والصوفي بصورته العصرية التي انحرفت عن معناها الذي تربَّى عليه السلف.
فلا تكاد ترى أثرًا لمشروع إسلامي مكتمل المعالم، يراعي الواقع مُستندًا إلى الدين كله من غير تفضيل ولا تخيير، ويأخذ بأقوال الأئمة والسلف كاملة دونما نقصان، ليدمجها مع تنظيرات المجتهدين من أبناء العصر؛ ليصنع خطته الخاصة التي تخضع لاحتياجات أمته متخطيًا تلك الرقعة التي أرادت وسائل الإعلام له أن يبقى فيها مدافعًا فقط، وبلا حراك.
اقرأ أيضًا: كيف نخاطب الجماهير برسالتنا؟
وما هذا الانشغال بمجابهة الثقافات الغربية وتفنيد ما تطرحه على أبناء أمتنا من إشكالات دونما منهجية واضحة للانتهاء من هذا الرد للبدء بإقامة مشروع أممي متكامل؛ سوى انعكاسٍ لسطوة الإعلام في تناول القضايا وكأننا أسرى لمن يطرح علينا الأسئلة ويحرك الإشكالات؛ فنجد تضخمًا هائلًا لقضايا المرأة والمواريث والسياسة والشبهات لدى الشباب المسلم، في حين أنَّ قضايا الأمة الأخرى والتي عني بها القرآن إذا بها قضايا باهتة لا تكاد ترى لها حضورًا.
وهذا الخطاب على عظمته وأهميته إلا أنه ما زال يفتقد لجوهر هذا الدين ومراده والصورة الكاملة التي نصَّ عليها الشرع وسار عليها السلف، وما هذا إلا بسبب غياب الترتيب الصحيح لجدول أولويات القرآن في خطابنا النهضوي والفكري، فدفعت ظروف الجدال الفكري الدائر بين الخطاب الفكري الإسلامي والهراء العلماني إلى انشغال الدعاة والشباب عن المراد
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
اقرأ أيضًا: أما آن أن ننتقل إلى مرحلة الحلول العملية؟
سبيل صلاح الأمة
الوقوف على حال الأمة
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ
كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
فالأخذ بالسنن واجب كما نصّ صريح القرآن: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” وهذه هي أولى الخطوات على طريق التغيير وصناعة النهضة الإسلامية الكبرى.
أخذ الدين كاملًا
يقول ابن تيمية في رسالته “العبودية”: «العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضى بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله».[1]
والآن قد انحصر مفهوم العبادة في القتال وإقامة الحدود والأحكام عند البعض، كما حصره آخرون في الصلاة والصيام والزكاة والحج، حتى الشهادة لم يعطوها حقها وشروطها الكاملة؛ فإذا حدَّثْتَ أحدهم حول قضية التوحيد والشرك وهي قضية مركزية الحضور في الخطاب القرآني نظر إلى حديثك هذا على أنّه حديث وعّاظٍ بعيد عن الجهاد والدفع والقتال، ولم يدرك أنه لن يستطيع القتال والجهاد إن كان عموم الأمة لم تصلح عقيدتهم وما زالوا يتعلقون بالقبور والأضرحة ويقدمون لها النذور والقرابين؟! وفي هذا الصدد يتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية:
فتبين أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق، بل لا نسبة بينهما؛ لأنه إذا هدي كان من المتقين {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2- 3]، وكان ممن ينصر الله ورسوله، ومَن نصرَ اللهَ نصرَهُ اللهُ، وكان من جند الله، وهم الغالبون. [2]
فلا ينبغي لنا حصر مفهوم العبادة ومقاصد الشريعة في النصر والتمكين وفقط، ولا-بكل تأكيد-في أعمال القلوب والصلاة والصيام والحج فقط، بل يجب أن ننظر إلى الشريعة نظرة شمول، وكذلك إدراك الآفاق والسعة التي جاءت الشريعة لتضبطها. فقال تعالى:
(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)
وإذا لم ننظر هذه النظرة الشاملة للمنهج الرباني، ولم يعمل الدعاة على ربط المسلمين بكامل المقتضيات التشريعية فلن يستطيعوا أن يربوا عاملين ومجاهدين، هذا لأنهم ابتعدوا عن أصول الإسلام ومقاصده ولم يمروا بتربية إيمانية تحملهم على تحمل تكاليف هذا الدين. فكيف لهم أن يحملوا قلبًا لم يجاهد حتى هواه على تقبُّل الابتلاءات والاختبارات التي سيمر بها؟ لذا يجب أن يتربى المسلم على كامل مقتضيات الدين ومقاصده كـ:
- التحيز للمؤمنين وموالاتهم.
- البراءة من الكفر ومواجهة الكفر والكافرين.
- إخراج الناس من الظلمات الضاربة عليهم إلى النور.
- تصنيع الأمة المسلمة ونشر الوعي.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- التزكية وإصلاح النفوس.
- الخُلق الحسن وثقله على الميزان.
- توطين النفس على عبادة الله.
- قضية الذِكر.
- عمارة النفوس بالله.
- حب الله والتوكل عليه.
- الاتصال بالآخرة.
- نورانية الإيمان الارتباط بالقرآن وبالله وبالرسول.
الجهاد والإعداد
فكما علمنا الواقع لا يمكن للخطاب الانهزامي معتزل الفتن والصراعات أن يُفضي إلى دفع عدو أو تغيير واقع، لذا شرع لنا ربنا الجهاد وأمرنا بالإعداد والعمل الحركي سواء كان إعلاءً لكلمة الله ونشرًا لدينه وتحكيمًا لشريعته، أم كان دفعًا عن الدين والنفس والعرض والأرض والمقدسات كما هو شأنه اليوم. قال تعالى:
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا
ويتحدث سيد قطب في الظلال عن صفة الجهاد ومقصده وصفة أهله فيقول: “فالجهاد في سبيل الله لإقرار منهج الله في الأرض، وإعلان سلطانه على البشر، وتحكيم شريعته في الحياة، لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس، هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد… وليس لأنفسهم من هذا حظ، إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك”
الأخذ بأسباب النهضة والقوة واستشعار المسئولية الفردية
يقول الأستاذ سيد قطب-رحمه الله-في كتابه هذا الدين: “إنَّ البعض ينتظر من هذا الدين، ما دام منزَّلًا من عند الله، أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب ودون أي اعتبار لطبيعة البشر ولطاقاتهم الفطرية”.
وما ينبغي أن يكون هذا التواكل حال أمّة تريد النهضة والرفعة، وقد خطَّ لنا ديننا سبيل الإصلاح والسعي والأخذ بالأسباب، كما اختصنا بوظيفة العمارة والإصلاح، وما كان ديننا دينًا كهنوتيًا يدعو إلى الاعتكاف في الصوامع والبِيَع، متناسيًا واقع الناس ومعاشهم. قال تعالى:
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
فلا يمكننا فصل الإعداد الروحي، عن نظيره الصناعي والحربي، ولا أن نبقى أسرى مناهج التعليم التي تأصِّل للخنوع وموالاة السلاطين عملاء كل عدوٍ لأمتنا والتطبيع مع المُحتلين. فلسنا معذورين فيما نعانيه من تأخر وتخلف ونحن لم نُعِدّ أو نتحرك لتغيير هذا الواقع وأسبابه. ففيما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن الجهاد لو سقط للعَجْز، فإنَّ المسلم لا يعذر بعدم الاستعداد له، ومالا يتمُّ الواجب إلاَّ به فهو واجب.” [3]
وهل هذا هو واجب الوقت؟
وربما يتساءل البعض: وهل يصح الحديث عن هذا في وسط المعترك ونحن مُستضعفون تتداعى علينا الأمم؟ بل كيف نجمع بين هذا وبين “من نزل بأرض قد تفشى فيها الزنا فحدث الناس عن حرمة الربا فقد خان”
بداية هل هذا سؤال منطقي؟ وهل قلنا بفصل الناس عن واقعهم، والمداراة في عرض منهج ربنا؟ فهذا سؤال يفرض وجود فصل بين التربية والطاعات والجهاد، بل يفرض أن هذا الدين مُجزَّأ نتربى ثم نصلي ثم نصوم ثم نُخرج الزكاة ثم نحج ثم نجاهد وهكذا.
فالتربية ليست منفصلة عن الواقع، وليست بعيدة عن ممارسة العمل الإسلامي، فلا يصح لنا القول بوقف العمل الإسلامي إلى أن تتربى الأمة وتتزكى النفوس! فالتربية تكون في سياق استمرار العمل للإسلام وبلوغ أهدافه، وتكون متماشية مع الوقائع الحقيقية التي يتعرض لها الإنسان، فالتربية لا تنتهي أبدًا، فكان يدخل الرجل اليوم في الإسلام فيتربى بالعمل والممارسة وينخرط في المرحلة التي يعيشها المسلمون أكانت مرحلة دفع أم طلب أم معاهدة أم إعداد، ولم يقل النبي لحديث عهد بالإسلام: “ارجع حتى تستكمل مرحلة التربية والتزكية ثم تترقى لتصل إلى مرحلة الجهاد معنا”
فمن يفصل التربية ومعسكراتها عن معسكرات الجهاد واهمٌ يعمل على منهج لن يصل به إلا إلى مزيد من الدماء والضحايا في الصف الإسلامي، فنُذبح كالخراف وما زلنا نعمل على التربية والتزكية!
فهل معنى هذا أن نبدأ الآن بالمقاومة والقتال؟
لا، فالجهاد ليس قتالًا فقط، بل هو إعداد قبل القتال، إعداد استراتيجي وعسكري وإعداد قادة، وكل هذا يحدث بالتوازي مع التربية، فلا تسمع لمن يريدك أن تدور في حلقات التربية والذكر دون أن يُعدّك لمعركة فاصلة كالتي يواجهها أهل سوريا والعراق واليمن. وهذا الإعداد لا بد وأن يسير وفق خطة زمنية محددة، لا نهاية مفتوحة تسمح بالتراخي.
فعرض الدين ناقصًا بدعوى عدم مناسبة المرحلة التي نمر بها؛ يُنذِر بعلمنة الدين وفصله عن واقع الناس، فتوقفنا عن الحديث عن هذه الأمور يدفع الناس إلى الاعتقاد بخروجها من دائرة الدين وأنها تخضع للقوانين الوضعية واتفاق الناس على ما ينفعهم، فيحق لهم عرض الرأي والرأي الآخر في قضايا الاقتصاد والمال والأعمال باعتبارها منفصلة عن العقيدة والدين.
وهل قامت نهضة وحضارة الغرب على مثل ما قامت عليه أمتنا؟
بداية يجب أن نسأل: وما مرادنا من النهضة؟ لنعرف بعدها أن النهضة وعمارة الأرض بل وحتى دفع المعتدين والصائلين والسعي لتحقيق الرزق والنفقة على مَن يَعول المسلمُ… ما كل هذا إلا انعكاس ومقتضيات وسبيل لتحقيق العبودية الكاملة لله، والفوز برضوانه والنعيم بجناته. فليست هذه المقتضيات منفصلة عن معالم المشروع الإسلامي، ولا عن سعي المسلم إلى الدار الآخرة.
لذا فالأخذ بالأسباب المادية نتساوى فيه مع كل أحدٍ مهما اختلفت تشريعاته ومعتقداته، ونختلف معهم في المراد والهدف. فهم يرجون الدنيا ويعملون لها، أما نحن فنرجو حرث الآخرة باتباع مراد الله واتباع شرعه، وحرث الدنيا تبع له بالإضافة إلى الأسباب المادية. يقول تعالى:
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ
فما ينبغي لنا التقصير في أسباب العودة إلى مكانتنا ولا التقصير في أسباب القوة والإعداد ثم نشكو ضعفنا وهواننا على الناس واستضعافنا، ولا أن نعتقد فيها كل الاعتقاد وأنها السبيل الوحيد للنهضة والريادة. فكما قال الفاروق -رضي الله عنه-:
إنَّما ننتصر بمعصية عدونا لله وطاعتنا له فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة.
المصادر
- رسالة العبودية لابن تيمية ص 38، دار المعارف الرياض. الطبعة الأولى (1404هـ).
- مجموع فتاوى ابن تيمية الجزء 14، ص 39.
- مجموع فتاوى ابن تيمية الجزء 28، ص 259.
- القضية التي بُعث بها الأنبياء، مقطع للشيخ إبراهيم السكران.
- مشروع إقامة وظيفة في الأمّة الإسلامية.
- إنشاء الأساس الأكبر للأمة الإسلامية – حازم ابو إسماعيل.
- منهج التزكية ومشروع المربي.