صفحات من دفتر الالتزام: تحسبه هينا وهو عند الله عظيم
إن الاستهانة هي أول خطوات التراجع والتكاسل وربما السقوط، قد يصغُر في عينك الذنب وتستهينه في حين هو عند الله عظيمٌ، وهذا الشعور إن صادفك في طريقك فعليك تدارُك نفسك والمسارعة للعلاج، فالمسلم المقبل لابد أن يحمل في صدره شعورًا بالتقصير باستمرارٍ، ورغبةً في التدارك والسَّبق لا تخمَد، يدفعه ذلك بقوةٍ للإنجاز والتصحيح فهو كالوقود لتلك الهمة، كالمحرض لتلك النفس، إنه أحد أسباب التميز والنجاح.
ولكن قد تفسد عليك صحبةٌ غير صالحةٍ هذا الرقي وقد تنسيك مكيداتُ الشيطان هذا النقاء، فتَؤُزُّكَ على إمعان البصر في محرَّمٍ وتستصغر في عينك غض البصر، فتَقبَل مستهينًا بهذا الأمر الجلل، وتقول لا مشكلة في إمعان النظر ففي النهاية أنا بشرٌ وإن هو إلا مجرد نظرٍ، وما علمْتَ أنك قد أسعدت عدوك وأسلمْتَه بعضًا منك يسوسها بهواه وحقده ليرديك في شرٍ لم تدركه.
قال الفضيل بن عياضٍ -رحمه اللّه-:
بقدر ما يصغُر الذّنب عندك يعظُم عند اللّه، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند اللّه.
هكذا تجد الملتزم قد يستصغر النظر في صورٍ محرمةٍ أو نساءٍ سافراتٍ أو مَناظرَ لا تنفعه في دينه ولا أخراه، وليته استجاب لأمر الله، وعفّ بصره ليوفر عليه الخطرة التي إن استمر في تهاونه ستصبح وسوسةً وإن تمادى في التهوين قويت وصارت شهوةً وقد تتحول إلى إرادةٍ ثم عزيمةٍ وحينها لن ينفعه ندمٌ!
سُئل بعضُ العلماءِ عن عِشقِ الصُورِ فقال: (قلوبٌ غَفلت عن ذكرِ اللهِ فابتلاها اللهُ بعُبُودِيَةِ غَيرِه) ولهذا فإن الاستهانة بمثل هذا الذنب من دلالات ضعف الإيمان.
قد تقول ومن منا لا يخطئ أو يزِل أو يتعثر، قلتُ ليست المشكلة في الخطأ والزلل أو التعثر إنما المشكلة كل المشكلة في تهوينها واللامبالاة بها وترك مجاهدة النفس لها وترك التوبة والاستغفار منها وكأنها لم تكن.
قال الحسنُ -رحمه اللهُ-: (المؤمنُ قوَّامٌ على نفسِه، يُحاسِبُ نَفسَهُ لله، وإنَّما خَفَّ الحِسَابُ يَومَ القيامةِ على أقوامٍ، حاسَبوا أنفسَهم في الدنيا، وشَقَّ الحِسَابُ على أقوامٍ يومَ القيامةِ، أخذوا هذا الأمرَ على غَيرِ مُحَاسَبَةٍ، فحاسِبوا أنفسَكم رحمَكم اللهُ وفَتِشُّوا في قلوبِكم).
تفقَّد قلبك في كل حينٍ يدعوك الهوى لمثل هذا الخطأ، فإن وجدته قلبًا يسعى إلى الطاعات والخيرات وينفِر من المعاصي والمنكرات. كنتَ من (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).[[1]]
وإن وجدت في قلبك الإنابة يحب الرجوع والتوبة إلى اللهِ فكنتَ مـِن (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ).[[2]]
فإن عرفت في قلبك الوجل تخاف من الله عز وجل، وإن ذُكِّرت به كنت من (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).[[3]]
فإن عرف قلبك التقى… وجدتَ نفسك تعظم شعائر الله (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِر اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).[[4]]
اجعل من هذا التشخيص زيادة عزمٍ على الثبات والاستقامة ومواصلة المسير بلا كللٍ ولا مللٍ.
وتحصَّنْ حتى لا يتحول قلبك إلى قلبٍ أسودَ بغيضٍ لا يعرف الإيمان قد تشبَّعَ بالمعاصي والذنوب حتى أصبح قاسيًا من غضب الله عليه، وهذا حال القلب الغافل، الذي انشغل عن أداء فروضه وواجباته وما خُلق له في هذه الحياة، فكان ممن نسي الله فنسيه! وربما الخطر كل الخطر أن بدايته كانت من الاستهانة بالذنب يحسبه هينًا وهو عند الله عظيمٌ، أو الإصرار على ذنبٍ متعمدًا وهو في عينه لا يستحق التهويل في حين هو سبب بداية السقوط.
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: “لو عَلِق مسمارٌ بثوبك لرجعت إلى الوراء لتخلصه، فأين مسامير الذنوب”. وقال الحسن البصريُّ -رحمه اللّه-: “إنّ العبدَ لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبةُ مِن هِمّتِه”.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كله وإذا فسدتْ فسد الجسد كله” [[5]] وهذا ما يفسر تركيز إبليس على القلب وتخصصه في الوساوس واستعانته بالشهوات وتزيينه للباطل، ونصبه المصايد والحبائل التي لا يمكن لبشرٍ تجاوزها دون الاستعانة بالله تعالى والسعي لمرضاته والفرار إليه في السراء والضراء، وتحقيق العبودية الخالصة لله فيأمَن بـ(عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ).
ومن داوم النظر في الشهوة، وما يتصل بها متعمدًا، قد يكون أعظم بكثيرٍ ممن وقع في شهوةٍ بلا قصدٍ منه بعد استدراج شيطانِ إنسٍ له. ثم إن جاءتك موعظةٌ أو ذكرى فإياك أن تستكبر وتأخذك العزة بالإثم وتكون ممن قال الله فيهم: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ)[[6]] وتذكَّر أن (كل بني آدم خطاءٌ، وخير الخطائين التوابون)[[7]] فإن أخطأتَ فأصلح خطأك بالرجوع والتوبة ومحاسبة النفس وتذكر قول الله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)[[8]] واعتمِد هذه القاعدة في مسيرتك: من أساء سرًا أحسن سرًا، ومن أساء علانيةً أحسن علانيةً.
وقد قال بعض العلماء: لا بد للإنسان من شيئين: طاعتِه بفعل المأمور وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور. فإن استقمتَ ستجد نفسك بين هذه الثلاث طاعةٍ وتركٍ وصبرٍ.
وانظر لرحمة الله بك، فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكَرِهه وألقاه؛ ازداد إيمانًا ويقينًا، كما أن كل مَنْ حدثته نفسه بذنبٍ فكرهه ونفاه عن نفسه، وتركه لله ازداد صلاحًا وبِرًا وتقوى، وهذا من كرم الله ورحمته بعباده وتيسيره لمن أحب القرب من الله وكره الذنب لأنه يبعده عن الله.
وعليك أن تدرك أن المطلوب منك هو الاستقامة وهي السداد فإن لم تقدِر عليها فلا أقل من المقاربة لأنك إن نزلت عنها فقد وقعت في التفريط والإضاعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل”[[9]].
وقد قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركةٌ في طلب الكرامة وربك يطالبك بالاستقامة. وفي ذات السياق قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.
ثم اعلم أن الإنسان حين يكثر من الذنب ويتعود على الزلل فإنه يعاني حالة ضعفٍ في الإيمان، وهو بحاجةٍ لتجديده وتقويته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان لَيَخْلَقُ في جوف أحدكم كما يَخْلَقُ الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)[[10]] وفي روايةٍ أخرى (فجددوا إيمانكم بلا إله إلا الله).
قال ابنُ القيّم رحمه الله: “متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله، فاعلم أن قحطها من قسوة القلب”. وهذه من الأعراض التي لا بد أن تدفعك للعلاج لا للتثاقل والتنازل…!
وهكذا قد يعتليك أحيانًا سحابةٌ من سُحُب المعصية كما وصف ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ببلاغةٍ عجيبةٍ: [[11]]
ما من القلوب قلبٌ إلا وله سحابةٌ كسحابة القمر، بينما القمر مضيءٌ إذ عَلَتْه سحابةٌ فأظلم، إذْ تجلَّت عنه فأضاء.
فبادر للاستعانة بالله، بالفرار إليه، بمناجاته… ببثه شكواك وأحزانك وطلب مغفرته ومعونته، ليحل النور من جديدٍ وتسكُن تلك النفسُ.
وقد تتعجب حين تقارن نفسك بالأمس القريب، حين كان إيمانك قويًا، وكنت المقبل الشغوف، المجتهد في العبادات بنشاطٍ، تستشعر معه سهولةً ويسرًا و رِقةً في القلب ودمعًا في المُقل، بينما اليوم أنت تعاني الكسل، تشكو قسوةً في القلب، وجفافًا في المقل، يسهُل عليك الوقوع في المعصية وأنت تتساءل كيف أقع في مثل هذا الذنب وأنا الملتزم المقبل، فتذكَّرْ حينها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم لجاء بقومٍ يذنبون ثم يستغفرون فيُغفر لهم)[[12]]، ولهذا جعل التوبة والاستغفار هي العلاج حتى لا تيأس ولا تنتكس ولا تستسلم للمعاصي والذنوب.
هي حقائقُ عليك معرفتها حتى لا يستغل الشيطان الفرصة تلوَ الفرصة فيختطفك من حلقة النور ويرمي بك في قاع الظلام، إياك والاستهانة بالذنب، كن من المحاسبين للنفس دوريًا، كن من المكفِّرين للذنوب، ومن التوابين لله ومن الحريصين على السداد والمقاربة. واستعِن بـ(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ)[[13]] ولتكن كبوة الفارس سببًا في زيادة إيمانه وثباته وإصراره على مواصلة طريق الاستقامة، لا التراجعِ والتنازل والاستسلام لِغِواية الشيطان، والله لن يضيع إيمانك واجتهادك وإخلاصك…
هذه كانت صفحةً من صفحات دفتر الالتزام، العناية بها جزءٌ من العناية بأسباب الالتزام والثبات على طريق الله المستقيم… فاستعن بـ (واذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)[[14]] وتذكَّرْ إنما العلم للعمل.
المصادر
- 1.الرعد 28.
- 2.ق 33.
- 3.الأنفال 2.
- 4.الحج 32.
- 5.رواه البخاري ومسلم.
- 6.المدثر (49-51)
- 7.صححه الألباني.
- 8.القيامة 36.
- 9.رواه البخاري ومسلم.
- 10.الصحيحة للألباني 1585
- 11.أخرجه أبو نعيم في الحلية (2⁄ 196) سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 2268.
- 12.رواه مسلم.
- 13.هود 114.
- 14.الأعراف 205.