مدخلٌ إلى نظرية المعرفة
هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: Epistemology, or Theory of Knowledge لكاتبته: Thomas Metcalf في موقع: 1000wordphilosophy.com. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
يعتقد الكثير من الناس أنّ لهم من المعرفة قدرًا كبيرًا، ويعتقدون أيضًا أنّ الآخرين يعرفون فعلًا ما يدّعون أنهم يعرفونه. لكن ما هي المعرفة على كل حال؟ وكيف نحصل عليها؟ وهل من المهم أن يكون الإنسان ذو معرفة؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا؟
يُعرف فرع الفلسفة الذي يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة وما شابهها بـ “الإِبيستيمولوجي”، أو “نظرية المعرفة”.
ما هي المعرفة؟
أحد التعريفات الشائعة تاريخيًّا لــ “المعرفة” هي: المعرفة المُبرّرة، أي المعرفة المُبرهنُ عليها، فهي “الاعتقاد الصائب”. بالنسبة لمعظم الفلاسفة، ينبغي للاعتقاد أن يكون صحيحًا حتى يمكن اعتباره “معرفةً“. لنفترض -على سبيل الشرح- أن المدعوّ أحمد مُتورِّطٌ في جريمة، وأن الأدلّة ضده ساحقة، لكنّه في حقيقة الأمر بريء كلّ البراءة، فهو لم يرتكب أي جُرم. هل تعرف هيئة المحلّفين أن أحمد ارتكب الجريمة فعلًا؟ لا، لكن لأنّ المعرفة تتطلب الدليل، صدّقت هيئة المحلّفين أنّ أحمد ارتكب الجُرم.
ويعتقد معظم الفلاسفة أنه ينبغي على الاعتقاد أن يكون مُبرّرًا. نحن لا نعتبر التخمين مثلًا “معرفة”. إذا قمت بقلب عملة معدنية في الهواء، ودون أن تنظر إلى النتيجة آمنتَ أنّ الوجه الذي ظهرت عليه العملة هو الرأس، وقد ظهرت في الحقيقة على الرأس فعلًا، لكننا لا نعتقد مع ذلك أنك كنت “تعرف” أنّها ظهرت على الرأس؛ لأنّ المعرفة يجب أن تكون مُبرهنة. ويجب أن نذكر أن هناك جدلٌ كبير حول ما هو “البرهان” حقًّا.
تحليل البرهان
ما هو المطلوب لنجعل من التخمين المعتمِد على الحظّ معرفةً؟ أحد الإجابات القياسية هو “البرهنة”.
يجب أن يكون لك سببٌ وجيهٌ للاعتقاد بأنّ العملة ظهرت على الرأس؛ كأن تنظر إلى العملة مثلًا. بشكل عام، تقول نظريات البرهنة: أن العوامل التي تبرر اعتقادك يجب أن تكون متاحةً في تجربتك الواعية من منظور الشخص الأول، كما يمكن ألا تكون كذلك. نحن نطلق على النظريتين الأولى “الداخلية” والثانية “الخارجية”، (يُعرِّبُهما البعض بـ “الداخليانية، والخارجيانية”، إلا أنّنا نفرنا من هذا التعريب فلا وجود لهذا الوزن في اللغة العربية).
بعض الداخليين هم من “الإثباتِيين”، يقولون إنّ بُرهانك يعتمد على الدليل الذي لديك مُثبَتٌ به، مثل إدراكك أن على رأس العملة المعدنية صورةُ رئيس، فإذا نظرتَ ووجدتَ صورة الرئيس، فأنت تعرف أن العملة ظهرت على الرأس ببرهانٍ مُثبت. وبعض الخارجيين يعتمدون على “الموثوقية”، فقولُهم هو ما إذا كان البرهان على اعتقادك قد تم تشكيله من خلال آلية موثوقة أم لا. على سبيل المثال: العملية الفيزيائية للرؤية. لدُعاة الإثبات، وعيُك بأنّ العملة قد ظهرت على الرأس، هو أمرٌ “داخليٌّ” من منظور الشخص الأول؛ لأنك نظرتَ فوجدت وجه الرئيس. أما بالنسبة للسائلين عن “الموثوقية”، فإنّ عمليّة تشكيل الدليل “خارجة” عن وعيِك المنطلق من منظور الشخص الأول.
مصادر المعرفة والبراهين
لقد عرفنا ما معنى أن تكون لك مُعتقداتٌ مُبرهنٌ عليها ومُبرّرة، لكن عندما تكون معتقداتنا مُبرْهَنٌ عليها، ما هو مصدر ذلك البرهان أو تفسيره؟
بالتأكيد نعتَمِد على الملاحظة التجريبية كاستخدامِ حواسنا الخمس، وأدوات العلم، وكذا التأمل الذاتي، لنحصل على بُرهانٍ ما.
ربما هناك بعض المعارف التي نكتسبها من خلال الحدس أو التعريفات أو بعض الأدلة غير التجريبية المفترضة الأخرى. نحن نسمي هذا النوع من المعرفة أو البرهنة بـ “المعرفة المسبقة”؛ هي معرفة مُبرّرة ولكن بشكل مستقل عن أي ملاحظة تجريبية معينة أو إدراك للأدلة أو التبرير المطلوب. فأنا أعرف -بمجرد التفكير في الأمر- أنه لا يمكن أن تكون هناك عُملاتٌ معدنية مُربعة أو مستطيلة الشكل. لست بحاجة لاستشارة عالمٍ لأعرف هذا.
بشكلٍ تقريبي، يعتقد العقلانيون أنّ لدينا معرفة مسبقة مهمة وقيِّمة عن العالم، معرفة لا تتعلق فقط بمعاني كلماتنا ومدلولاتِ مفاهيمنا. في المقابل، يعتقد التجريبيون أن كل معارفنا المهمة عن العالم هي معلومات تجريبية.
وأبعد من هذا، يجادل علماء المعرفة النسويون بأن معرفة المرء وما إذا كان يمكن أن تؤخَذ معرفته على محمل الجدّ، يعتمد على وضعه الاجتماعي، بما في ذلك الجنس.
هيكل المعرفة، والتبرير والاستدلال
عادة، نؤمِن أن يمكننا استنتاج معتقدات جديدة من معتقداتنا المسبقة: نؤمن بافتراضات معينة، وعلى أساسها نستنتج بعض الافتراضات الأخرى الصحيحة.
إذا طلب منك شخصٌ تبرير اعتقاد ما، فمن المحتمل أن تستشهد بمعتقدات أخرى سابقة لديك. أعلم أن القارة القطبية الجنوبية موجودة، لأنني أعتقد أن الخرائط موثوقة بشكل عام، وهذه الخرائط تدّعي أن القارة القطبية الجنوبية موجودة. ولكن، هل يمكن أن يستمر هذا التراجع في الاستدلال إلى الأبد؟
أحد المواقف المشهورة هو التأسيسية. يقول التأسِيسيون: أن التراجع في الاستدلال سوف يقف عند المعتقدات المبررة، وبما أن التراجع قد توقف، فإن هذه الاعتقادات لا يمكن تبريرها بأي استدلال من أي معتقد آخر.
هناك موقف شائع آخر وهو التماسك، حيث يتم تبرير معتقدات المرء من خلال كونه جزءًا من شبكة من المعتقدات المتماسكة. نعتقد أن مجموعة من الاستدلالات يمكن أن تعطينا معتقدات مبررة، ولكن من الممكن اكتساب معتقدات خاطئة أو غير مبررة والتي لن تُعتبر “معرفةً” في آخر المطاف.
الشكوكية
بشكل عام، ينكر الشّكوكيون أن لدينا كتلةً من المعرفة. إنهم يُشككون حول ما إن كان لدينا:
- معرفة بالعالم الخارجي، أي العالم الذي يتجاوز خبراتنا الواعية
- المعرفة الأخلاقية
- المعرفة الدينية
- المعرفة من الذاكرة أو معرفة الماضي
- المعرفة من الاستقراء
- المعرفة العلمية
- معرفة العقول الأخرى
وقد أيّد بعض الفلاسفة الشكوكيّة العالمية، والتي وفقًا لها لا نملك أية معرفة أو معتقداتٍ مبررة على الإطلاق.
مُشكلاتٌ وقضايا أخرى
نظرية المعرفةِ هي عالمٌ واسع، وتشمل العديد من القضايا الأخرى، منها ما يلي:
- طبيعة الإدراك
- طبيعة الفهم
- هل يجب أن نثق فيمن يختلفون معنا؟
- العلاقات بين نظرية المعرفةِ والثقة والعدالة
- كيف يجب أن تؤثر علينا أسباب الاعتقاد الأخرى أو تحدد ما إذا كانت لدينا معرفة؟
- ماهي القيمة -إن وُجدت- في اكتساب المعرفة؟
- ما إذا كانت المعرفة تعني الشيء نفسه في جميع ومختلف السياقات
- ما إذا كانت المعرفة تتطلب اليقين
- هل يجب على الفلسفة أن تكون مُتماشية مع العلم، أم يكن استبدالها به؟
وغيرها الكثير.
خاتمة
يعتقد بعض الفلاسفة أن نظرية المعرفة هي “الفلسفة الأولى”، وهي الأساس لبقية الفلسفة؛ لأن جميع مجالات الدراسة والتعلم تسعى إلى الفهم، وإلى المعتقدات المبررة، وإلى المعرفة الحقة. إن كان هذا الاعتقاد صحيحًا، فإن فهمًا بسيطًا لأَساسيات نظرية المعرفة مطلوبٌ من جميع المفكرين.