الظلم المعرفي.. الأشكال ومقترحات لكيفية منعه
هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: Epistemic Injustice لكاتبته: Huzeyfe Demirtas في موقع:1000wordphilosophy.com. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
لنفترض أن هيئة المحلّفين في جلسةٍ ما رفضت شهادة أحد المدّعى عليهم لكونِه أسود البشرة لأنها تعتقد أن السود غالبًا ما يكونون غير جديرين بالثقة. أو افترض أن أحد الأعضاء الرّجال في مجلس إدارة ما رفض اقتراح زميلةٍ له لأنه يعتقد أن المرأة غالبًا ما تكون أقلّ عقلانية.
لقد عانى هؤلاء المذكورون أعلاه مما أسْمته الفيلسوفة الإنجليزية المعاصرة “ميراندا فريكر” بـ “الظلم المعرفي”. “معرفي” لأنه مُتعلّقٌ بالمعرفة. يُشير الظلم المعرفي إلى ظُلمٍ ارتُكِب في حق شخص كعارفٍ أو ناقلٍ للمعرفة: بسبب التحيز غير المبرر، يُحكم على شخصٍ ما بشكلٍ غير عادل بأنه لا يمتلك المعرفة أو المعتقدات المعقولة التي يمتلكها بالفعل.
تحدد فريكر شكلين من أشكال الظلم المعرفي: ظلم الشهادة، وظلم التأويل. يشرح هذا المقال هذه الأشكال من الظلم المعرفي ويستعرض بعض الاقتراحات حول كيفية منعها.
ظلم الشهادة
إنّ الشهادة ببساطة، هي أن يشارك شخصٌ ما معرفتَه مع شخصٍ آخر. تحدث الشهادة عادة عندما يتواصل الناس، على سبيل المثال: إعطاء توجيهات، نقل الأخبار، أو كتابة ورقةٍ بحثية. الشهادة ليست مجرد أقوال في قاعة المحكمة، فكلما اكتسبنا معرفةً من أشخاص آخرين، نحن اعتمدنا على الشهادة. فإن سألنا عن موقع مكتبة المطالعة مثلًا، نحن نعتمد على شهادة الشخص الذي سألناه، فهو قد زارها من قبل، أو مرّ عليها، فشهِد مكانها، وشهِد لنا بمكانها. تكون الشهادة ذات مصداقية عندما يكون هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن ما يُدّعى صحيح، عندما يكون الشخص الذي يدلي بشهادته يعرف حقًا ما يدّعي أنه يعرفه.
يُعاني المتحدث من ظلم الشهادة عندما يتم الحكم على شهادته بأنها ليست ذات مصداقية أو بأنها أقلّ مصداقية بسبب تحيُّزٍ ما وليس لأن الشهادة نفسها غير معقولة؛ قد تكون هذه التحيّزات عرقية، جنسية، عُمرية، وغيرها، وهي تؤثر على الناس في العديد من مجالات الحياة: الاقتصادية، التعليمية، المهنية، الجنسية، القانونية، السياسية، والدينية وغيرها الكثير. تشكل هذه المظالم التي تُسبّبها التحيّزات المسبقة القضية المركزية لمفهوم “ظلم الشهادة”.
ظلم التأويل أو الظلم التأويلي
يُعرف النوع الثاني من الظلم المعرفي بالظلم التأويلي. “التأويل” تُشير إلى التفسير والفهم.
لنضرب مثال بالتحرّش الجنسي. على الرغم من أن ما سأقوله قد يبدو مفاجِئًا، إلا أنّ مفهوم التحرش الجنسي لم يكن موجودًا دائمًا. لذا، تخيلوا امرأة تعرّضت لتحرُّشٍ جنسيٍّ في مكان ما قبل ظهور هذا المفهوم في السبعينات، هي تعيش في مجتمَع يعتبر التحرّش الجنسيّ مجرّد شكلٍ من أشكال “المُغازلة”، ويعتبر رفض المرأة له على أنّه “افتقارٌ إلى روح الدعابة”. نظرًا لأن المرأة تفتقر إلى مفهوم التحرّش الجنسي، فإنها ستجد صعوبةً في فهم تجربتها بشكل صحيح، وتوصيلها للآخرين.
إذًا، يتعلق الظلم التأويلي بحالات الافتقار إلى المفاهيم لفهم تجربةٍ ما أو نقلها بشكلٍ صحيح ومناسب. يحدث الظلم التأويلي عندما يكون هذا الفشل راجعًا في النهاية إلى تحيُّزاتٍ تؤدي إلى افتقار الناس للمفاهيم اللازمة لفهم أو توصيل تجاربهم. فيرجع افتقار المرأة إلى مفهوم “التحرش الجنسي” للتحيُّز الذي أدّى إلى استبعادها جزئيًا من مِهَنٍ معينة كالصحافة والسياسة والبحث الأكاديمي والقانون، وهو ما أدّى إلى تفسيراتٍ متحيِّزة لتجارب المرأة، كما هو الحال مع التحرّش الجنسي الذي فسّره الرّجال على أنّه مجرد شكلٍ من أشكال المغازلة.
يُجادل البعض بأن الظلم التأويلي لا يصدر بالضرورة عن نقصٍ في المفاهيم؛ لأنه قد يقع إذا ما تم رفض تأويل خاص بمجموعة معينة لمفاهيم حقيقية، على سبيل المثال: قد يتم رفض اكتئاب ما بعد الولادة كحالةٍ طبية حقيقية، ويتم اعتباره في مقابل ذلك عيبًا شخصيًّا، وهذا ما يُسمّى بـ “المعارضة التأويلية”.
خِلافًا لظلم الشهادة، فإن الظلم التأويلي لا يخرج من تحيُّزٍ ما من فردٍ أو مجموعة، وإنما يكون نتيجة ممارسات ضارّة في المجتمع تؤدي إلى افتقار الناس إلى مفهومٍ ما.
لماذا الظّلم المعرفي هو أمرٌ خاطئ؟
إنّ إنتاج المعرفة ونشرها هو جزء من كيان الإنسان، ولكنّ الظلم المعرفي يؤدي إلى استبعاد الضحايا جزئيًّا من المشاركة في هذا النشاط.
يمكن أن يؤدي الظلم المعرفي إلى عواقب عملية وخيمة لكل من الضحايا والظالمين بحدٍّ سواء؛ لأنّ المُدّعى عليه قد يفقد حريته أو حياته كلها، وقد يؤدي عدم الاستماع إلى عضوٍ في مجلس الإدارة إلى عواقب وخيمة في مستقبل الشركة.
إن الظلم المعرفي يضر أيضًا بهوية الضحية؛ لأننا نُعرِّف أنفسنا عادة من خلال هوية الجماعة التي ننتمي إليها؛ كالهوية العرقية أو الدينية أو السياسية وأكثر من ذلك، كما أننا نبني هذا الجزء الكبير من هويتنا إلى حد مُعتَبرٍ من خلال التواصل مع الآخرين واستخدام الموارد المفاهيمية المتاحة.
لذا، فإنّ اعتبارنا غير جديرين بالثقة، أو أننا نفتقر إلى المواد المفاهيمية التي تخوّلنا فهم تجاربنا قد يمنعنا من بناء هوّيتنا الاجتماعية، من أن نصبح ما نحن عليه، وأن نفخر بما نحن عليه. إذا كان الشابّ مهتمًّا بالسياسة، وله الموهبة والمهارات الدبلوماسية بالفطرة، فإن منعه من ممارستها لكونِه صغير السنّ سيحول دونه وتحقيق إمكانياته في أرض الواقع.
كيف نمنع الظلم المعرفي؟
لمنع الظلم المعرفي تقترح فريكر أن نُنَمِّي سماتٍ شخصية محمودةٍ وفضائل مرغوبة تحُدُّ من التحيُّز غير المبرر. يجب أن نهدف إلى أن نكون مدركين لـ “التحيز المحتمل”، إذا وجدنا أننا نستمع لشخصٍ وولّيناه مصداقية منخفضة، علينا أن نتحقق ما إن كان هذا الموقف قد نتج عن تحيُّزٍ مسبق، فإن كان كذلك، وجب العمل على تغيير هذا الموقف.
نظرًا لأنّ ضحايا الظلم المعرفي والتحيّز قد يواجهون صعوبة في التعبير عن تجاربهم، يجب أن نحاول البحث عن كيفية فهم تجاربهم في مناخ لا يُعكِّره أي تحيُّزٍ مسبق.
يُجادل البعض بأن الجهود الفردية -على الرغم من أنها قد تكون مفيدة- قد لا تكون كافية لهزيمة الظلم المعرفي، على سبيل المثال: التعليم هو علامة المصداقية، لكن الافتقار إلى التعليم المناسب والفعّال قد يكون راجعًا إلى عدم وجود فرص عادلة للتعليم. لذلك، يُنظر إلى بعض الأشخاص بشكل غير عادل ويتم التخفيض من مصداقيتهم ليُسْتَبعدوا بعدها من المشاركة في الأنشطة المعرفية، وهذا كما بانَ وظهر سببه الظلم الكامن في المؤسسات الاجتماعية. فهنا، والحالة هذه، يتطلب الحل تعديلاتٍ مؤسّساتية، أو تغييرات في المؤسسات الاجتماعية، وليس فقط جهودًا فردية.
ختام
من الصعب المبالغة في تقدير قيمة (الاعتراف) بأنّ شخصًا لديه المعرفة. لذلك، من الصعب في الجهة الأخرى المبالغة في تقدير سوء الظلم المرتبط بالمعرفة. ومع ذلك، فإن معالجة هذا الظلم وتجنّبه هو أمرٌ يتطلب تغييرًا اجتماعيًا وسياسيًا، وغالبًا ما يتطلب جهدًا شخصيًّا جادًّا.