سبيلُ القانتات، قد رشدَت من كانت الصالحات تهديها السبيل
كنتُ أحب تتبع أخبار الصحابة -رضي الله عنهم-؛ حيث يتجلى فيهم حب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كأحب ما أنت سامع وراءٍ من حب مسلم لنبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وكنت كأي رجل أعزب يحب أن يرزقه الله بزوجة صالحة قانتة لله -تعالى شأنه-، تطيعه في المعروف فلا يرى منها إلا ما يسرُّه؛ وأكثر ما يسرُّ الرجل أن يرى زوجته طائعة له، هيّنة ليّنة تنقاد له في المعروف، لا تسوؤه بنشوز أو تتكبّر عن طاعته في غير معصية الله -جلَّ شأنه-.
فإذا رآها قانتة لله، سهلةً هيّنة ليّنة معه، كان معها سهلًا ليّنا إذا هَويَت شيئًا تابعها عليه؛ يقتدي بسيد الرجال -صلى الله عليه وسلم-، وحاله مع سيدة القانتات من بعدها الصديقة -رضي الله عنها-.
وأكثر ما يبغضه أن يبتليه الله بامرأة صعبة مغرورة، تُكثر النشوز عليه، فيها من الكِبر الخفيّ ما يجعلها تنازعه قوامته في بيته؛ فتنغص عليه حياته كما يسمع ويرى الآن من كِبر كثير من النساء عن طاعة أزواجهن في المعروف، بما أفسدت النسويات من فطرتهن. وإنا لله وإنا إليه راجعون. أما المؤمن والمؤمنة مع أحكام الله جلَّ ثناؤه؛ فكالجملِ الأَنِف حيثما قِيدَ انقاد.
فكنت في ذلك أحب تتبع أخبار زوجات الصحابة -رضي الله عنهن-، تنفيسًا عن نفسي من كثرة سماع أخبار من نشزت على زوجها، وتكبّرت عن طاعة ربها متمثّلةً في طاعة زوجها؛ فعند أقل خلاف تترك بيتها وتطلب الطلاق وتبتزه بالأوراق القانونية، وغيره مما نرى ونسمع على هذه المواقع مواقع التواصل الاجتماعي؛ والله المستعان.
ورجاءَ أن يرزقني الله بامرأة تقتدي بهن، وتحب أن تسلك سبيلهن، فأحببتُ جمع بعض مواقفهن في منهاجٍ واحدٍ؛ يكون سبيلًا لمن أحبت أن تسلك سبيل القانتات فتكون خلفهن تنظر ما صنعن؛ فتصنع مثلهن، تسير حيث سِرن، وتقف حيث وقفن، وتقفو أثرهن. وقد رشدَتْ من كانت القانتات يهدينها السبيل.
فكنتُ ومازلتُ أحب الوقوف مع أخبار الصحابة -رضي الله عنهم- مع زوجاتهم -رضي الله عنهن-؛ التي تتميز بنوع من التضحية في المال أو السكن أو الطعام، وما في هذه المواقف من بعض التضييق على الزوجة في الدنيا. والأنثى قد فطرها الله تحب الرفاهية والزينة؛ فيشق عليها فطرةً ضيق العيش وقلة ذات اليد إلا من رحم الله من القانتات، فصبرت وأطاعت زوجها فيما فيه مشقة عليها فطرةً، والله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.
فذهبتُ أتتبع بعض هذه المواقف وأتساءل في نفسي: ماذا كانت ردة فعل زوجة هذا الصحابي أو ذاك، وما قالت له حينما أنفق ماله كله في سبيل الله أو ضيّق عليها بعض الشيء في البيت أو في النفقة أو الطعام أو المسكن لأجل دينه وحبه لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ أو أمرها بشيء ترى فيه مشقة عليه وعليها؟ وما أمرها إلا لأجل العمل لدين الله وحبًّا لرسوله -صلى الله عليه وسلم-. وخصوصًا إذا ذكر الصحابي في الرواية ردة فعل زوجته أو مشاركتها له في ذلك العمل بكل مودة وحب ورحابة صدر.
أو أحاول توقّع ردة فعلها التي لم تُذكر في الرواية ولكنها كانت بلا ريب عظيمةً؛ حيث لم يُذكر ما يضادها مما نرى ونسمع في زماننا من التأفف والتبرّم وسوء العشرة أو النشوز؛ إذا أمر أحدهم زوجته بما ليس بمعصية أو بما فيه طاعة، أو بتضحية تخالف هواها كأن يقتطع جزءًا من ماله لأمه أو لأخيه أو قريبه المحتاج أو لفقير عائل؛ وهي كانت تريد ذلك المال لتدخره لأبنائها أو لنفسها وزينتها وغير ذلك. مما نرى ونسمع في زماننا هذا حتى كدنا نظن أنه الأصل في النساء. وكلهن هكذا إلا من رحم الله والمُوفَّق من وَفَّقهُ الله -تعالى-.
أم أيوب
فكنتُ ولا أزالُ، كثيرًا ما تأسرني قصة أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- في استضافته لسيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- في بيته في أول الهجرة؛ حيث نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته أول مَقدَمِه إلى المدينة قبل بناء مسجده -صلى الله عليه وسلم-. وخصوصًا قوله -رضي الله عنه- في ثنايا الرواية: “فقمت أنا وأم أيوب بقطيفةٍ لنا، ما لنا لحاف غيرها”، وقوله: “تيممتُ أنا وأم أيوب موضع يده”.
روى الإمام ابن إسحق في السيرة عن أبي أيوب الأنصاري حين نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهله في الطابق الأول، وأبو أيوب وزوجته في الطابق الثاني فقال: “فَلَقَدْ انْكَسَرَ حُبٌّ لَنَا فِيهِ مَاءٌ. فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ بِقَطِيفَةٍ لَنَا، مَا لَنَا لِحَافٌ غَيْرَهَا، نُنَشِّفُ بِهَا الْمَاءَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيَهُ. قَالَ: وَكُنَّا نَصْنَعُ لَهُ الْعَشَاءَ، ثُمَّ نَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ تَيَمَّمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ”.
لقد تعمّد -رضي الله عنه- ذكر مشاركتها له وهو ممتنّ لها بذلك حيث لم تتأفف أو تتبرمّ؛ وما لها إلا لحاف واحد قد ابتلّ. فأي رجل يحب أن تشاركه زوجته في تضحيته لدينه ولحبه لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولو على حساب معيشتها بعض الشيء! حيث لم يكن لها لحاف غيره، ثم هي تشاركه في تتبع أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتزداد قيمتها في عينه ويزداد حبها في قلبه، ويعظُم أثر صبرها في نفسه، فإذا نظر إليها -وهي تطيعه وتعينه على التضحية لدينه وتشاركه حبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- سرَّته أيّما سرور.
وأبو أيوب خاصةً، آيةٌ من آيات الله في حب النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأحسب أن جزءًا كبيرًا من أجره في هذا الشأن تشاركه فيه أم أيوب -رضي الله عنها-؛ حيث كانت تشاركه في تضحياته وعباداته فما نسي -رضي الله عنه- أن يقول “فقمت أنا وأم أيوب”، و”تيممتُ أنا وأم أيوب”.
ولعلنا نستدل بما ذُكر على ما لم يُذكر من تفاصيل مشاركتها له في التضحية لدينه في سائر حياتهما؛ فما نحسب أنه وجد منها إلا كل طاعةٍ ولينٍ عندما يأمرها بشيء من المعروف أو التضحية لدين الله -تعالى شأنه-، ولخدمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يحبه كأشد ما يحب المؤمنون نبيهم. وهكذا يحب كل رجل نبيل من امرأته القانتة.
أم الدحداح
أما أم الدحداح -رضي الله عنها- فعجيبة في طاعتها لزوجها؛ الذي أنفق أفخم ماله وأغناه. فقالت له “ربح البيع”، ولم تتلكأ في خروجها منه، فضلًا عن أن تعترض عليه أو تلومه وتعذله في إهلاك ماله في الحق، وتقول له: ماذا تركت لنا وماذا تركت لأولادك؟ وهذه عيشة لا تطاق! بَله أن تعصيه ولا تخرج وتقول أريد حقي أولًا؛ كما تفعل كثير من النساء هذه الأيام حتى لتجد بعضهن تلومه لو أنفق على أمه الفقيرة شيئًا كثيرًا يليق بشكره لها!
روى الإمام أحمد عن أنس -رضي الله عنه- قال: “فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي. قَالَ: فَاجْعَلْهَا لَهُ ، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ” قَالَهَا مِرَارًا. فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَتْ : رَبِحَ الْبَيْعُ – أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا”.
فتأمل ردة الفعل المباركة، وقارنها بردة فعل كثير من نساء هذه الأيام -إلا من رحم الله-. واعلم أن هذه الطاعة المباركة منها في هذا الموقف إنما هي نتيجة قنوتٍ وطاعةٍ عامةٍ لزوجها في سائر أيامهما من بعضهما.
أم سليم
ومن نفس الباب توقع ردة فعل أم سليم القانتة الصالحة -رضي الله عنها-. ولأم سليم خطوات مضيئة في سبيل القانتات؛ منها عندما تصدق أبو طلحة بأحب ماله إليه “بيرحاء” وكان أكثر الأنصار مالًا، وكان بستانه هذا أعجوبة جميلة يحب النبي -صلى الله عليه وسلم- الدخول فيه والشرب من مائه العذب. فهي لا ريب ردة فعل لا تقل عن أم الدحداح؛ فهما صاحبتان سالكتان لسبيل القانتات منذ قديم -رضي الله عنهما-.
صور أخرى
وعلى هذا المنوال توقع ردة فعل أم رومان زوجة أبي بكر -رضي الله عنهما-؛ حين دخل عليها أبو بكر الصديق وقد أخرج ماله كله في سبيل الله -تعالى-. وسيقول لها لو سألته: تركت لكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كما قال للنبي!
وزوجة عمر -رضي الله عنه- حين أخرج نصف ماله دفعة واحدة، وزوجة عثمان -رضي الله عنه- حين جهز جيش العسرة في زمان الشدة والجوع بثلاث مائة بعير بجهازها وسلاحها، ووضع في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- ألف دينار والناس في ضيق من العيش آنذاك!
أترى إحداهما تلومه وتعذله وتتبرّم وتتأفف، وتقول له: كيف سنعيش بعد ذلك؟ ومن أين سنخرج إلى الفسحة؟ وكيف سنشتري شقة في الساحل أو كيف سندفع اشتراك النادي لأولادنا؟
ليس الكلام هنا عن حرمان الزوجة مما أباحه الله من زينة الحياة الدنيا. فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “وأي داءٍ أدوى من البُخل”. ولكننا نريد من النساء أن تتأمل أن الله أول ما مدح الصالحات مدحهن بأنهن قانتات طائعات صابرات على بعض الضيق في سبيل الله؛ كلٌّ حسب وُسعه. فليس صبر زوجة أبي بكر كزوجة عمر -رضي الله عنهم جميعًا- كصبر باقي النساء، ولكن التي تطيع عند الشدة ستكون أطوع عند الرخاء؛ فإذا وجد الرجل النبيل زوجته قانتة طائعة له في الشدة كان معها في الرخاء هيّنًا ليّنًا، إذا هويت شيئًا تابعها عليه. وليس ذلك إلا من الرجل النبيل من الزوجة الصالحة القانتة.
زوجة جابر بن عبد الله
وهذه زوجة جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- يرجع إليها بعد طول غياب؛ وقد باع الجمل الوحيد الذي يملكونه ويقضون عليه حوائجهم لأجل أن طلبه منه النبي -صلى الله عليه وسلم-. فقال: فَحَدَّثْتُ الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ، وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَدُونَكَ، فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ.
هكذا بسهولة، ودون أي تبكيت ولوم وعذل قالت له: دونك. أي افعل ما تراه وامض حيث وجّهك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فسمعٌ وطاعةٌ لله ولرسوله ثم لك.
ولزوجة جابر موقف آخر عظيم يوم حفر الخندق حين دعا النبي الجيش كله لبيتها، وقد أعدت طعامًا قليل المقدار عظيم القدر والأجر للنبي، ومعه رجل أو رجلان؛ فإذا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي بالجيش كله.
وههنا تستحضر جميع ردّات أفعال النساء في عصرنا عند خوف الإحراج وخشية الفضيحة لقلة الزاد في البيت وعدم كفاية الضيف، ولوم الزوج والندم على دعوة الضيف؛ ثم تجد ردة فعلها قانتة مخبتة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، تعين زوجها بما تستطيع. ثم تقول له: “قد أخبرته بما عندنا فالله ورسوله أعلم”، أي الله ورسوله أعلم بما يصلح لنا وبما يصلحنا وعلى هذا اتبعناه.
روى الإمام الدارمي في سننه عن جابر قال يحكي قصته مع النبي يوم الخندق؛ حيث دعاه؛ ورجل معه أو رجلان، إلى بعض اللحم والخبز حيث رأى في وجه النبي الجوع فلم يصبر على ذلك. “ثم قَالَ -النبي صلى الله عليه وسلم- لِلنَّاسِ: “قُومُوا إِلَى بَيْت جَابِرٍ. قَالَ : فَاسْتَحْيَيْتُ حَيَاءً لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ، قَدْ جَاءَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ. فَقَالَتْ: أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَكَ كَمِ الطَّعَامُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتِ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَدْ أَخْبَرْتَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَنَا. قَالَ: فَذَهَبَ عَنِّي بَعْضُ مَا كُنْتُ أَجِدُ، وَقُلْتُ: لَقَدْ صَدَقْتِ”.
فهذه زوجة مباركة تُذهِب عن زوجها ما كان يجد من الهمّ والاستحياء بما عندها من قنوت وطاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم لقرار زوجها.
زوجتا أبي خثيمة
ثم تأمل حال زوجتي أبي خيثمة -رضي الله عنهم جميعًا-؛ كيف كانت مشاركتهما له في أجر اللحاق برسول إذ تخلف عن الخروج معه أول الأمر في يوم العُسرة: ثُمَّ إنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامًا إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا. فَلَمَّا دَخَلَ، قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضِّحِّ وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلٍّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، فِي مَالِهِ مُقِيمٌ، مَا هَذَا بِالنَّصَفِ! ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَيِّئَا، لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا”.
هكذا بمنتهى السهولة، أمرهما بما يخالف هواهما؛ من تركه لهما والذهاب للغزو والتعرض للموت بعدما صنعتا له من حُسن التبعُّل الشيء الجميل؛ ففعلتا، أي على سبيل التعقيب والسرعة بدون تلكؤ ولا تباطؤ ولا لوم ولا تخذيل. وهكذا القانتات حين يشاركن أزواجهن الأجر، ولو على حساب هواهن من الراحة والرفاهية وقد جُبلت الأنثى على حب الزينة والرفاهية.
امرأة رجل من الأنصار
وهذه صحابية قانتة أخرى لا نعلم اسمها، ولا اسم زوجها على التحديد. ولكن الله يعلمهما وحسبهما ذلك. لما جاءها زوجها الفقير بضيفٍ لرسول الله، وليس عندها إلا قوت صبيانها؛ لم تتضجر أو تتسخط أو تلُمه وتقل له: “لماذا قلتَ أنا وأنت فقير ليس عندك شيء! أو غير ذلك مما نسمع من سخط كثير من النساء إن جاءها زوجها بضيف وعندها كل شيء، لكنها تريده لنفسها وأولادها فقط.
تأمل ما فعلت تلك الصالحة القانتة إذ شاركت زوجها في الأجر بإيثار الضيف بطعام الصبيان. وفي هذا من المشقة ومخالفة هوى الأم الحنون على أولادها ما الله به عليم. ولكن القانتة تخالف هواها طاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم لزوجها النبيل الذي لن ينسى لها صنيعها. ذلك وأفضل من ذلك أن الله سيكرمها أعظم الكرم ويجزيها أوفر الجزاء.
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ” مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي. قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ، وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ. قَالَ: فَقَعَدُوا، وَأَكَلَ الضَّيْفُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ”.
فنِعمتْ المشاركة هذه، بين زوج كريم نبيل وزوجة صالحة قانتة؛ لا كما يصور أعداء الإسلام المشاركة بين الزوجين بأن تكون له نِدًّا في قرارات البيت تُمضي ما تهوى وتمنع ما لا تهوى، وتُناطح زوجها في بيته وتنازعه قوامته. وإنما المشاركة في المعروف والثواب والأجر مع قنوت وطاعة. وهكذا سبيل القانتات لمن أحبت اللحاق بهن واقتفاء آثارهن -رضي الله عنهن-.
زوجتا سيدنا إسماعيل -عليه السلام-
وأوضح مثال للنموذجين حديث زوجتي إسماعيل -عليه السلام-؛ حين أمره أبوه خليل الرحمن وأبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- بطلاق الأولى والتمسك بالثانية. لأن الأولى كانت مثالًا للزوجة الساخطة على المعيشة. ويلزم من ذلك غالبًا أنها كثيرة اللوم والعذل -ولو عند بذل الخير والمعروف-، وكثيرة الشكوى من المعيشة والحال للقريب والبعيد. وهذا يتنافى مع كونها قانتة طائعة له؛ فستكون غالبًا قليلة الطاعة. وأما الثانية فهي زوجة راضية بما قسم الله لهما، لا تشكو الله لخلقه بشكواها للمعيشة إن قدَرَ الله عليهما؛ بل تُثني عليه -تعالى شأنه-. فهذه أحرى أن تكون قانتة طائعة لزوجها تعينه على الخير وعلى نوائب الحق.
روى الإمام البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: “فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ. فَشَكَتْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي: كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ : ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ.
فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ. وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ -وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ- فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي: كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ. قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ : نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ : ذَاكِ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ”.
السيدة هاجر امرأة سيدنا إبراهيم
وأجلُّ من هذا مثالُ الصالحة القانتة التي سارت في طليعة سبيل القانتات هاجر أم إسماعيل -عليهما السلام-؛ إذ تركها زوجها الحنيف الإمام الأمّة إبراهيم -عليه السلام- في صحراء مُوحِشة مُقفِرة. ثم انصرف عنها لا يكلّمها كما روى الإمام البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
“فَقَالَتْ: يَا إِبْراهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهَذا الْوادِي الَّذِي ليْسَ فِيهِ أَنيسٌ ولاَ شَيءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلكَ مِرارًا، وَجَعَلَ لاَ يلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ لَه: آللَّهُ أَمركَ بِهذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَت: إِذًا لاَ يُضَيِّعُنا، ثُمَّ رجعتْ”. وفي رواية أخرى قالت له: “يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ فقال: إلى الله. فقالت: رضيتُ بالله”.
وفي الختام
فلو أن كل مسلمة اقتدت بهاجر -عليها السلام-؛ فوجدت زوجها يفعل طاعة أو يأمرها بأمر؛ ولو كان على حساب رفاهية حياتهما أو رفاهية أولادهما أو فيها نوع مشقة جسدية أو نفسية وأجرها كبير. فتقول له” آلله أمرك بهذا”. فيقول لها: نعم. فتقول: إذًا لا يُضيّعنا الله؛ لكانت مع الصالحات القانتات من زوجات الأنبياء والصديقين والصحابة والصالحين تقفو آثارهن، سالكةً سبيلهن سبيل القانتات. فإن من تشبّه بقوم فهو منهم ويُحشر المرء يوم القيامة مع من أحب، ويا سعدَ من كانت القانتات يهدينها السبيل.
قال اللطيف الخبير الأعلمُ بما خلق وما يصلحهم: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. “أي: ولهُنّ من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهنّ لهم من الطاعة؛ فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها”. وهذا تأويل مجاهد وقتادة التابعيّيْن من تفسير الطبري.
وقال الإمام الطبري في موطن آخر من تفسيره: “لأن من الواجب للزوج على المرأة طاعته فيما أوجب الله طاعته فيه، وأن لا تؤذيه بقولٍ، ولا تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته. فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها”. والمُوفّق من وَفّقه الله، والزوج النبيل والزوجة القانتة إنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء. والحمد لله رب العالمين.
أخشى أن البعض لديه نظرة فوق المثالية وغير واقعية لنساء زمانهم.
بينما انا كامرأة لن انتظر زوجًا محمدياً ولا صحابياً. اختلف الحال وأولويات الرجال. وأنا نظرت إلى حال أزواج بنات أسرتي وعرفت منهنّ عن غالبية رجال مجتمعي خيرًا ووسطية، وهاتان نعمتان.
ما شاء الله
بارك الله فيك يا مولانا الحبيب
بارك الله فيك وبوركت خطواتك وسلمت يمينك ونفع الله بك الأمة
فتح الله عليك يا أخي!
ما شآء الله اللهم بارك
أكثر من رائع والله إني فخور جدا بك، وأرى أن هذا الكتاب لابد نشره لأوسع نطاق حتى تعم الفائدة في زمن قلت فيه الموعظة .
كلام أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أنه نابع عن قلب متأثر متدبر لآي الذكر الحكيم.. وفقكم الله وثبت خطاكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم