ليلة سقوط غرناطة.. آخر قلاع الإسلام في الأندلس

في تلك الليلة ماذا حدث؟ وكيف مرت هذه الليلة على المسلمين؟ ساعات الليل قبل تسليم غرناطة أين قُضيت ومع من؟ أهل القصر والملك والوزراء والمجاهدين؟ ماذا فعلوا في تلك الليلة؟!

قد يسقط من التاريخ سهوًا موقف أو شخص ما وذلك لقلة أو عدم وجود من يسجل التاريخ في تلك اللحظة، ولكن لا يمكن أن يسقط بلدٌ سهوًا بدون تسجيل ماذا حدث في تلك الليلة، ومع ذلك لم يكتب التاريخ عن تلك الليلة إلا القليل، ليلة نهاية تاريخٍ وبداية تاريخٍ أخر، إنها ليلة سقوط غرناطة فهناك مدن لها تاريخ ولكن غرناطة هي التاريخ نفسه بقعة زكية من الأرض. أخذت من ثمرة الرمان لونها واسمها، وكانت شاهدًا على أفول حلم وبعث حلم جديد، إنها آخر الممالك التي سقطت من الأندلس القديم بعد أن ظلت تقاوم وحدها أكثر من مئة عام.

حصار غرناطة

غرناطة

في عام (896هـ / 1491م) أطبق النصارى الحصار على غرناطة بحرًا وبرًا ورابطت السفن الإسبانية في مضيق جبل طارق وعلى مقربة من الثغور الجنوبية، ولم يكن ثمة أمل في العون من أفريقيا التي سقطت معظم ثغورها الشمالية في أيدي البرتغاليين فضلًا عن ضعف إمارات المغرب وتفككها، وقد اشتد البلاء والجوع بالمحاصرين داخل غرناطة ودب اليأس إلى قلوب الجند والعامة، أوصد المسلمون أبواب غرناطة واحتموا بأسوارها في يأس وقلق وهم يرون شبح النهاية ماثلًا أمام عيونهم، وكان قد مضى على الحصار حوالي سبعة أشهر وهم يغالبون الأهوال، وقد جاءت آخر معاركهم لتبدد الأمل في الخلاص والنصر واشتد الجوع والمرض والحرمان.

وجعلت تنظر غرناطةُ إلى القصر البهي العظيمِ وهو آخر تلك القصور التي شغل رواؤها الأمراء وأنستهم سكناها أخلاق صحرائهِم الأُولَى، فكانت مقابر أمجادهم طَفقَت تنظر إليه فلا ترى من بناة الحمراء إلاّ رجل وأمه، فحولَت وجهها عنِ القصر إلى جِهة السور وتساءلت عائشة: هل عاد موسى؟

وفجأة جاء موسى من الظلام فإذا هو يلمع كالبدر المنير وكذلك يقذف هذا الشعب العربِي بالأبطال كلما حاقت الشدائد وإذا هو ملء السمع والبصر وإذا هو بطل المعركة دعا إلى القتال شعبًا كل من هو قادر على القتال، هذا الشعب الذي علمه محمدٌ كيف يلبي كلّما دُعِي إلى التضحية والجهاد لباه وتشققَت أَسمالُه البالية عن أُسود غاب وسباعِ عرين، ووقف بهؤلاء الأسود في وجه السيل الإسباني وما زال ثابتًا ولكن أُسوده قد سقطوا صرعى في ميادين الشرف.

وقد كان موسى آخر سطر في سفر الحق والبطولة والمجد، ذلك الذي كتبه العرب المسلمون في ثمانمئة سنة، فمحاه الإسبان في سنوات ولم يبقَ إلا هذا السطر فإذا طمس ذَهب السفر وباد وقد كان موسى آخر نفسٍ من أنفاس الحياة في الأندلس المسلمة؛ فإذا وقف هذا النفس الواحد صارت الأندلس المسلمةُ أثرًا بعد عين وصارت ذكرى عزيزة في نفسِ كل مسلم وأمانة في عنقه إلى يوم القيامة.

ووصل موسى ذلك البطل الذي أخطأ طريقَه في الزمان فلم يأْت في سنوات الهجرة الأُولى، بل جاء في الأَواخر من القرن التاسع، ولم يطلع في الحجاز التي كانت تبتدئ تاريخها المجيد بل في الأندلس التي كانت تختم تاريخها، وكانت تعلوه كآبة، فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذي لو سبق به الدهر لَصنع يرموكًا أُخرى أو قَادسية ثانية.

فإِذا هو يعلن النبأ المهول نبأ تسليم أبي عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة! نبأٌ بدأ صغيرًا كما تبدو المصائب فلم يدر الناس لهول المفاجأة ما أَثَر هذا وما خطَره، ولكن القرون الآتيات درت ما أَثَر هذا النبأ ولم تفرغ إلى اليوم من وصف فواجعه وأهواله.

كان قلب موسى يدمى وهو يشهد تسليم غرناطة المسلمة إلى ملوك النصارى وكان أكثر ما يؤلمه ذلك التخاذل والضعف لدى الخاصة والعامة، ويحس بالعجز إزاء الأحداث الرهيبة المتلاحقة وحين اجتمع الزعماء والقادة ليوقعوا وثيقة التسليم في بهو الحمراء لم يملك الكثيرون منهم أنفسهم من البكاء والعويل، فصاح موسى فيهم قائلًا “اتركوا العويل للنساء والأطفال فنحن لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء وحاشا لله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعًا عنها”.

ثم صمت موسى وساد المجلس سكون الموت، وعندها قال الأمير الخائر الضعيف أبو عبد الله وصاح “الله أكبر لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا راد لقضاء الله.. تالله لقد كتب عليّ أن أكون شقيًا وأن يذهب الملك على يدي”، وصاحت الجماعة على أثره “الله أكبر ولا راد لقضاء الله” وكرروا جميعًا أنها إرادة الله ولتكن ولا مفر من قضائه ولا مهرب، لقد استخدموا القضاء والقدر في تبرير خوفهم وجبنهم عن نصرة الإسلام وحالهم كحال الجبرية الذين يقولون إننا مجبرون على المعاصي، وعندما رأى موسى بن أبي الغسان أن محاولاته ذهبت أدراج الرياح نهض مغضبًا ثم قال لهم مقولته الشهيرة.

نبوءة موسى: “لا تخدعوا أنفسكم ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم إن الموت أقل ما نخشى فأمامنا نهب مدننا وتدميرها وتدنيس مساجدنا وتخريب بيوتنا وهتك نسائنا وبناتنا وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي والسياط والأغلال وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة التي تخشى الآن الموت الشريف أما أنا فوالله لن أراه”.

وإذا بأطفال غرناطة ينشدون ذلك النشيد الذي لا يعرف من نظمه لهم، فيصغي الناس ويستمع الفَلَك الدائر:

لا تَبْكِ يا أُمَّاهُ، إنَّا ذاهبون إلى الجنَّة.

إنَّ أرض غرناطة لن تَضِيقَ عن لَحْدِ طفل صغيرٍ مات في سبيل الله.

إن أزهار غرناطة لن تَمْنَعَ عِطرَها قَبْرًا لم يُمَتَّعْ صاحبُهُ بعِطْرِ الحياة.

إن ينابيعَ غرناطة لن تَحْرِمَ ماءَها ثَرَى لَحْدٍ، ما ارتَوَى صاحبُهُ من مائها.

أنتِ يا أرضُ غرناطة أُمُّنَا الثانيةُ فضُمِّينَا إلى صَدْرِكِ الدافئ الذي ضَمَّ آباءنا الشُّهَدَاء.

لا تَبْكِ يا أُمَّاهُ بلِ اضْحَكِي، واحفظي لِعَبَنَا، سيأتي إخوتنا فيلعبون بها.

فذَكِّرِيهِمْ بأنَّنا تركناها من أجل هذا الوطن، سنلْتَقِي يا أُمَّاهُ!

إنَّكِ لن تُؤْثِرِي الحياة في ظلال الإسبان على الموت تحت الراية الحجازيَّة

ولن تَضِيقَ عَنَّا أرض غرناطة؛ ما ضاقت أرضُنَا بشهيد.

ولم يعد يطيق موسى أكثر من ذلك فلَكَز فَرسه وانطلق إلى حيث لا يدري أحد كما جاء من حيث لم يدر أحد، وكذلك ذَهب آخر أبطال الأندلس لم يخلف له قَبرًا في الأرض، ولا سيرة واضحةً في التاريخ بل مر على الدنيا كالحلم بهيج!

وحده موسى بن أبي الغسان اختار الاحتجاج على تسليم غرناطة ووحده حمل السيف والدرع وخرج من الحمراء إلى حمراء أخرى، وحده موسى بن أبي الغسان اختار الطريق السهل وترك للملك الصغير الاختيار الأصعب، وتحقق لموسى الخلاص يوم بدأت المعاناة في غرناطة وجبال الجنوب وبلنسية والمرية في الساحل الشرقي، رحمةُ الله على موسى بن أبي الغَسَّان.

يوم تسليم مفاتيح غرناطة والرحيل

غرناطة
 (Photo by Stock Montage/Getty Images)

امتطى أبو عبد الله الصغير صهوة فرسه موليًا ظهره لقصر الحمراء الشهير في يوم بارد من أيام يناير 1492م. علت وجه أبي عبد الله سحابة كثيرة من الحزن وخيم على الركب الصغير صمت طويل ينبئ عما يكتنف قلوب هذا الركب من غم شديد. سار أبو عبد الله تتبعه امه وبعض من أهله وصحبه في ذلك الطريق الملتوي الطويل الذي يمر بين شعاب غرناطة وجبالها متجهًا إلى منفاه ليفارق غرناطة إلى الأبد.

كانت الشمس قد آذنت بالغروب وأخذت تعكس بأشعتها الذهبية على جدران قصر الحمراء لتكسي حجارته بصبغة حمراء باهتة فتضفي عليه سحرًا وجاذبية.

توقف أبو عبد الله قليلًا عند تلة صغيرة تُشرف على وادي غرناطة المكتظ ببيوته البيضاء، ليلقي نظرة وداع أخيرة على مدينته الحزينة التي يتوسطها قصره الشهير، تسارعت في ذهن أبي عبد الله ذكريات الصبا وأيامه الجميلة التي قضاها في صالات وأروقة هذا القصر وفي حدائقه الفناء الواسعة كان أبو عبد الله يعرف أن تلك الوقفة سوف تكون الأخيرة وأن تلك النظرة ستكون النهائية إذ ليس يأمل أبدًا بأن يرى مدينته المحبوبة ثانية، تمنى ابو عبد الله لو تطول تلك الوقفة لعله يستطيع أن يملأ عينيه بتلك المناظر الساحرة التي تثير في نفسه ذكريات الصبا، إلاّ أن الحزن الذي يعتصر قلبه سرعان ما استحوذ على عينيه وإذا بهما تنهمران دمعًا ساخنًا حاول جاهدًا أن يخفيه عن نظرات أمه الحادة التي عاجلته بلسانها الذرب.

ابكِ مثل النساء ملكًا مضاعًا، لم تحافظ عليه مثل الرجال.

نسيت عائشة الأم أنها كانت سببًا هامًا لسقوط غرناطة آخر معقل للإسلام في الديار الأندلسية بسبب غيرتها وتسلطها على ولدها أبي عبد الله وأحابيل مكرها التي كانت تنسج شباكه في غرف القصر وصالاته، وهكذا غادر أبو عبد الله آخر سلاطين بني الأحمر غرناطة تاركًا أهلها المسلمين لرحمة الإسبان الذين لم تعرف الرحمة يومًا إلى قلوبهم سبيلًا، ولتبدأ مرحلة بائسة طويلة مليئة بالأحزان والدموع، متسربلة بالدماء، وليسدل الستار أخيرًا على الإسلام في الأندلس بعد بضعة قرون من السنين.

كان رحيل أبي عبد الله آخر ملوك بني الأحمر بداية النهاية للحكم الإسلامي في تلك البقاع.

ما كان أحد يظن أن شمس الإسلام التي أشرقت على أرض الأندلس ستغرب عنها يومًا، وأن كلمات الأذان الصادح من فوق قامات المآذن ستتحول إلى أصوات أجراس من فوق أعواد الكنائس، وما كان أحد يتصور أنه ستغيب عن الأندلس حلقات العلم، ودروس الحديث والفقه في جوانب المساجد، وأن الأرض التي امتلأت جنباتها شعرًا ونثرًا عربيًا ستصبح غريبة الوجه واللسان، ولكن هذا ما كان!

ولا غالب إلا الله.

مدحت الهلالي

ولدت في جمهورية مصر العربية بصعيد مصر سنة 1989 , درست الخدمة الاجتماعية من معهد… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى