تاريخ الأندلس من الفتح للسقوط – الجزء الثاني
استكمالً للمقال السابق تاريخ الأندلس من الفتح للسقوط- الجزء الأول الذي تناولنا فيه ما قبل الفتح، ثم تكوين الإمارة الأموية في الأندلس، ثم تحول الإمارة إلى خلافة أموية، ختامًا بدولة الطوائف، أكثر العهود تشابكًا واضطرابًا. الأن نواصل عرض قصة الأندلس حتى السقوط ومحاولات العثمانيين لاستردادها.
المرابطون
طلب الأندلسيون من دولة المرابطين في المغرب الأقصى المساعدة، بعدما انقض الفرنج على البلاد وتفرقت كلمة المسلمين، ولكن هذا الطلب لم يأخذوه بمحمل الجد خوفًا على عروشهم.
لكن بسقوط طليطلة جعل الفقهاء الأندلسيون يعرضون على قاضي المدينة عبيد الله بن أدهم المساعدة من الهلاليين في إفريقية، ولكنه خشي منهم تخريب الأندلس كما فعلوا بإفريقيا، وأشار عليهم الاتصال بدولة المرابطين، ففوضوه والتف العامة حولهم، وضغطوا على ملوك الطوائف إلى أن أرسلوا وفدًا إلى المغرب لمقابلة أميرهم يوسف بن تاشفين في مراكش، وطلبوا منه العبور إلى الأندلس بعد أن سلموه رسالة مكتوبة من المعتمد بن عباد يوضح ما تعرضت له المدن والحصون من الغارات.
فأعلن الأمير يوسف بن تاشفين حالة النفير العام للجهاد في الأندلس بعد أن أطلع وزرائه على الرسالة، وكانوا متحمسين لدخول الأندلس والجهاد فيها واعتبروه واجب على كل مسلم قادر على القتال، فجاءت قوات كثيرة من مراكش ومن الصحراء والزاب عبر البحر ونزل في الجزيرة الخضراء وعمل على ترميمها وتحصينها، وتوجه إلى إشبيلية وجه خلالها رسالة إلى ملوك الطوائف يستحثهم على الجهاد، فكان أول من لبى ندائه صاحب غرناطة عبد الله بن بلقين الصنهاجي وأخوه تميم صاحب مالقة، وتبعهما أصحاب الدول الأخرى وحطوا عند سهل الزلاقة.
وفي تلك الأثناء كان ألفونسو السادس يحاصر سرقسطة فرفع الحصار وعاد إلى طليطلة واستدعى قوات من الممالك الأخرى فجاءوه بمباركة الكنيسة، والتحم الجيشان في معركة الزلاقة 12 رجب 479هـ، انتصر فيها المسلمون انتصارًا أشبه بنصر القادسية واليرموك، ولقب “يوسف بن تاشفين” بأمير المسلمين. ورجع إلى المغرب ونصح ملوك الطوائف بالاتفاق والاجتماع على كلمة واحدة.
ولكن ما إن رجع إلى المغرب حتى تدهورت الأوضاع مجددًا، وازدادت الخلافات بين الملوك، وأفاق ألفونسو وأخذ يجمع قوته ويثأر لما ناله من المرابطين. فاضطر يوسف بن تاشفين بالرجوع مرة ثانية إلى الأندلس، ودعا الملوك للجهاد لكن لم يستجب له أحد سوى صاحبًا مالقة وغرناطة وأمراء أقل أهمية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا بل عمد ملوك الطوائف بالغدر بابن تاشفين وقطعوا الإمدادات العسكرية عنه، وأبرموا اتفاقيات سرية مع ألفونسو السادس ومنحوه الهدايا والأموال ليساعدهم ضد التدخل المرابطي. فرأي بن تاشفين عزل ملوك الطوائف وتوحيد الأندلس مع المغرب، وهذا في الوقت نفسه الذي اشتكى الناس والفقهاء له وأجازوا له خلع ملوك الطوائف وتفكيك دولهم وجاءته فتاوى من علماء المشرق كالإمام أبي حامد الغزالي وأبو بكر الطرطوشي تؤيد رأيه.
وبذلك هاجموا طليطلة وقطعوا طريق الإمداد على ألفونسو السادس وبدأوا يضمون المدينة تلو الأخرى فسقطت في أيديهم غرناطة، مالقة، دولة بني زيري، قرطبة وإشبيلية وسقطت دولة بني عباد، وأرسل ابنه محمد بن عائشة للنضال في شرق الأندلس؛ لأنها كانت على وشك السقوط في أيدي الممالك المسيحية، فخلع صاحبها وسقطت بلنسية وبطليوس. وبذلك توحدت الأندلس تحت الدولة المرابطية، عدا سرقسطة بفعل وضعها الحدودي.
توفي يوسف بن تاشفين وخلفه ابنه علي وتابع بدوره سياسة أبيه فى محاربة النصارى، فأرسل حملته لغزو قشتالة وقضت على الجيش القشتالي وقتلت قائده شانجة بن ألفونسو، كان وقع الهزيمة ثقيلًا على الملك القشتالي الذي لم يعش إلا أقل من سنة بعدها، وخلفته ابنته الذي تزوجها ألفونسو الأركوني وتفجرت الخلافات بينهما بسبب السلطة وتطورت إلى حرب أهلية، فاستغل المرابطون هذا وهاجموا طليطلة ولكنهم فشلوا بسبب متانة أسوارها، ففتحوا عدد من الحصون والقلاع المجاورة.
وفي ذات الوقت سار جيش آخر إلى البرتغال حليفة قشتالة ليقطعوا الإمدادات بينهما، وفي سنة 503هـ سيطروا على سرقسطة؛ نتيجة فتوى شرعية بعدم جواز مهادنة صاحبها لأنه تحالف مع الملوك المسيحيين، فلجأ إلى ألفونسو الأراكوني الذي حشد قوة أوروبية صليبية حاصرت المدينة ستة أشهر، فاضطر أهلها إلى الاستسلام وغادرها 50 ألفًا من المسلمين بعدما سقطت، وحاول السيطرة على غرناطة وبعض المدن والحصون الأخرى لكنه تكبد خسائر فادحة، فتطورت الحرب بينه وبين المسلمين إلى المناوشات الحدودية.
العهد الموحدي
سقطت مراكش بيد عبد المؤمن بن علي زعيم الحركة الموحدية الثورية، وقتل آخر أمرائها إبراهيم بن تاشفين، وآلت إليهم أملاكهم بما فيها الأندلس، وكادت الأندلس في هذه الفترة على وشك أن تضيع بعد أن ضعفت الدولة المرابطية ونتيجة للثورات والممالك المسيحية.
وبعد دخول الموحدين الأندلس، منع بعض أمرائها وصول المساعدات من المغرب لأن الأندلسيين كانوا يكرهون كل ما هو مغربي، واضطرتهم الظروف للاستعانة بالموحدين لطرد المرابطين آملين أن يغيروا الوضع السياسي، ولكن عندما تصرف الموحدون مثل المرابطين ثاروا عليهم. ولذلك أرسل عبد المؤمن بن علي تعزيزات عسكرية بقيادة يوسف بن سليمان وأمره بالقضاء على الثورات واستكمال ضد البلاد.
في بداية العهد الموحدي، فقد المسلمون جميع قواعدهم في الثغر الأعلى، ونقض ألفونسو السادس الهدنة التي كانت بينه وبين المسلمين، وحاصر بلنسية واضطر سكانها للاستسلام تحت الجوع والعطش والمرض، فدخلها الملك القشتالي وجعلها مركزًا أسقفيًا. وفي شوال 574هـ انعقدت اتفاقية كاسولا لرسم حدود مناطق الاقتطاع، فكان نصيب ملك أراغون أراضي شرق الأندلس، وملك قشتالة امتلك الأراضي وراء تلك البلاد، واستولى على حصن شنتقيلة وقال حينها : “الآن أخذ قرطبة وإشبيلية”.
وبعد وفاة أبو يعقوب يوسف تولى ابنه شؤون الدولة أبو يوسف يعقوب المنصور، وعقد صلحًا مع ألفونسو الثامن ليتفرغ لقتال البرتغال انتقامًا لوالده، وبعد أن استردَ بعض الحصون عاد إلى المغرب، فانتهز ألفونسو الثامن هذه الفرصة ونقض المعاهدة، وهاجم أراضي الأندلس حتَى جنوبها، وما إن علم الخليفة الموحدي بما يحدث في الأندلس، حتى التحم مع القشتاليين بجيش بلغ أكثر من مائة ألف مقاتل، وهزمهم هزيمة ساحقة وقتل منهم ثلاثين ألف وأسر عشرين ألف جندي، وعاد وأطلق سراحهم جميعًا من دون افتداء.
تحالفت الممالك الصليبية إثر ذلك، وعقدوا الصلح فيما بينهم واتفقوا جميعًا على غزو الأندلس، وبارك البابا إنوسنت الثالث حملة صليبية على أيبيريا بقيادة رجال الدين، وقد تقلدوا الصليب.
واحتشد في طليطلة أكثر من مائتي ألف مقاتل واستولوا على حصن العُقاب، والتقى الجمعان 15 صفر 609هـ في معركة طاحنة انهزم فيها المسلمون وانسحبوا إلى إشبيلية، وقضى هذا على سمعة الموحدين العسكرية هناك، كما فتحت المعركة الباب لاستئناف الهجوم على بلاد المسلمين. ومع وفاة محمد الناصر انهارت دولة الموحدين في المغرب والأندلس، وجاء بعده خلفاء ضعاف.
الحروب الغرناطية وسقوط الأندلس
انقسمت الأندلس بعد وفاة محمد الناصر بين ثلاثة من إخوته، عبد الله في بلنسية ودانية وشاطبة ومرسية، أبو الحسن في غرناطة، أبو العلاء إدريس في قرطبة. ودبت الخلافات والحروب بينهم، وتحالف عبد الله مع فرناندو الثالث ملك قشتالة، وهذا مكنه من الاستيلاء على عدد من الحصون أثناء غياب عبد الله في المغرب لمحاولته الاستيلاء على الحكم في مراكش، فانضو بما تبقى تحت راية أبي العلاء إدريس لكنه عجز أمام هجماتهم فهادنهم، وخرج على حكم أخيه ودعا لنفسه في إشبيلية وبايعه بعض ولاة الأندلس، وكتب لأشياخ الموحدين للفتك بأخيه وبيعته، فاقتحموا عليه القصر وقتلوه.
لكن نشب الخلاف بينهم لأنه قلل من نفوذ الأشياخ وتطور الأمر إلى حرب أهلية، خلع أبو العلاء وأخذ مكانه ابن أخيه أبو زكريا يحيى، وعندما علم أبو العلاء ذلك عبر البحر إلى المغرب تاركًا بعض الحاميات قليلة العدد، واستعاد عرشه وقضى على خصومه، وألغى بعض النظم الموحدية، منها إبطال عصمة المهدي ومحو اسمه من الخطبة، فكفره الشعب من أجل ذلك، وأدى هذا لانفصال المغرب وإفريقية عن الدولة الموحدية وخروج الأندلسيون على حكم الموحدين.
وقام محمد بن يوسف -سليل أسرة بني هود- بالاستيلاء على مدينة مرسية كأميرًا باسم المتوكل على الله، واستقطب الأندلسيون ودعاهم لقتال الموحدين، ودانت له مدن الأندلس، واستولى فيما بعد محمد بن الأحمر أمير غرناطة على الأجزاء الجنوبية للأندلس.
وفي وقت الثورات والحروب في الأندلس، استغلت الممالك المسيحية ذلك، واستولت على بعض المدن والحصون، وكل هذا يطمح للاستيلاء على قرطبة. سار جيش ميحي من أبدة وحاصروا عاصمة المسلمين القديمة، فاضطروا إلى التفاوض معهم للتسليم مقابل الأمان على أنفسهم.
ودخل النصارى المدينة وغادرها سكانها وتفرقوا في أنحاء البلاد بعد أن حكمها المسلمون خمسمائة وخمسة وعشرين سنة. آل معظم تراث الأندلس إلى محمد بن الأحمر بعد وفاة محمد المتوكل واجتمعت تحت إمارته أشلاء الأندلس في دولة عرفت باسم الدولة النصرية أو مملكة غرناطة، وكانت آخر ممالك المسلمين استمرت لمائتين وخمسين سنة أخرى بفضل وعي حكامها وسياستهم.
وفي تلك الفترة، عزم جايم الأول على الاستيلاء على الجزائر الشرقية عبر السيطرة على الحصون، ثم في المرحلة الثانية ضرب عليهم الحصار حتى استسلم صاحبها. وفي جمادى الأولى 645هـ فرض ملك قشتالة فرناندو الثالث حصارًا شديدًا على إشبيلية حتى استسلم أهلها دون قيد أو شرط، وبذلك سقطت إشبيلية بعد حكم للمسلمين دام خمسة قرون وثلث القرن. وسقوطها كان بمثابة التصفية النهائية لحكم المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية.
وفي الفترة بين سنتي 614 – 648 هـ، كانت جميع مدن وثغور غربي الأندلس قد سقطت في أيدي البرتغاليين، وتم القضاء على المسلمين في الأراضي البرتغالية، ولم يتبق في أيدي المسلمين سوى مملكة غرناطة الواقعة في الجنوب، وقد بقيت هذه المملكة لمدة قرنين ونصف على الرغم من حجمها وقلة سكانها، ويرجع صمودها إلى أسباب منها: بعدها عن متناول أيدي الممالك النصرانية، وقربها من المغرب وسهولة طلب العون منها وتدريب أهلها على القتال وحمل السلاح والتزامهم بالجهاد.
وقد شهد هذا العصر ذروة الصراع بين المسلمين والقشتاليين؛ لأن ألفونسو الحادي عشر حاول اقتطاع جزءًا من أراضي غرناطة، الأمر الذي دفع أميرها للاستنجاد بسلطان المغرب الذي أمده بالعتاد والرجال، ولكنهم انهزموا في معركة طريف، وكانت نذيرًا باقتراب نهاية الصراع.
وخلال ربع القرن التالي توالت الهزائم على المسلمين وخسروا معظم أراضي مملكة غرناطة. وفي 12 صفر 897هـ،وقع الوزير أبا القاسم بن عبد الملك بالنيابة عن الملك أبو عبد الله محمد بن علي معاهدة مع فرناندو الخامس لتسليم غرناطة إلى القشتاليين، وبسقوها سقطت الأندلس نهائيًا وأسدل الستار على تاريخ المسلمين فيها.
المحاولة العثمانية لاسترداد الأندلس
كان المسلمون في الشرق يحققون النصر تحت راية الدولة العثمانية في الوقت الذي كانت تلفظ فيه الأندلس آخر أنفاسها، وفتحت القسطنطينية وجزءًا من البلقان، وبفضل سليمان القانوني بلغت الدولة العثمانية ذروتها وفرضت هيبتها على الإمبراطورية الرومانية وجميع الممالك المسيحية.
فاتجه نحو أيبيريا واتفق مع أمير البحار خير الدين بربروس للانقضاض على إسبانيا، وكان قد شرع قبل ذلك بمهاجمة السفن الإسبانية والبرتغالية انتقامًا للمسلمين، وأوفد سفنه لحمل المسلمين واليهود الهاربين من محاكم التفتيش ومحاولات التنصير في أيبيريا.
ولكن توفي السلطان سليم قبل هجومه على الأندلس، وتولى بعده ابنه سليم وكان الخيار بين توجيه الضربة إلى إسبانيا أو إلى الشرق، وكان خيار الدولة العثمانية هو التوجه إلى إسبانيا، مثلما قال المؤرخ رنكة:
“كَانَت الوِجْهَةُ الأُولَى مِنْهُمَا ضِدَّ إِسْپَانِيَا، عَدُوَّةُ الإِسْلَامِ الأُولَى، وَالوِجْهَةُ الثَانِيَةُ شَطْرَ قِبْرِص الجَزِيْرَة التِي كَانَت تَابِعَةً لِلبُنْدُقِيَّة، فَأَهْمَلَ السُّلطَانُ الأُولَى، رُغَمَ مَا كَانَ يُقَدَّرُ لِتِلكَ الحَمْلَةُ مِنَ النَّجَاحِ الأَكِيْدِ، مِنْ جَرَّاءَ ثَوْرَةِ كَانَ المُسْلِمُونَ قَد أَضْرَمُوهَا هُنَاك، وَاختَارَ الثَّانِيَة التِي جّرَّت عَلَيْهِ المَتَاعِب”.
وهكذا ضرب بخيار والده عرض الحائط، وأهمل الاعتبارات المنطقية والسياسية. وكانت الدولة العثمانية في حلف مع فرنسا، وإنجلترا في خصومة مع إسبانيا؛ بسبب إعلان “أليصابات الأولى” البروتستانتية مذهبًا رسميًا للبلاد، وتحقد على البرتغال بسبب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وإزاحتها عن سيادتها التجارة البحرية.
وخلال هذا الوقت، كانت مدريد تعيش ذعرًا من احتمال وصول الجيش العثماني، وقال المسؤولون الإسبان أثناء حوارهم مع البابا بيوس الخامس إذا تدخل العثمانيون في إسبانيا فستسقط في أيديهم، غير أن توجيه الجيوش نحو الشرق للهجوم على اليمن وروسيا لاسترجاع أستراخان وقازان، ونشبت معركة بين الأسطولين العثماني والصليبي انهزم فيها العثمانيون وانتهى الطابع الهجومي للعثمانيين في البحر المتوسط وانتهت نهائيًا فكرة الهجوم العثماني على إسبانيا وخطط استرداد الأندلس.