الأندلس المفقود… مَن يمتطي صهوة الجواد إليك من جديد؟
فلمَّا انتهوا ظنُّوا كأنَّ القوم ما كانوا؛ فقرعوا طبولهم وسار موكبهم يعلوه سادتهم، يتقدمه الجُند وقادة الجيش، تزينه رايتنا التي تكتم في وَجَلٍ زفراتٍ شاهدةٍ على تاريخٍ خَطَّه الكاثوليك بمدادٍ من عبق دمانا، مذ كانت زفرة أبي عبد الله الصغير فوق صخراتِ الوادي[1]، باكيًا مُلكَ المسلمين وحالهم المُضاعُ على يديه.
فهذه رايتنا وهذه حصوننا وقصورنا ومساجدنا التي أضحت تعلوها الأجراس والصُلبان… فقط امرُر بها واقرأ شواهدها؛ تُخبِّرك جميعها ما كان من الكاثوليك الإسبان، ومن أحفادهم حين يحتفلون بجريمة أجدادهم النكراء، في شوارع غرناطة مُعلِنين استيلاءهم على جَنْي حضارة المسلمين بالأندلس، وعلى أموالهم، ودمائهم، وحتى أطفالهم، وراية عُقابهم.
أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
وقائع السقوط ونقض المُعاهدة ووثيقة التسليم
حروب الاسترداد
كذبًا وبُهتانًا أطلقت كنائس مملكة الشمال حربها الصليبية على غير المسيحيين، مُعتزمين إخراج اليهود والمسلمين من الأندلس، وتدمير الحضارة الإسلامية، والتبشير بالمسيحية، تحت دعوى حرب الاسترداد.
وكان الواقع خيرُ حَكمٍ وشاهدٍ على بُطلان دعواهم، فما كانت هذه إلا محاولات استعمارية دموية، وحرب إبادة عرقية، ومحاولة لإعادة صياغة هوية شعب الأندلس، واستئصال أي عِرق غير مسيحي-كما دوَّن عنها ماثيو كار، في كتابه الدين والدم: إبادة شعب الأندلس-كما أثبت الوقت وحشية تلك الهجمة الشعواء، ومخالفتها حتى لنصرانيتهم المُحرَّفة.
- يقول الدكتور عبد الواحد أكمير[2]:
«عندما نتحدث عن حروب الاسترداد كما تُسميها الأستورياس الإسبانية تقصد بذلك استرداد شيءٍ ما، وهنا الممالك التي قادت حروب الاسترداد-سواءً مملكة قشتالة أو مملكة أراجون أو ملكة نابرا لم تكن موجودة لمَّا وصل المسلمون إلى الأندلس؛ وبالتالي ماذا سيستردُّون إذا لم يكنوا موجودين في الأصل؟»[3]
- فيما قال ألبيرتو مونتينير[4]:
«لقد لعب البابا في عملية الاسترداد دورًا متناقضًا يدعو إلى التأمل: فمن ناحية لا يمكننا القول إنه قد شارك فيها بصورة مباشرة، لكن علينا أن نؤكِّد أنه كان ذا دور فعال في شبه الجزيرة الأيبيرية وأنَّ ما فعله كان إعلان الحرب الصليبية على المسلمين بناء على طلب من ملوك المسيحيين.»
- كما أكَّد عبد الواحد أكمير: على دور الكنيسة في الحرب الصليبية في الأندلس قائلًا:
«كان للكنسية دور حاسم في حروب الاسترداد من خلال مساهمتها المباشرة: حيث كان لها جند خاص هم رهبان الصليب يشاركون في الحروب مباشرة، ولكن كذلك كانت تراقب الملوك وأحيانا تتخذ مواقف صارمة من الملوك النصارى في شبة الجزيرة الأيبيرية إذا تحالفوا مع المسلمين ضد أبناء ملتهم وأحيانا طردهم من الكنيسة.»[5]
تسليم غرناطة وخروج بني الأحمر
حُوصِرت غرناطة-حصن المسلمين الأخير بالأندلس-وأطْبق النصارى الحصار، واشتدَّ بالمسلمين الجوع وضيق ذات اليد، ولكن هذا لم يثني المدينة وأهلها عن الدفاع وردِّ المعتدين، بل وحالوا بين النصارى وبين تحقيق مآربهم كما فعلوا بممالك المسلمين قبلًا. ولكن ما إن دبَّ الوهن في النفوس أخذت الهزيمة تلوح في الأفق، فجمع أبو عبد الله الصغير أعوانه وأعيان المدينة، والفقهاء والجند؛ لمناقشة أمر تسليم المدينة.
فوقف موسى بن أبي غسان-رحمه الله-في قصر الحمراء وقال: لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة مَلِكِهم؛ إن الموت أقل ما نخشى (يُريد أن هناك ما هو أصعب من الموت)؛ فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله! لن أراه[6]
ولكن هيهات لسكارى وهنت نفوسهم، وانحصرت عنهم روح الجهاد أن يروا العزة أو حتى يحلموا بها. اتفق الطرفان على اتفاقية لتسليم غرناطة، يحصل بموجبها النصارى على جزية يدفعها المسلمون، وأسرى من البلاط الملكي ضمانًا لتنفيذ باقي الشروط.
وهكذا سقطت غرناطة وخرج بنو الأحمر بعد بيع أبو عبد الله ممتلكاتَه ضمن اتفاقية سرية مع فرناندو وإيزابيلا ملكا غرناطة الجديدين.
ثورة البيازين
لم تكن نفس المؤمن الأبيِّ لترضى الذل والهوان، أو أن تركع على عتبات النصارى وقديسيهم؛ فانتفض مسلمي الأندلس انتفاضةً توازت في تعداد الزمان مع زفرة عائشة الحرة وهي تودع ديار العز آخر معاقل المسلمين بالأندلس، ناقمةً على ابنها-أبي عبد الله الصغير-موجِّهةً حديثها إليه:
«ابكِ مثل النساء مُلكًا مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال.»
اشتعل غضبُ مسلمي الأندلس، وانتفضوا وتظاهروا في حي البيازين الواقع في تلة مقابلة لقصر الحمراء الذي أصبح تحت سيطرة الملكين الكاثوليكيين إيزابيلا وفرناندو.
ولكن ما بقيت بِيدِ هؤلاء الأشراف رافضي الذل حيلةٌ، فالجند والجيش والمَلِك تسلَّلوا خفية في جنح الظلام، مغادرين غرناطة تاركين الذل والعار من خلفهم. فأصدرت إيزابيلا مرسومًا يقضي بخرق وثيقة التسليم، والقضاء على هؤلاء المتمردين.
نقض المُعاهدة ووثيقة التسليم[7]
والله إنه لخير لنا أنْ نُقِضت تلك المعاهدة، ولم يبق ذلك العار يلحق بنا إلى اليوم. فبعد أن كنا وكنا وافق ملك غرناطة وأشرافها وفقهاؤها-أو علماء سلطانها-على أن يدفعوا الجزية للنصارى. وصدقت نبوءة البطل المجاهد موسى بن أبي غسان، وأصبح الموت هو أهون ما حدث لمسلمي الأندلس.
وبموجب المرسوم الملكي تم تحويل جميع المساجد إلى كنائس، وحرق ما تصل إليه أيديهم من الكتب الإسلامية والعربية، وأصبح المسلمون بين أحد ثلاثة خيارات: إما التعميد والتنصر، أو المغادرة والتهجير القصري، أو القتل والمُحاكمة. ولم تكن تلك الخيارات بهذه الكيفية المُعلنة:
- فإذا اختار المُسلم أن يتنصر سيصبح مواطنًا من الدرجة الثانية.
- وإذا اختار الهجرة واستطاع توفير الضريبة اللازمة لها: عليه بترك الأبناء للكنيسة تعلمهم التعاليم النصرانية.
- وأما المُحاكمة فشأنها معروف.
محاكم التفتيش
وحتى تضمن إيزابيلا أن يسير الأمر كما أرادات، أقامت ما عُرف بـ «محاكم التفتيش»، وأصدر الكاردينال خيمينيث أوامره بتعميد المسلمين قصرًا دون الرجوع إلى آرائهم الشخصية، ونُصِبت المحاكم للتفتيش عن هؤلاء الخارجين على قوانين الكنيسة، الذين أعلنوا النصرانية وأخفوا الإسلام أو اليهودية، وأضحت مواكب الإحراق تجوب المدينة بهؤلاء الخارجين تمهيدًا لإحراقهم أحياء.
وأقيمت السراديب وجُهِّزت بأبشع ما عرف التاريخ من أدوات ووسائل التعذيب، التي أجبرت البابا يوحنا بولس الثالث على الاعتراف أمام الملأ بتلك الجرائم التي ارتُكبت في محاكم التفتيش، وطلب الغفران من الله.
لمزيدٍ من التفاصيل يمكن الاطلاع على: ما لا تعرفه عن محاكم التفتيش.
انتفاضة جبال البشرات
تصاعد الاضطهاد الذي تمارسه المملكة الكاثوليكية على المسلمين، وضاق الناس ذرعًا بتلك المملكة؛ فلم يقفوا مكتوفي الأيدي وأعادوا ترتيب الصفوف وتحركوا بقيادة محمد بن أمية فيما يشبه حرب عصابات، واستطاعوا تحرير مدينة “ألمرية ” ومدينة “مالقا”، وشكَّلوا قلقًا وضغطًا على الإمبراطورية الكاثوليكية، مما اضطرهم إلى الاستعانة بإمبراطورية النمسا.
ولكن حالت الخيانة بين المسلمين وتلك الثورة، فاستطاع الإسبان اغتيال محمد بن أمية. ولم تقف الخيانة عند هذا الحد، فبعد اغتيال محمد بن أمية بايع المسلمون ابن عبو قائدًا للثورة واتخذ لقب مولاي عبد الله، ولكن طاله أيضًا ما طال قائده، فاغتيل على أيدي بعض أعوانه.[8]
أين كانت الخلافة الإسلامية مما يحدث في الأندلس؟
لم تكن الخلافة الإسلامية بمنأى عن تلك المأساة الأندلسية، ففعلوا ما بوسعهم في ظل ما كانت تعانيه الخلافة العثمانية من صراعات. فأرسلوا السفن والأساطيل البحرية لنقل المسلمين من الأندلس إلى شمال إفريقيا حيث نشأة حركة الجهاد البحري وما كان لها من رعاية خاصة من الخلفاء العثمانيين، تمثلت في إرسال القوات والجنود والقادة العسكريين والسفن، وأَسْرِ آلاف من الجنود الإسبانية.
لمزيدٍ من التفاصيل يمكن الاطلاع على: ما لا تعرفه عن دور العثمانيين في الأندلس.
كم من أندلسٍ أخرى ستسقط تحت مرأى ومسمع مدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، وتُلحِقُ العار بتاريخ الأجيال القادمة الذي نسطره الآن بحاضرنا المُتخاذل على أبواب حلب ودمشق وتَعْز وبغداد والموصل والقاهرة والقدس؟
ليس لدمِ مسلمٍ بواكيَ تشجب وتندد له، فما له غير طريق العزِّ والجهاد الذي ما وهنَّا إلا يوم أن تركناه… فهذه الأندلس بحضارتها التي أنارت الغرب، وعلَّمته كيف تكون الحياة، ها هي أُبيدت وأقاموا المحافل عليها بدل العويل.
المصادر
- منفذ زفرة العربي الأخيرة: هو ممر جبلي يقع بالقرب من مدينة غرناطة في إسبانيا. يُقال إنه سُمِّي بذلك إشارةً إلى موقف أبي عبد الله محمد الصغير لمّا سلّم مفاتيح غرناطة للملكين الكاثوليكيين سنة 1492م ثمّ هَمَّ مغادرًا المدينة رفقة عائلته وحاشيته، صعد ربوة تطلّ على غرناطة وحمرائها ثم زفر زفرة ألم وتحسّر على ضياع ملكه وانقراض دولة الإسلام بالأندلس على يديه.
- أستاذ التاريخ بجامعة محمد الخامس بالرباط.
- دكتور عبد الواحد أكمير، أرشيفهم وتاريخنا: ملف سقوط الأندلس، ج 1.
- مدير وحدة اللغة العربية والدراسات الإسلامية، سرقسطة.
- أرشيفهم وتاريخنا: ملف سقوط الأندلس، ج 1، مرجع سابق.
- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/254، 255.
- لمزيد اطلاع على بنود المعاهدة: معاهدة تسليم غرناطة، المعقودة بين أبي عبد الله الصغير والملكين الكاثوليكيين.
- محمد بن أمية وانتفاضة الموريسكيين.