صناعة التفاهة
الراصد للحالة الإنسانية بشتى مستوياتها المعرفية، والعلمية، والعملية، والإدارية، وتداخلات بِنى التطوير المعماري من جهة وتجاوز المآزق التاريخية للتصورات الحاكمة لنماذج الحكم، وهيمنتها على الفضاءات العامة من مناحٍ أخرى يلحظ نوع تدنٍّ وتراجع للحالة الحياتية بشتى تجلياتها سالفة الذكر؛ وهو رهن العطب الذي نوليه نوع تناول في هذا المقال تحت وسم (صناعة التفاهة) من حيث المفهوم، والأسباب، والمظاهر، وسبل المواجهة، والبدائل التي تحل محل هذه العوائق، آملين قليلاً من التجديد لخطابات الممانعة التي تكتفي -حتى الآن- بامتعاضها دون الحيلولة وقطع علائق الداء المعني.
مفهوم التفاهة
يرجع اللفظ في وضعه اللغوي إلى تفِه تفاهة وجمعها توافه، وهي نقصٌ في الأصالة، أو الإبداع، أو القيمة، وكذا الدناءة، والحقارة، ومنها المعنى الوارد في الحديث النبوي في ثنايا ذكر علامات الساعة وأماراتها، ككلام التافهة في أمر العامة… ((قلنا: وما الرويبضةُ يا رسول الله، قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)) فعبَّر عليه الصلاة والسلام عن تصدّر الجاهل والدنيء لأمور وشؤون الناس مما لا صلة ولا اختصاص له به تفاهةً منه.
أما في العموم فالتفاهة هي اتجاه فكري معاصر تشكَّل إثر استحكام نظريات الدولة الحديثة وسردياتها الحاكمة للنظام الحياتي المعاصر.
أسباب التفاهة ومغذياتها
إن حالة التردي بشكل عام في العصر الحالي، وبصورة خاصة في الشعوب المسلمة؛ يرتهِن للاضطراب الحضاري، والزعزعة المعيارية في صفوفها، من غيابٍ لحاكمية النسق الشرعي، واختلال في منظومة القيم المستمدة من الكتاب والسنة، وضعف التعاطي مع عجلة التقدم العلمي، إما بنوع تخلف ملحوظ، أو مجاراة غير منضبطة فيها تفريط للوصول من جهة وانغماس في فروعيات وافدة من نواحٍ أخرى، وقد عبّر عن هذه الثُلمة الدكتور سعيد بشار في رائعته المسماه بـ(المصطلح خيار لغوي وسمة حضارية) بعبارات وعَبرات تحكي أرَقه وحزنه على حالة الضعف للأمة إذ يقول: «هذه الأمور من أهم عوامل صحة الأمة وعافيتها، أو سقمها ومرضها، أو قل هي بمثابة الشريان الذي يدفع الدم الزكي الطيب للجسم؛ فيكون غذاء ينتفع به، أو يدفع الدم الخبيث العفن فيكون داءً يتضرر منه…» والدكتور بشار هنا يتكلم عن سطوة الاستغناء عن عموديْن من أهم روافع الحياة الإنسانية، وما نتج عن غيابهما من تفاهة، وضلال وتيه، وهما: اللغة والدين.
كذلك من أسباب سيطرة التفاهة على جيل الأمة المسلمة الاستغناء عن أدوات فهم التراث الشرعي، المَعين الناظم للحياة، واستجلاب قوالب جديدة من خارجه لتكون حكمًا عليه، تارة تبديلًا لمظانه، ومرة بطرد معانٍ مركزية فيه، ومرات عديدة باستجلاب معانِ أجنبية عنه كدلالات لألفاظه، وهو المعنى الذي دارت حوله رسالتا الأستاذ أبي عمر إبراهيم السكران رائجتا الصيت، وذائعتا الشهرة في الباب، وسبك في ذات المنحى الدكتور خالد بن عبد العزيز السيف كتابه المسمى (ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر) والتي أحلى ما فيها تدارس منابع التفاهة في هذه الجزئية بنقد أهم المشاريع العربية ذات القراءات التافهة للنصوص الشرعية.
سطوة نموذج الدولة الحديثة على الحياة القيادية الحالية يلعب دورًا مهمًّا في نظام التفاهة كما عبّر عن ذلك الأستاذ آلان دونو في رائعته (نظام التفاهة)، وحاصل ما قاله أنَّ الضعف الموجود في أنظمة التعليم والإدارة والصناعة والإعلام ولاقتصاد وجميع محاريب الحياة لهو فرع عن أصل هذه الأدواء العضال وهو: تولية الأشخاص محدودي ومتوسطي الذكاء والفِطنة لقيادة الأمم والشعوب.
مظاهر التفاهة
ضعف الإنتاج العلمي، وإغراق الناس في السفسطة والجدل وعدِّها ذلك علمآ يدفع ويرفع، والازدراء لأي محاولات إصلاحية لهذا العطب.هو عين التفاهة وهو المعنى الذي ساقته الكاتبة النافذة الرؤية (الأديبة إقبال بركة) في ثنايا تقدمتها لرائعتها (الحب في صدر الإسلام) وهي تتحسّر على ضيق عَطن القلم العربي الذي تنكّر للمفردة الشعرية القديمة واستعاض عنها بشوارد أوصاف حديثة إذ تقول: «إنها قراءة جديدة لقصص قديمة، قراءة بعيون عصرية، عيون امرأة القرن العشرين المشرف على نهايته؛ امرأة تؤمن بالحب وتأثيره الرائع على قلب الإنسان ونفسه وعقله…» ثم واصلت السرد والاستشهاد لحالة التفاهة في النظم الحديث للحب والوجدانيات بشكل عام مع عزوها للسبب أعلاه: وهو ضعف الإنتاج وضآلة التدوال للموروث!
سيادة العبثية والعدمية والمناهج الخادمة لهما: فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 -وأعني حدث تفجير برجي التجارة العالميين- تخِذت الفضاءات الحياتية نوع تحول بظهور موجات الإلحاد الجديد كما رصد ذلك الباشمهندس عبدالله العجيري وقام بتشريح التفاهة وربطها بهذه الطامة الدكتور عمرو شريف في كتابه المعروف.
سبل المواجهة
أول خطوات مواجهة هذه الموجة الخطيرة هي التعرف عليها، ثم دراسة أسبابها في أي منحى تمظهرت فيه، ثم أخذ الحيطة والحذر من استفحالها، وتدارك نتائجها الكارثية بجملة من التدابير نزعم نفعها وهي:
- المنهجية في التعلُّم والتدريس: فأس التفاهة المعرفية التخبط في مصادر المعارف ومنتوجاتها فالأخذ العشوائي للمعلومات نفسه باب قائدٌ للتفاهة، ومقدمات رادة للنتائج العفِنة، فلا بد من ضبط الأصول لتنضبط الفروع، وسلامة القواعد ضامن لسلاسة النهايات، والبناء رهن ساسه متانةً وبقاء!
- توسيع دائرة المزاحمة للتافهين وتقديم المطلوب الإعلامي والإداري والتعليمي والقيادي، وسد حاجة المجتمع بتجهيز اللوازم بشتى المنافذ التي يدخل عبرها التفه والسوء؛ فالطبيعة لا تقبل الفراغ.
- الطرق المتزايد لمعضلة التفاهة وتاريخها وظروف ظهورها وخوادمها أمر مهم في مدافعتها.
والله المستعان.