في ظلال الحروب الصليبية: الحملة النصرانية الكبرى على العالم الإسلامي
لقد تبين لنا في المقال السابق؛ أن الحروب الصليبية هي أبرز محطات الصراع بين الغرب الذي كانت تمثله المسيحية والشرق الذي صار يتمثل في الإسلام في حقبة العصر الوسيط، كما أن المفهوم الواسع والمتكامل للحروب الصليبية بدأ في التشكل بتلك الحملة الكبرى التي شنتها القوى النصرانية على الوطن الإسلامي، سواءً في المشرق أو المغرب، منذ أن تحولت هذه القوى من الدفاع نحو الهجوم، وذلك بعد توقف توسعات المسلمين نحوها.
الفتوح الإسلامية ورد فعل أوروبا المسيحية
كانت الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) أول قوة نصرانية تقف في وجه المسلمين وتعادي الإسلام، وذلك منذ أن رفض الإمبراطور البيزنطي رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وصار الروم وأتباعهم ينازعون المسلمين إلى أن خرجت الجيوش الإسلامية من شبه الجزيرة العربية باتجاه الغرب، فانتزع المسلمون أجزاءً من امبراطورية بيزنطة بفتح كل من الشام ومصر والشمال الإفريقي، بالإضافة إلى جزر البحر المتوسط كجزيرة قبرص وصقلية.
ولم تكن كنيسة القسطنطينية التي كانت تحكم أجزاءً من أوروبا الشرقية والأناضول هي الوحيدة التي كانت تشعر بالخطر -لاسيما والمسلمون العرب أخذوا يحاصرون القسطنطينية أكثر من مرة في العهد الأموي- فقد بدأت كنيسة روما أيضًا تحس بالتهديد الإسلامي الصاعد؛ حيث اجتاح المسلمون بلاد المغرب واستطاعوا فتح الأندلس فكان ذلك ضربة قاسية للكنيسة الغربية، التي ما لبث رئيسها البابا أن استنفر كل مسيحيي أوروبا لإيقاف الزحف الإسلامي الذي بدأ يضم مناطق في بلاد الفرنجة، فلبت الجيوش النصرانية النداء الصليبي وتمكنت من إلحاق هزيمة كبيرة بالجيش الإسلامي في معركة بلاط الشهداء (بواتييه) الشهيرة عام 114ه/732م في فرنسا.
وعلى إثر هذه المعركة توقفت الفتوحات الإسلامية بغرب أوروبا وتراجع النفوذ الإسلامي إلى الأندلس، لتتحول أوروبا النصرانية من رد الفعل إلى الفعل، وبدأت كنيسة روما الكاثوليكية تتخذ إجراءات من أجل حرب المسلمين في الأندلس وإخراجهم منها، أما في جهة المشرق الإسلامي فقد كانت الدولة البيزنطية وكنيستها الأرثوذوكسية تخوض الحرب في حين والصلح (مع دفع الجزية) في حين آخر مع الدولة الإسلامية في العصر العباسي الأول، لكن بضعف الخلافة العباسية وانقسام المسلمين قد جعل الروم والكنيسة الشرقية يتوقون إلى استرجاع ما أخذه المسلمون، لتبدأ الحملة البيزنطية الكبيرة على المسلمين من أجل تحقيق ذلك نحو استعادة المجد.
بيزنطة والهجوم المضاد الكبير
كانت بداية ضعف الخلافة العباسية في طورها الثاني وانفصال أجزاءها إلى إمارات؛ محفزًا قويًا للروم البيزنطيين نحو الثأر والانتقام واستعادة المجد، لاسيما والعرش البيزنطي قد اعتلته واحدة من أقوى الأسر في تاريخ الروم وهي الأسرة المقدونية، التي نفخت روح جديدة في الدولة البيزنطية، فبدأ الأمر مع تولي قسطنطين الرابع (913-919م) ثالث الأباطرة المقدونيين الحكم الرومي، ثم بدأ حملته على شرق الأناضول والاستيلاء على مدنه الإسلامية وإرغام أخرى على دفع إتاوة له، ثم التوجه نحو الشام والاستيلاء على مدن وقلاع الحمدانيين (حكام سورية).
بالإضافة إلى تدمير مناطق شامية أخرى في عهد نقفور فوقاس المعروف بحماسته الشرسة ضد المسلمين، حيث في عهده دمر الروم حلب وأحرقوا مساجدها[1]، وكذلك اجتاحوا حمص وحماه وخربوهما، وما لبثت الجيوش البيزنطية أن اقتحمت مدينة أنطاكية وطردت المسلمين منها[2].
وهكذا تحولت حملة الروم التوسعية إلى حركة صليبية انتقامية، استغلت ضعف المسلمين وتمزقهم -لاسيما والشيعة قد استولوا على مقاليد حكم المشرق الإسلامي- فاخضعوا بالتالي شمالي الشام وأخذوا في محاولات للوصول إلى بيت المقدس، كما أنهم سيطروا على شرقي الأناضول ومملكة أرمينية، بالإضافة إلى تهديدهم لشمال العراق وعاصمة الخلافة بغداد نفسها، فقد أرسل إمبراطور بيزنطة نقفور رسالة تهديد ووعيد إلى الخليفة العباسي ينصحه فيها بالرجوع إلى شبه الجزيرة العربية، وأن الروم سيجتاحون الشام والعراق من جديد، وكانت رسالته مفعمة بالروح الصليبية الحاقدة حيث صرح فيها بقدرته على النيل من المسلمين بهدم الكعبة ونشر المسيحية في الشرق والغرب[3].
واستمرت الأوضاع طوال القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي في ظل ضعف إسلامي متفاقم، حيث وصل العبيديون إلى مصر والشام وأعلنوا الخلافة الفاطمية الشيعية، كما أن بغداد خضعت للبويهيين الشيعة، إضافة إلى اضمحلال قوة الحمدانيين وضربات القرامطة الباطنية الذين نشروا الرعب في المشرق الإسلامي، كل هذا أدى إلى سيطرة الروم على آسيا الصغرى وتمددوا إلى عمق بلاد الشام والجزيرة الفراتية، كما حدث في عهد كل من الإمبراطور حنا شمشيق وباسكال الثاني، ولم يوقف هؤلاء البيزنطيين عند حدهم سوى ظهور السلاجقة منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، الذين استطاعوا إلحاق هزيمة قاصمة بالإمبراطورية البيزنطية في ملاذكرد سنة 463ه/ 1070م.
حروب الاسترداد وبداية الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس
اكتفى المسلمون بشبه الجزيرة الإيبيرية وطنًا لهم بعد معركة بلاط الشهداء، إلا أن البابوية ومسيحيو أوروبا الغربية ما كانوا ليتركوا المسلمون يعيشون في ذاك الطرف الكبير من أوروبا، إذ حاول شارلمان الامبراطور الإفرنجي اجتياح الأندلس وإخراج المسلمين منها؛ لكنه أخفق نتيجة اضطرابات في دولته، بالإضافة إلى تزامن هذا الأمر مع انتهاء عبد الرحمن الداخل من السيطرة على الأندلس، وتأسيس دولة الأمويين فيها، لكن ذلك لم يمنع من خسارة المسلمين المبكرة لمدينة كبرشلونة في الشمال الشرقي عام 175ه/808م [4].
ولم يكن الخطر الصليبي يكمن خارج الأندلس فقط، بل كان ينمو داخل جغرافية البلاد، إذ أن المسلمون حينما فتحوا الأندلس لم يلتفتوا إلى فلول الجيش القوطي الذي اعتصم بجبال ناحية شمال غرب البلاد، وكان يقودهم أحد أشراف القوط المسمى ببلاي [5]، الذي بدأ بمحاربة المسلمين، فكان ذلك فاتحةً لما يسمى “بحروب الاسترداد”، كما أن صخرة بلاي (كما تسميها المصادر العربية) كانت نواة لتأسيس الممالك النصرانية في شمال الأندلس.
وسرعان ما تأسست الإمارات المسيحية واتخذت أسماءً مثل ليون ونافار وجليقية وقشتالة، وتلقت دعمًا غير محدود من الدول النصرانية بالغرب الأوروبي، كم حظيت برعاية من الكنيسة الرومانية والكرسي البابوي، وخاضت حروب متواصلة مع الدولة الأموية في الأندلس، واستطاعت بذلك كسب مساحةً مهمة في الشمال.
وكان الصراع مشتعلًا دومًا بين النصارى والمسلمين في الثغور والحدود، فكانت الممالك المسيحية تشعل الاضطرابات والفتن داخل الدولة الإسلامية فتتقدم تارةً للاستيلاء على بعض القلاع والحصون وتتراجع تارةً أخرى، بفعل القوة الإسلامية المتجددة في عهد الأمراء والخلفاء الأقوياء كعبد الرحمن الناصر، الذي خاض معارك مع إمارة ليون التي اقتحمت طليطلة عام 304 ه/915م وعاثت فيها فسادًا، قبل أن يستعيدها المسلمون بسرعة، واشتعلت معارك أخرى اتخذت طابعًا صليبيًا مع باقي الإمارات المسيحية، التي ما لبثت أن شنت عدوانًا على المناطق الإسلامية في الشمال الأندلسي.
وقد اتخذت دول المسيحيون موضع الدفاع زمن الدولة العامرية وقائدها الحاجب المنصور، الذي كان عهده حافلًا بالحرب ضد النصارى ودحرهم، لكن بسقوط الدولة العامرية (الوصية على الخلافة الأموية) اندلعت الفتنة بين المسلمين وانهار صرح الأندلس الإسلامي بعد أن طالته أيادي الانقسام والتشرذم، وذلك في الوقت الذي بدأ فيه الاندماج والوحدة بين القوى النصرانية المتحمسة لحرب صليبية “استردادية” جديدة أشد من السابق، وذلك لطرد المسلمين والقضاء عليهم في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي.
وهكذا ستبدأ مرحلة جديدة من الحرب الصليبية الكبرى على الوطن الإسلامي سواءً في الأندلس الذي رجحت فيه كفة النصارى على حساب المسلمين المنقسمين على أنفسهم، أو في المشرق الذي سيتعرض لحملات عسكرية صليبية قادمة من الغرب الأوروبي وبقيادة عاصمة المسيحية الأولى: روما.
المصادر
- سعيد عاشور، الحركة الصليبية، الطبعة الأولى، ج1، مكتبة الأنجلومصرية، ص 52-53.
- المصدر نفسه، ص 55.
- Schlumberger,Un empereur byzantin au dixième siècle : Nicéphore Phocas, 1890, pp 427-430.
- محمد المطوي، الحروب الصليبية في المشرق والمغرب، دار الغرب الإسلامي، 1982، ص 207.
- المصدر نفسه، ص 188.