أحداث فاصلة في تاريخ الأندلس لابد أن تعرف عنها- الجزء الثاني
ذكرنا في المقال السابق” أحداث فاصلة في تاريخ الأندلس لابد أن تعرف عنها” أهم محطات قصة فتح الأندلس ومتتبعين الأسباب التي أدت للنجاح، الأن نستكمل باقي القصة خاتمين بأسباب الهزيمة والسقوط.
معركة بلاط الشهداء:
التقى الجيشان؛ خمسون ألفًا من المسلمين أمام أربعمائة ألف استطاع “شارل مارتل” تجميعهم من كل شيء طالته يداه؛ فمحاربون ومرتزقة، وفرنجة وهمج قادمون من الشمال، وأمراء وعامة وعبيد، واندلع القتال بين الجيشين لمدَّة تسعة أيام لا غالب ولا مغلوب.
حتى إذا كان اليوم العاشر، حمل المسلمون على الفرنج حتى كادوا ينتصرون إلاَّ أن فرقة من فرسان الفرنجة استطاعت أن تنفذ إلى معسكر الغنائم في خلف الجيش الإسلامي، وهنا صاح الصائح ينادي على الغنائم، فقفلت فرقة من الفرسان في قلب الجيش الإسلامي إلى الخلف مدافعة عن الغنائم، فاهتزَّ قلب الجيش الإسلامي، ثم اهتزَّ وضع الجيش جميعه مع هذه الحركة المفاجئة، وما كان عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- ينادي على الناس ويحاول تجميعهم من جديد حتى أصابه سهم ألقاه من على فرسه شهيدًا، فصارت الطامَّة طامتان: ارتباك حركة الجيش، واستشهاد القائد العظيم.
وكان قائد المعركة الأخيرة عبد الرحمن الغافقي آخر مسلم قاد جيشًا إسلاميًّا منظمًا لاجتياز جبال البرانس، ولفتح فرنسا، وللتوغُّل -بعد ذلك- في قلب أوربا. وهُزِمَ الغافقي.. سقط شهيدًا في ساحة بلاط الشهداء إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة.. وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوربا، وطَوَوا صفحتهم في هذا الطريق.. وكان ذلك للسبب نفسه الذي استفتحنا به دروس الهزيمة.. أعني بسبب الغنيمة. ومنذ تمَّ الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفَتْح ما وراءها، هكذا أراد موسى بن نصير، لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك خشي أن يُغَامِر بالمسلمين في طريق مجهولة، ثم فكَّر على نحو جدي السمحُ بن مالك الخولاني والي الأندلس ما بين عامي 100-102هـ، وتقدَّم فاستولى على ولاية سبتمانيا إحدى المناطق الساحلية المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنسا، وعبر -بذلك- السَّمْح جبال البرانس، وتقدَّم فنزل في أرض فرنسا مُنعطِفًا نحو الغرب؛ حيث مجرى نهر الجارون، مُستوليًا في طريقه على ما يقابله من البلدان، حتى وصل إلى تولوز -في جنوب فرنسا- لكنه لم يستطع أن يستقرَّ فيها، وقُتِلَ السَّمْحُ، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده عبد الرحمن الغافقي فكأن السَّمْح لم ينجح إلاَّ في الاستيلاء على سبتمانيا»
النصر الكارثي:
ربما يبدو هذا العنوان غريبًا على البعض؛ لكنه في الحقيقة كان ما أثبته الواقع وشهد به التاريخ، ولقد فطن إلى هذا المعنى بعض المنصفين من مؤرخي أوربا، قال أناتول فرانس:
“إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتيه -بلاط الشهداء- حين هَزَم شارل مارتل الفرسان العرب -المسلمين- في بواتيه سنة 732م، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية بين التاريخ والواقع”
-الملاحظ أن المسلمين قد اغترُّوا بهذه الدنيا التي فُتحت عليهم فتنافسوها؛ ففي الحديث عن عمرو بن عوف الأنصاري أن رسول الله قال:
«فَوَاللهِ! مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»
فسُنَّة الله في خلقه أنه إن فُتِحَت الدنيا على الصالحين؛ فاغترُّوا بها وتنافسوا فيها؛ فإنها ستُهلكهم لا محالة كما أهلكت مَنْ كان قبلهم
-أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة؛ وهو العنصرية والعصبيَّة القَبَلِيَّة، التي كانت بين العرب والأمازيغ (البربر) في هذه بلاط الشهداء، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذه العصبية ووَعَته كتبهم، وظلَّ في ذاكرتهم على مدار التاريخ
معركة العقاب 15 صفر 609هـ:
لقد شهدت بلاد الأندلس العديد من المعارك الحاسمة والتاريخية في مصير دولة الإسلام في الأندلس، والتي كانت بمثابة النقاط الفاصلة في حياة الأمة، وإن كانت معارك مثل وادي لكة وبلاط الشهداء وبرشلونة وفتح جليقية والزلاقة والأرك سببًا لتدعيم مكانة الدولة وزيادة قوتها، فإن معركة العقاب كانت فاتحة الانهيار الشامل لقواعد الأندلس الكبرى
فبعد الانتصار الباهر الذي حققه الموحدون حكام الأندلس والمغرب على صليـبي الأندلس في معركة الأرك سنة 591هـ، ركن الصليبيون للمهادنة انتظارًا للفرصة السانحة للوثوب مرة أخرى، وكان ألفونسو الثامن منذ هزيمة الأرك الساحقة يتوق إلى الانتقام لهزيمته وغسل عارها الذي جلل سيرته وفترة حكمه، فلما اشتعلت ثورة «بني غانية» وهم من أولياء دولة المرابطين التي كانت تحكم الأندلس والمغرب قبل الموحدين، في شرق الأندلس وشمال إفريقيا انشغل زعيم الموحدين «الناصر لدين الله» بقمع هذه الثورة، وذلك منذ سنة 595هـ حتى سنة 607هـ، وهي السنة التي قرر فيها ألفونسو الثامن الهجوم على الأندلس مرة أخرى.
بدأ ألفونسو الثامن حملته الصليبية على الأندلس بإزالة الخلافات العميقة بين ممالك إسبانيا النصرانية الثلاثة (قشتالة ـ ليون ـ أراجون) والتي كانت سببًا مباشرًا لهزيمة الصليبيين المدوية في معركة الأرك سنة 591هـ، ثم قام ألفونسو الثامن بطلب المعونة والمباركة من بابا روما، وهو البابا «إنوصان الثالث» وكان يضطرم بروح صليبية عميقة ويجيش بأحقاد عظيمة تجاه المسلمين الذين أفشلوا الحملات الصليبية على الشام وحرروا القدس، فوافق البابا على ذلك الطلب وأعلن شن حرب صليبية ضد مسلمي الأندلس، بعدها بدأت التحرشات الإسبانية.
“ونلاحظ أنه لطالما كان تفرقنا وتنازعنا علي الدنيا سببًا لهزيمتهم ومحفزًا لهم علي توحيد صفوفهم “
وصلت الجيوش الموحدية لإشبيلية في آخر ذي الحجة سنة 607هـ، وهناك انضم إليه أعداد كبيرة من جنود الأندلس وأصبحت الجيوش في حالة تعبئة كاملة، وحدد الناصر هدف الهجوم. وهو قلعة شلبطرة في جبال الشارات «سييرامورنيا الآن»، وكانت هذه القلعة بيد فرسان المعبد الصليبي، وكانت نقطة إغارة دائمة للصليبيين على المدن الإسلامية بالأندلس، فطوق الموحدون القلعة وضربوها بالمجانيق حتى فتحوها بعد 51 يومًا من الحصار.
كان لفتح هذه القلعة أثر شديد في قلوب الصليبيين خصوصًا ألفونسو الثامن للأهمية الكبيرة لهذه القلعة، فقرر الهجوم على قلعة رباح وكانت نظيرة قلعة شلبطرة في الأهمية والمكانة عند المسلمين، وقد انضم لألفونسو آلاف المتطوعين من فرنسا وألمانيا وهولندا وإنجلترا ومجموعة كبيرة من الأساقفة والرهبان، إضافة للفرسان الأسبتارية والداوية الذين انتقلوا من الشام إلى الأندلس لحرب المسلمين، وأمر البابا إنوصان الثالث في روما بالصوم ثلاثة أيام التماسًا لانتصار الجيوش الصليبية على مسلمي الأندلس، وأقيمت الصلوات العامة وعمد الرهبان والراهبات إلى ارتداء السواد والسير حفاة في مواكب دينية بخضوع وتمهل ومن كنيسة إلى أخرى، وجاشت نفوس الأوربيين كافة بروح صليبية عارمة.
هجم الصليبيون بشدة على قلعة رباح وشددوا عليها الحصار حتى أجبروا حاميتها الصغيرة على الاستسلام نظير الأمان، وقد أدى هذا الأمان لغضب الصليبيين الفرنجة الذين جاءوا من أوروبا الذين أرادوا ذبح الحامية الإسلامية ورفض أي تسوية سلمية تحقن دم المسلمين، وتنامى هذا الغضب حتى انشق كثير منهم وتركوا ألفونسو الثامن وعادوا إلى بلادهم.
استعد الفريقان للصدام المرعب وكان الناصر الموحدي مزهوًا بنفسه واثقًا من النصر لحد الغرور المهلك نظرًا لضخامة الجيوش الموحدية «قرابة النصف مليون»، وكانت ثنية العقاب عند سفح جبال الشارات بالقرب من «مدريد» حاليًا هي موضع القتال الذي اندلع في 15 صفر سنة 609هـ، وهجم الموحدون بكل قوتهم على صفوف الصليبيين الذين صمدوا بروعة لهجوم الموحدين، ثم أخذوا في التراجع والانهزام أمام الموحدين، وبدا النصر قريبًا، ولكن كان الهجوم الخاطف الذي قاده ألفونسو الثامن بنفسه على ميمنة الموحدين ثم تلاه هجوم مماثل على ميسرة الموحدين قام به ملك أراجون، فاضطرب جناحا الجيش الإسلامي واختلطت صفوفهم، وعندها قام الأندلسيون بتنفيذ خطتهم في الفرار من أرض المعركة، وحاول الناصر الموحدي عبثًا تنظيم صفوف جيشه ولكنه فشل وكاد أن يقتل هو نفسه، وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة للموحدين قتل فيها عشرات الآلاف، منهم معظم المتطوعين من المغاربة وقبائل العرب.
وكانت هذه الهزيمة الساحقة أول مسمار في عرش دولة الموحدين الكبيرة وإيذانًا بانهيار مملكتهم الواسعة وحول ميزان القوى بالأندلس لصالح الإسبان، وقد عم الابتهاج والفرح في أنحاء أوروبا وأقيمت صلوات شكر مخصوصة قام بها إنوصان الثالث بنفسه.
الأخطاء والعوامل التي أدت للسقوط والانهيار:
-لا بأس من الاستعانة بالنصارى على قتال المسلمين المجاورين في سبيل استعادة العرش، مع الخطأ العقائدي القاتل في هذا الأمر، إلا أنه في سبيل هذان يتوجب عليك تسليم مدينة أو ما يشترطون.
وفي سلسلة من الحوادث المؤسفة، كان السلطان أبو الحجاج يوسف يقف للصلاة في عيد الفطر، فاخترق الصفوف رجل من عامة الناس، وصار يطعنه بالخنجر حتى فاضت روحه البريئة 1354م. بموته انقطعت الصلات الوثيقة بين أهل غرناطة وحلفائهم المسلمين في البلاد الأخرى، ولم تزد العلاقات أكثر من التهنئة بالأعياد أو التعزية في مصاب.
-وأهم ما ساهم في رسم بداية الفصل المأساوي الأخير، وغروب شمس الإسلام من بلاد الأندلس، أن وقع الملك أبو عبد الله محمد أسيرًا في يد القشتاليين. وكان ضعيف الهمة، كلما أهمه هو الخروج من الأسر، واستعادة العرش مهما كانت الوسائل، وأيًا كان من يساعده. فهم أعداؤه هذا جيدًا فاحتفظوا به كورقة رابحة تستخدم من حينٍ لآخر، ولم يكفوا عن تقديم الوعود ذات البريق الزائف. واستطاعوا أن يُعيدوا تشكيل أفكار ذلك الملك الضعيف، وأقنعوه أن قشتالة هي أم الدنيا، والرابح من يسعى لإرضاء فرناندو وإيزابيلا. هذا بالطبع لمن أراد الدُنيا فسعى لها. وأصبح الملك مهيأً لفعل ما يطلبونه، مهما كان فيه من تفريطٍ في ما هو من واجب الدين، وما لا ينبغي على مسلمٍ تركه أبدًا.
وهذا تحديدًا ما كانت الملكة عائشة تخشى حدوثه، أن يقع ابنها تحت تأثير النصارى، ونفوذهم. ولعلها كانت تدرك عاقبة هذا الأمر في تبديل دين المرء فإنه مما روِي عن سفيان الثَّوري:
“لما التقى يوسف ويعقوب عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكى. فقال يوسف: يا أبت بكيت عليَّ حتَّى ذهب بَصرك. ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟! قال يعقوب: بلى يا بني. ولكن خشيت أن يُسلَب دينك، فيُحال بيني وبينك”
ولم يعلم كثيرٌ من الناس أن الملك قد خرج من أسره ضعيفًا مُتهالكًا، باع للعدو كل شيء مقابل العرش. فكان:
-يعترف بالطاعة والتبعية للتاج الإسباني.
-يدفع جزية سنوية قدرها 12 ألف دوبل من الذهب.
-يفرج عن أربعمائة أسير من أسرى النصارى.
-يقدم ولده الأكبر وأبناء بعض الأمراء رهينةً للوفاء.
-وظل يدعو الناس لمهادنة النصارى والتصالح معهم، من أجل العيش في سلام ورخاء!.
-ثم كان توقيع معاهدة التسليم بين جانب قشتالي قوي متشدد، وجانب غرناطي ضعيفٌ متهالك عام 1491م_897هـ
وكانت مليئة بالبنود المهينة، التي تضمن كل القوة للقشتالين، ولا تضمن شيئًا للمسلمين، اللهم إلا أن يظلوا مسلمين، ولا يحق لنصراني أن يدخل دور عبادتهم ويقتحمها، ومن يفعل يعاقب، وألا يكون لغير المسلمين سلطة أو ولاية عليهم!
وكعادة كل المعاهدات التي يصر حكامنا عليها، لم ينفذ فيها إلا ما يضمن للقشتاليين، مطامعهم. فخرقوها من أول يوم دخلوا فيه غرناطة، حيث أقاموا القداس في جامع غرناطة الكبير. ثم توالت الانتهاكات حتى صدر مرسومٌ بطرد المسلمين من الأندلس وإلقائهم على شواطئ المغرب.
-المشكلة أن المسلمين لم يكونوا مجبرين على التسليم أبدًا، وقد كان بإمكان المسلمين المقاومة ورد النصارى. ما نعرفه يقينًا أن الملك ومن معه من الوزراء كانوا أحد العوامل الرئيسية في تسليم غرناطة. ولعل النقطة الوحيدة التي تُحسب له أن رفض التنصير جملة وتفصيلًا، رغم كل ما فرط فيه، ورفضه الاستماع لمن نادى بالمقاومة والشهادة وعدم الموافقة على التسليم. ولو كان أخذ هذا الموقف الشجاع لوجد معه شعبًا عظيمًا يؤثر الشهادة على التسليم.
وهذا حال المعاهدات دائمًا وأبدًا، حكامنا يسلمون أراضينا، من أجل السلام والرخاء. ثم، لا سلام، ولا رخاء، بل مزيدٌ من الشقاء، والتبعية. وما معاهدة كامب ديفيد ببعيد، بل إنا نتجرع مُر السلام هذا كل آن.
ولا يزال ملوك بني الأحمر يحكمون البلاد الإسلامية، بأحقادهم وحرصهم على الملك والعرش، ويلعبون بمستقبل البلاد والعباد، والقشتاليون يكسبون في كل يوم أراضٍ جديدة. لم يعد أمام المسلمين من سبيل إلا واحدة واضحة، يجب التخلص من حكم بني الأحمر في كل بلاد المسلمين، ويجب القضاء على دول الطوائف التي زخر بها عالم المسلمين اليوم والجهاد طريقٌ إلى الجنة أو إلى حياة كريمة عزيزة أبية.
المصادر:
كتاب “وتذكروا من الأندلس الإبادة” لأحمد رائف
عندما كنا عظماء .. للدكتور راغب السرجاني
18 موقعة غيرت مجرى التاريخ الإسلامي، ربما لم تسمع عنها من قبل