في ظلال الحروب الصليبية: الحملة النصرانية الكبرى على العالم الإسلامي- الجزء الثاني
أشرنا في الجزء الأول إلى بداية الحملة المسيحية الكبرى على الأمة الإسلامية، سواءً في مشرقها الذي عرف الهجوم البيزنطي الكاسح؛ أوفي مغربها حيث انطلاق “حرب الاسترداد” النصرانية في الأندلس، وقد عَرفت هذه الحروب مدًا وجزرًا بين المسلمين والنصارى، لكن الأمور ستعرف تطورا جديدا ابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي والخامس الهجري، إذ ستتجدد الروح الصليبية الأوروبية بشكل غير مسبوق.
أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي/ الخامس الهجري
عرفت أوروبا تطورات مهمة في القرن الحادي عشر، إذ حاولت البابوية فرض سيطرتها على أوروبا الغربية، وحتى على الكنيسة الشرقية تلك الخاصة بالإمبراطورية البيزنطية، فأدى هذا الطموح إلى النزاع مع الإمبراطورية الجرمانية فيما عرف بصراع السلطة الروحية والزمنية، ومن أجل هيمنة كنيسة روما على الأرجاء الأوروبية حاول البابوات فرض سلطتهم؛ بدءً بالبابا غريغوري السابع الذي انحنى الإمبراطور الجرماني أمامه وفي عهده انتعشت الصليبيات في الأندلس، كما أنه استغل طلب الإمبراطور البيزنطي الدعم لوقف تقدم السلاجقة المسلمين في الأناضول بعد موقعة ملاذكرد.
أضف إلى ذلك تضاعف عدد سكان أوروبا واندلاع نزاعات بين الأمراء الإقطاعيين، فقررت البابوية صرف هذه القوى خارج أوروبا تحت ستار الدين والمقدسات، لتلتفت بأنظارها الطامعة إلى البلاد الإسلامية البعيدة في الشرق، وبذلك انطلقت الحملات الصليبية في عهد البابا أوربان الثاني تلميذ السابق.
كنيسة روما الكاثوليكية وانطلاق حملات الفرنجة الصليبية إلى المشرق
دبت الروح الصليبية بغزارة في أنحاء أوروبا وصارت البابوية تتطلع لمشروعها الكبير، فانعقد مجمع كليرمونت في فرنسا عام 488ه/ 1095م، ودعا فيه البابا أوربان الثاني إلى شن الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي و”تحرير قبر المسيح”، فانتشرت الدعاية والدعوة لهذا الأمر، فتحركت حملة العامة والدهماء المعروفة أيضا بالحملة الشعبية التي جمعت غوغاء وأهالي البلاد الأوروبية، بقيادة الراهب بطرس الناسك ثم ولتر المفلس، الذين وصلوا إلى القسطنطينية بعد أن خربوا ونهبوا الكثير في الطريق، فأدى سلوكهم هذا إلى إسراع الإمبراطور البيزنطي بنقلهم إلى آسيا الصغرى حيث سيُسحقون بسهولة على أيدي سلاجقة الروم.
وفي الوقت ذاته أخذت أوروبا في الاستعدادات لتكوين جيوش نظامية تحت قيادة أمراء من النبلاء، وسُميت ب”حملة الأمراء” أو “الحملة الصليبية الأولى“، والتي استطاعت التغلب على الجيش السلجوقي في موقعة ضورليم، ثم الوصول إلى الشام وفلسطين، فتم تكوين إمارات صليبية كالرها وأنطاكية ثم مملكة بيت المقدس، بعد أن أحدثوا مجزرة مروعة في القدس غداة احتلالها، حيث قتل كل من فيها من المسلمين سنة 491ه/1099م.
تحركت القوى الإسلامية نحو جهاد الصليبيين الفرنجة بعد تقاعس وضعف مستمر غداة انقسام دولة السلاجقة الكبرى، فكانت هذه القوى بزعامة عماد الدين زنكي ثم ابنه نور الدين، فاستطاعوا تحرير الرها والضغط على الصليبيين، ثم في النهاية تشكيل جبهة قوية لمحاصرة الفرنجة استعدادا لطردهم.
فتحركت الحملة الصليبية الثانية بعد الصحوة الإسلامية في المشرق، فكان من المحرضين لها راهب فرنسي متعصب، فحظيت بدعم من البابا الذي وجه دعوته نحو ملوك أوروبا، فاستجاب الامبراطور الألماني والملك الفرنسي اللذان اجتمعا في الشام بعد مواجهة مع السلاجقة، فاتجهت جيوش الفرنجة نحو دمشق ولم تستطع اقتحامها مما أحبط هذه الحملة.
وفي الجانب الإسلامي فقد تمكن المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي من استعادة بيت المقدس، مما أثار ضجة في أوروبا لتدق أجراس الكنائس استعدادا للحملة الصليبية الثالثة، التي كان من بين قادتها ملك الإنجليز ريتشارد (قلب الأسد)، لكن الصليبيين فشلوا في استعادة القدس لتنتهي هذه الحملة بإخفاق جديد.
لتتوالى الحملات فاتجهت الرابعة نحو القسطنطينية على إثر الخلاف بين الكنيستين الأرثوذوكسية والكاثوليكية، فاجتاح الصليبيون مدينة بيزنطة وأقاموا فيها مملكة لاتينية لسنوات عديدة، أما عن الحملة الخامسة فكان هدفها مصر الذي رأى فيها الفرنجة طريقا نحو فلسطين لكنها انكسرت وخابت.
وكانت ظروف انطلاق الحملة السادسة مختلفة؛ حيث أجرى الامبراطور الجرماني مفاوضات مع الملك الكامل الأيوبي، فحصل على القدس لكن سرعان ما استردها المسلمين بقيادة الملك الصالح أيوب، فانطلقت الحملة السابعة بقيادة ملك فرنسا المتعصب لويس التاسع (القديس) التي انهزمت في معركة المنصورة في مصر عام 648ه/1250م، وأسر الملك نفسه وتم الإفراج عنه بعد دفع الصليبيين فدية باهظة، لكن سرعان ما رجع الصليبي لويس التاسع إلى بلاد المسلمين فشن حملة على افريقية (تونس)، وعُرفت بالحملة الثامنة، لكنها فشلت بوباء أهلك الجيش الصليبي وبموت الملك نفسه.
لتنتهي حملات الفرنجة الصليبيين البالغة عددها –وفق إجماع المؤرخين- ثمان حملات عسكرية كبيرة، وقد أحدثت تحولًا كبيرا في تاريخ العلاقة بين المسلمين والغرب المسيحي، حتى أنها اختزلت اسم “الحروب الصليبية”، فكانت نهايتها بقضاء المماليك على آخر ما تبقى من الإمارات النصرانية في بلاد الشام، أواخر القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي.
سقوط صقلية: النصارى يحتلون أكبر الجزر الإسلامية في المتوسط
تعد صقلية واحدة من أكبر الجزر بالبحر المتوسط، والتي فتحها المسلمون سنة 212ه/828م على يد قاضي القيروان أسد بن الفرات في عهد الأغالبة (التابعين للعباسيين)، وقد سيطر المسلمون على هذه الجزيرة بعد معارك مع الروم البيزنطيين، وبعد ظهور الدولة الفاطمية في شمال إفريقيا انتقلت صقلية إلى حكم العبيديين وعاشت أياما صعبة في ظلهم، إلى أن ظهرت الأسرة الكلبية (التابعة للفاطميين) حيت ستستقر الأوضاع وتبرز الحضارة الإسلامية بالبلاد.
لكن في منتصف القرن الهجري الخامس ثار الصقليون على أواخر ولاة الكلبيين وأخرجوه من الجزيرة، ليستقل كل واحد بناحية وظهر عهد الطوائف في صقلية، فكان الأمر شبيها بحال الأندلس في بداية سقوطها، وفي ذات الوقت كانت قوة النورمان تنمو في جنوب ايطاليا، وقد حصلوا على دعم البابا في روما، وما كان لهم بعد ذلك سوى الانقضاض على جزيرة صقلية وإماراتها الإسلامية المتنازعة، ليبدأ سقوط إحدى أكبر جزر المسلمين في حوض البحر الأبيض المتوسط.
وقد استولى النورمان على شمال الجزيرة والعاصمة بلرم عام 465ه/1072م، وبدأ الزحف النصراني الصليبي يلتهم بقية المناطق إلى غاية 484ه، التي أتم فيها النورمان احتلالهم الكامل لصقلية على يد ملكهم روجر.
وكنتيجة طبيعية للغزو الصليبي لصقلية، وبحكم القرب الجغرافي أيضًا؛ فقد شن النورمان حملات على سواحل المغرب الأدنى (افريقية) فاستولوا على طرابلس وتونس والمهدية وهددوا القيروان، واستمرت الأوضاع هكذا حتى قيام دولة الموحدين الذين استعادوا هذه المناطق.
الأندلس نحو الزوال…بداية جديدة للمد الصليبي الواسع
أدرك المسيحيون مدى الضعف الذي ينخر بلاد الأندلس الإسلامية في عقود القرن الخامس الهجري، حيث انتهت الخلافة الأموية عام 422ه/1031م كنتيجة لفتنة الطوائف، فما كان من النصارى سوى أنهم شكلوا إتحادًا بقيادة البابا والكنيسة الغربية، ليبدأ عهد جديد من “حروب الاسترداد”.
انطلقت الحركة الصليبية الكبرى بالأندلس بنداء شانجه الكبير (المتوفى عام 1035م) بتوحيد القوى النصرانية، فربط بلاده بالبابوية ونظامها، فتحرك باقي ملوك المسيحيين وراء خطاه بغزو أراضي المسلمين وإمارات الطوائف الهزيلة، الأمر الذي تُوج بسقوط طليطلة إحدى أكبر المدن الأندلسية عام 478ه/1085م، على يد ألفونسو السادس ملك قشتالة.
وكان ذلك البداية الكبرى للتراجع الإسلامي في الأندلس، فهب المرابطون من المغرب بزعامة يوسف بن تاشفين، الذي أرغم النصارى على التراجع بعد معركة الزلاقة 479ه/1086م، لتدخل البلاد تحت حكم الدولة المرابطية في الغرب الإسلامي.
وقد استطاع المرابطون الحفاظ على الأندلس الإسلامية بعد القضاء على وضع ملوك الطوائف، إلا أن هذا لم يمنع سقوط سراقسطة عام 512ه/1148م على يد ملك أرغونة ألفونسو المحارب، وبعد ضعف المرابطون قام الموحدون مكانهم في بلاد الغرب الإسلامي، إلا أن المساحة الإسلامية بدأت تتراجع من جديد في الأندلس إبان انتقال الحكم فيها إلى الموحدين.
وقد تمكن الموحدون من استرجاع المدن التي احتلها النصارى بعد سقوط المرابطين، عدا مدينة الأشبونة التي استولى عليها البرتغال في الغرب الأندلسي، وكانت للموحدين انتصارات على المسيحيين كما في معركة الأرك الشهيرة 591ه/1195م في عهد يعقوب المنصور، إلا أن هذا لم يدم طويلا حيث جاءت الهزيمة القاسية للمسلمين في الأندلس في معركة العقاب عام 609ه/1212م، أمام جحافل القوى الصليبية الأوروبية ومن خلفها البابوية.
وكان لهذه الهزيمة آثار سيئة على المسلمين في الأندلس والغرب الإسلامي عموما، فقد بدأ الضعف يسري في الدولة الموحدية، وبدأ التفكك يعتريها في بلاد المغرب، وفي المقابل أشعل هذا الانتصار عند النصارى حماسة منقطعة النظير حتى أسموه بعيد ظفر الصليب، وبدأت القوى المسيحية تتمدد نحو الجنوب عند حدود الوادي الكبير، إلا أن الضعف المتفاقم في الجانب الإسلامي قد أدى إلى انهيار خط الدفاع هذا عند المسلمين، لاسيما والأندلسيين قد دخلوا في فوضى مع انهيار حكم الموحدين.
وهذا ما أدى إلى تجدد الحرب الصليبية على المسلمين بإعلانها من طرف رامون الرابع، الذي استولى على لارده وطرطوشة، وبتحالف مع قشتالة وأرغون وملك هذه الأخيرة “جاقمة” استطاع احتلال جزر البليار وإسقاط بلنسية في سنة 636ه/1238م، وفي خضم هذا تشكل تكتل بين المسيحيين بقيادة الملك القشتالي فرناندو الثالث، الذي استغل الصراع بين أمراء المسلمين ليحاصر قواعد الأندلس الإسلامية كقرطبة التي أسقطها عام 434ه/1236م، ثم اشبيلية عام 646ه/1248م، وفي ناحية الغرب فقد استطاعت مملكة البرتغال احتلال بقية الأراضي الإسلامية هناك لتصل إلى الضفة الجنوبية لشبه الجزيرة.
لتبقى غرناطة وبعض المدن الإسلامية في أقصى الجنوب تحت حكم بنو الأحمر، الذين أسسوا مملكتهم وسط أمواج الصليبيين الذين يتقدمون في كل مرة، إلا أن الأندلسيين استطاعوا مقاومتهم بعون من بنو مرين حكام المغرب الأقصى، عدا أن هذا العون اصطدم بهزيمة معركة طريف سنة 771ه/1340م، التي خسر فيها المسلمون (المغاربة والأندلسيون) الجزيرة الخضراء وجبل طارق لتنقطع السبل بين الأندلس والمغرب بعد ذلك.
وبقيت غرناطة محاصَرة من طرف النصارى في كل الجهات والحصون والقلاع المحيطة بها تتساقط واحدة تلوى الأخرى، وكل هذا في الوقت الذي يستمر فيه النزاع والخيانة على الحكم والإمارة، بينما تتشكل معالم إسبانيا الصليبية الموحدة، لتسقط غرناطة أخيرا في يد فرناندو وايزابيلا، وتنتهي الدولة الإسلامية في الأندلس عام 897ه/1492م.
لقد كان سقوط غرناطة وانتهاء الحكم الإسلامي في الأندلس فاتحةً لعصر جديد من العلاقات بين الشرق والغرب، إذ سيفتح الباب على مصراعيه للصليبيين الأيبيريين (الاسبان والبرتغال) ليفتكوا بالمسلمين أينما وجدوهم، وليبدأ الغزو والسيطرة لأوروبا المسيحية على بقاع العالم، حيث حققت الصليبيات السبل نحو النهضة الأوروبية التي ستشن عدوانا مستمرا على العالم الإسلامي فيما عُرف بعد ذلك بالاستعمار.
المراجع
– سعيد عاشور، الحركة الصليبية، الطبعة الأولى، الجزء الثاني، مكتبة الأنجلومصرية.
– حسين مؤنس، أطلس تاريخ الإسلام، الطبعة الأولى، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1407 ه/1987م.
– محمد المطوي، الحروب الصليبية في المشرق والمغرب، دار الغرب الإسلامي، 1982.
– أحمد توفيق المدني، المسلمون في جزيرة صقلية جنوب إيطاليا، الطبعة العربية-الجزائر، مكتبة الاستقامة-تونس.
– محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، الجزء الثاني والثالث، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1417 ه/1997م.