أسد بن الفرات: تعرّف على قاضي القيروان فاتح صقلية
كم من القادة أشعلوا جمار المعارك، وفتحوا البلاد وحرروا العباد! وكم منهم نُقش اسمه على صفحات التاريخ ليخلُد ذكره على الألسن، وفي شغاف القلوب! وإننا نحسب الشيخ المجاهد الشهيد العالم الفقيه المحدِّث القاضي الأمير أسدَ بن الفرات أحد هؤلاء القادة الذين نفتخر بما كان لهم من الشأن الجلل، وبما وصلنا من علومهم ومعارفهم وأثرهم العظيم.
نسب أسد بن الفرات
أسد بن الفرات بن سِنان مولى بني سليم، ويكنى بأبي عبد الله، وهو من أبناء جند خراسان في نيسابور، ويُرجَّح أنَّه ولد في حرَّان في ديار بكر عام 142هـ/759م، وقيل: وُلد في نجران.
نشأة أسد بن الفرات
بدأ أسد بن الفرات حياته في منزل والده الفرات بن سنان في حرَّان إلى أن أتمَّ العامين من عمره، فانتقل والده إلى القيروان مجاهدًا في جيش بني الأشعث، حيث كان مِن أعيان الجند فيه، وبقي فيها مدة خمس سنين، انتقل بعدها إلى تونس التي أقام بها تسع سنين، وبدأ فيها رحلته العلمية، وتعلّم القرآن وحفظه، ثمّ علَّمه في قريةٍ على وادي بجردة، ثمَّ لزم (علي بن زياد) وتعلَّم منه وتفقَّه.
لم يكن لأسد من الأولاد سوى (أسماء)، علَّمها وربّاها فأحسن تربيتها، حتى إنَّها كانت تحضر مجالسه العلمية التي يقيمها في داره، وتشارك في المناظرة، فاشتهرت بالفقه ورواية الحديث. وقد ورد في كتاب (ترتيب المدارك وتقريب المسالك) عن أسد أنّه قال: «رأت أمي كأنَّ حشيشاً نبيت على ظهري، ترعاه البهائم فعبر لها بأنه علم يحمل عني والله تعالى أعلم» ج3، ص292.
الجانب العلمي في حياة أسد بن الفرات
بعد أن حفظ أسد بن الفرات القرآن الكريم خرج إلى المشرق طلبًا للعلم عام 172هـ، فكان أول ما قصده مالك بن أنس، فلزمه وأخذ العلم والفقه عنه، وسمع عنه الموطأ، ثمّ انتقل إلى العراق التي لقي فيها أبا يوسف وغيره من أصحاب أبي حنيفة، وكان يجلس في حلقات محمد بن الحسن يأخذ عنه العلم، ويدرس ليلًا نهارًا، وقد استفاد منه أيّما فائدة، ونقل عنه العديد من المسائل في الفقه الحنفي.
وبينما كان أسد في العراق توفي الإمام مالك بن أنس، فندِم على عدم ملازمته له، وانطلق إلى المدينة للقاء أصحاب مالك ليأخذ عنهم العلم الذي فاته عندما كان في العراق، فأشاروا إليه بالذهاب إلى مصر، فلقي فيها جمعًا كثيرًا من أصحاب مالك؛ منهم ابن وهب وابن القاسم، فقصد ابن وهب، وعرض عليه المسائل التي كتبها على مذهب أبي حنيفة، وأراد منه أن يجيبه على مذهب الإمام مالك، فتورَّع ابن وهب عن ذلك، فقصد ابن القاسم، فأجابه على جميع مسائله، وهكذا جمع أسد بين علوم أهل العراق وأهل المدينة، ودوّنها وضبطها في كتاب يُعرف بـ(الأسدية).
أسد بن الفرات قاضي القيروان
بعد أن أخذ أسد بن الفرات ما فتح الله عليه من العلوم، عاد إلى القيروان، فأقبل عليه الناس من كل حدب وصوب، يتعلمون ويتفقهون منه، وولاه (زيادةُ الله) القضاء على مدينة القيروان عام 203هـ، وقيل: 204هـ. وكان أسد مشتركًا في القضاء مع أبي محرز، وكان أغزر منه علمًا وفقهًا، إلّا أنّ أبا محرز كان الأصوب رأيًا، وكان بين الاثنين خلاف، فمنع البعض الولاية على هذا، لما قد يؤدي إليه من التشاجر والخلاف بين الناس، بأن يرغب أحد الخصمين في التقاضي عند أسد، ويرغب الآخر في التقاضي عند أبي محرز، فبقي أسد في القضاء حتى عام 211هـ.
أسد بن الفرات فاتح صقلية
كان أسد بن الفرات متطلعًا إلى الجهاد في سبيل الله، إلى أن حانت فرصة فتح صقلِّية نتيجة لبعض الخلافات والنزاعات، فشجّع زيادة الله على غزو صقلية، ودخل ضمن الجنود متحمّسًا ليعلي راية الله، فلمَّا رأى زيادة الله ما رآه من حماس أسد ولَّاه إمارة الجيش الذي كان يضمّ عددًا من العرب والأندلسيين والبربر والفرس، فخرج في عشرة آلاف رجل، من بينهم تسعمئة فارس، غير جيش فيمي (وهو قائد بيزنطي تحالف مع الأغالبة ضد بني قومه)، فكانت المرة الأولى التي تجتمع فيها إمارة القضاء وإمارة الجيش لشخص واحد.
خرج أسد لغزو صقلية عام 212هـ، وخرج معه جمع كبير من أهل العلم يشيّعونه ويشجعوه على الفتح، فسار بالجمع إلى منطقة تسمى (مازر) وعسكر فيها ثلاثة أيام ليتفقد المكان، ولمّا علم أنّها غير محصنة استولى عليها، وبث السرايا حتى امتلأ المكان بالسلاح والغنائم، وعندها طلب أسد من فيمي ورجاله أن يعتزلوه مع الاتفاق على علامة يعرفونهم بها، لكي لا يتوهم أحد الجنود فيصيبهم بأذى.
كان ملك صقلية (بلاطة) قد زحف بجنود يُروى أنّ عددهم وصل إلى مئة وخمسين ألفًا، فاشتعلت معركة طاحنة بين الطرفين عرفت فيما بعد باسم (مرج بلاطة)، انتصر فيها المسلمون على الروم، وهزموهم هزيمة ساحقة، واستحقوا غنيمة عظيمة، وهرب بلاطة إلى (قلوريا) وقتل بها.
كتب أسد إلى زيادة الله يخبره بالفتح، وعاد إلى مازر، وفي طريق عودته فتح الحصون والقرى الواقعة على البحر، ثمّ رتّب قواته، واستخلف على مازر أحد القادة، وسار إلى سرقوسة.
المجاهد الشهيد أسد بن الفرات
لم يكتفِ أسد بفتح صقلية، بل سار إلى العاصمة سرقوسة، فلقي في الطريق بعض ممثلي البيزنطيين، الذين عرضوا عليه دفع الجزية، وما كانت هذه إلا حيلة منهم أدركها أسد بعد أيام، فقد أرادوا من هذه الحيلة إبطاء حركته، ووقفه عن المسير، ليتسنى لهم التجهّز للمعركة ونقل الكنوز من الكنائس إلى أماكن أكثر أمانًا.
وعندما أدرك أسد حيلتهم، أرسل السرايا، وحاصر سرقوسة برًا وبحرًا، إلا أنَّ والي (بلرم) قدِم ليفكَّ الحصار عن سرقوسة، فأقام المسلمون لأنفسهم خندقًا، وشددوا الحصار على سرقوسة التي كانت تعدّ من المدن المحصنة المنيعة، إلا أن جيش المسلمين لم يكن به ما يزيد عن تسعة آلاف جندي، ولم يكن مهيّئًا بالآلات والمراكب الكبيرة، كما أصاب المسلمين جوعٌ شديد حتى أكلوا بعض خيولهم، وهمّ أحد القادة بتثبيط العزائم، وطلب العودة إلى إفريقية.
اشتدّ الحصار على مدينة سرقوسة حتى طلبوا الهدنة، فلم يقبل المسلمون، لكنّ وباءً فتك بالمسلمين وألمّ بهم، وكان من ضمنهم أسد، وكان حينها شيخًا طاعنًا في السن، فاستُشهد المجاهد أسد بن الفرات على أثره، ويُقال إنه توفي من أثر الجراح الشديدة، وكان ذلك عام 213هـ، ودُفن في سرقوسة، وقيل: غير ذلك.
المراجع: