الثورة العربية الكبرى تجسيدٌ للتحرر العربي أم للآمال الاستعمارية

تعد الثورة العربية من الأحداث البارزة في تاريخ الأمة العربية الإسلامية في العصر الحديث، فقد ساهمت مساهمة مباشرة في تغيير وجه المنطقة العربية، فقد فقدت هذه البلاد مرجعيتها الدينية التي كانت متمثلة في وجود خلافة إسلامية إلى الشكل الذي نشهده اليوم، المتمثل في حضور كيانات سياسية تقوم على مبادئ علمانية تتراجع فيها سلطة الخطاب الديني والمؤسسات الدينية، على خلاف الدولة العثمانية التي كانت توازن بين الجانبين، إلا أن الجانب العلماني قد طغى بعدها إضافةً إلى نشوء كيانٍ إجرامي على أرض فلسطين بعد انتزاعها من العثمانيين وتسليمها للصهاينة على طبق من ذهب أمام عيون العالم والعرب والمسلمين، ومع ذلك تذهب بعض الروايات إلى أن الثورة العربية الكبرى قامت لأسباب طبيعية مهَّدت لها؛ منها استنزاف الدولة العثمانية للمجتمعات العربية والتضييق عليهم وتجنيدهم إجباريًا في الحرب العالمية.

حقبة السلطان عبد الحميد وأثرها على الثورة العربية

شهدت الدولة العثمانية موجة إصلاحات واسعةٍ في زمن السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، فقد كانت الدولة عند توليه الحكم تعاني من الضعف في كافة مفاصلها، إضافةً إلى كونها تعاني من آثار الهزائم  في حروبها على مختلف الجبهات، كان سببها ما يعرف بمجلس المبعوثين الذي أقرَّ الحرب على روسيا، وتسبب بنتائج مدمرة، تمثلت بفرض شروط قاسية كان أبرزها اقتطاع أجزاءٍ من أراضي الدولة، وإقامة دويلاتٍ جديدة، الأمر الذي شجع الاستعمار والدول الغربية على تكرار فعل ذلك بباقي أجزاء الدولة، إلا أنّ نباهة السلطان عبد الحميد أخرت ذلك ثلاثين عاما؛ إذ أطلق العديد من الإصلاحات، كان أولها حل مجلس المبعوثين بعد الهزيمة، ومن ثم عمل السلطان على إصلاح الدولة، فأعاد تنظيم الجهاز الإداري، وحسن الجيش والاقتصاد، وعمل على تخفيض الديون العمومية،  وسعى إلى تتبع الخونة والعملاء وكل من تواصل مع القوى الاستعمارية لضرب السلطنة من الداخل، محاولاً بذلك إعادة قوتها وهيبتها، فبدأ الاقتصاد يتعافى، وأخذ الجيش يستعيد قوته وجاهزيته بعد هزيمته غير مرة، لكن على الرغم من ذلك لم يستطع السلطان عبد الحميد إصلاح كل مناطق الدولة، فهي مترامية الأطراف، ويصعب عليه في الوقت الذي كانت الدولة تتأرجح على حافة الإفلاس أن يقدم خدماتٍ عالية الجودة في كل بقعة وإقليم، فكان هذا الأمر مدخلاً للدول الاستعمارية لتحريض رعايا الدولة لإعلان الثورات والعصيان، وتقديم صورة منفرةٍ من السلطان على أنه شخصٌ بخيل وجشع، وعلى أنه سلطان الدم يقتل كل من يقف في وجهه ويلقيه في مضيق البسفور!

الشريف الحسين وإقامته في إسطنبول

الشريف الحسين بن علي

وقد استطاعت القوى الغربية -لا سيما بريطانيا- التواصل مع العديد من الزعماء العرب، وتحريضهم على دولتهم، مستغلين ضعف بعض النفوس التي أُغريت بالمال والسلطة، لكن السلطان عبد الحميد الثاني كان يتتبع أمثال هؤلاء الزعماء، ويستدعي من يشتبه بأمرهم إلى العاصمة ليبقيهم بالقرب منه، وكان من بينهم الشريف الحسين بن علي وأولاده فيصل وعبد الله وعلي، الذين نزلوا في قصر السعادة في العاصمة إسطنبول فيما يشبه الإقامة الجبرية، لكن في الوقت ذاته كانت معاملة السلطان لهم تتسم باللطف، فقد خصص لهم راتبًا ومعلمين للأولاد، وأمر بإرسالهم بعد أن كبروا إلى كبرى المدارس العثمانية في ذلك الوقت، فقد كان السلطان عبد الحميد يميل للرحمة وحسن التعامل مع الآخرين حتى يكسب ولاءهم، ويمنعهم من الوقوع في خداع عملاء الاستعمار.

الثورة العربية بدايتها وأحداثها 

وقد بقي الشريف الحسين بن علي وأولاده في العاصمة حتى نهاية حكم السلطان عبد الحميد، إذ عاد الشريف الحسين لتسلم إمارة مكة المكرمة، وفي أثناء ذلك حدث بينه وبين وزير الخارجية البريطاني (مكماهون) مراسلات واتصالات من خلال ابنه الأمير عبد الله كان هدفها تحريض العرب على الدولة، وإعلان حركة عصيانٍ عليها عند دخول السلطنة للحرب ضد الحلفاء، وقد وافق الشريف الحسين على ذلك مقابل إعلانه ملِكا على العرب في الحجاز وبلاد الشام، وما أن اندلعت الحرب حتى بدأ الشريف الحسين تحركاته، فجمع حوله العديد من القبائل، وجعل ولده الأمير فيصل قائدًا على الجيش الذي شكله بمعية ضابط المخابرات البريطاني (توماس لورنس) المعروف بلورنس العرب، بالإضافة إلى بعض ضباط الجيش العثماني من العرب أمثال نوري السعيد وجعفر العسكري الذي كان أسيرًا لدى الإنجليز، ومن ثم قرر الالتحاق بجيش الثورة ليكون أول قائدٍ حربي له، وقد بدأ الصدام المسلح مع الحامية العثمانية في مكة وتحول الأمر إلى قتال شوارع انتهى بالقضاء على الوجود العثماني، وفي ذلك الوقت لم تعر الدولة اهتمامًا لهذه الثورة التي عدَّتها مجرد حركة عصيان قبلية، إذ فشلت قوات الأمير فيصل في اقتحام المدينة المنورة، وكادت القبائل العربية أن تُمنى بهزيمة كبرى على يد حامية الدولة العثمانية في جدة لولا تدخل البحرية البريطانية، التي قصفت الحامية، وأمدت تلك القبائل بالسلاح، عندئذٍ أدرك لورانس استحالة مجابهة الدولة العثمانية وجها لوجه بمعية هذه القبائل الضعيفة، فلجأ إلى التخريب وقطع الطريق وتدمير طرق الإمداد لا سيما خط سكة حديد الحجاز التي أنشأها السلطان عبد الحميد خدمةً للمسلمين، وهو ما ضيق الخناق على الحاميات العثمانية في الحجاز لا سيما تلك التي في المدينة المنورة.

وقد سعى لورانس أيضًا لشراء ولاء بعض القبائل العربية الأخرى التي لم تشترك في القتال ليتابع الزحف تجاه الشام، إذ اصطدمت قواته بالعثمانيين في العقبة والطفيلة، واستطاع دحر العثمانيين من الأردن في الوقت الذي نزل فيه الجنرال اللنبي في فلسطين وقاد القوات البريطانية نحو القدس ومن ثم أسرع نحو دمشق ليسبق جيش الثورة العربية، الأمر الذي فاجأ فيصل إذ لم تكن الخطة كذلك، إلا أنّ بريطانيا كانت تستعد للتخلي عن اتفاقها مع الشريف الحسين بعد أن حققت أهدافها وسيطرت على أراضي الدولة العثمانية خصوصًا أنها تدرك ضعف جيش الثورة الذي ما أن ينقطع تمويلها المالي عنه حتى ينفضَّ، وبالفعل انفرط جيش الثورة، وحاول فيصل تأسيس جيشٍ لمملكته في سوريا فلم تنل اعترافًا، بل كانت تحت أنظار فرنسا التي لم تمهلها وقتًا، فبعد مؤتمر فرساي عام 1918م ومحاولة فيصل الحصول على اعترافٍ لمملكته وجَّهت فرنسا إنذارًا لحكومته، في الوقت الذي انسحبت فيه بريطانيا من المشهد لتترك فيصل يواجه مصير النفي أمام الغزو الفرنسي، لتسقط أحلام العرب بثورتهم المزعومة، ولتصبح بلادهم تحت هيمنة الاستعمار البريطاني والفرنسي.

ولكن أصحاب الطرح الآخر يرون أن الشريف الحسن كان يقوده ولاؤه لأمته وشعبه، وأن الرصاصة التي أطلقها من شرفة قصره كانت بداية كفاح من أجل الحرية، وذلك بعد «إعدام السلطات التركية مجموعتين من العرب الأحرار».

نتائج الثورة العربية

 أما الشريف الحسين بن علي فبعد أن تخلت عنه بريطانيا، ورفضت تنفيذ وعودها له بتأسيس مملكةٍ له، قررت أن تنفيه إلى قبرص حتى لا يثير العربَ على حكمهم، فعينت ولده الأمير عليا -الذي لم يستمر طويلاً في الحكم بعد هزيمته من آل سعود- وأرسلته إلى المنفى حتى موته هناك، أما ثورته فلم ينتج عنها تحقيق أي هدف، فلم يتم الحفاظ على الهوية العربية كما كان مزعومًا، ولم يتم الذود عن الدين الإسلامي وأعراض المسلمين، فقد استباح الإنجليز والفرنسيون كل ذلك، بعد أن كانت الأمة الإسلامية في حمى دولة الخلافة، وأخيرًا أنشأت تلك الدول كيانات سياسية ضعيفة لا تستطيع فعل شيء دون موافقة ومباركة الدول الاستعمارية، وأكبر دليلٍ على ذلك عدم قدرة جيوش الدول العربية الدخول إلى فلسطين في حرب النكبة إلا بعد أن انسحبت الجيوش البريطانية منها لتتلقى تلك الجيوش الهزائم المنكرة أمام عصابات يهودية جعلت أهل فلسطين يستذكرون الوجود العثماني الذي وقف سدًّا أمام الأطماع الصهيونية.

المصادر

  • تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث السلطان عبد الحميد الثاني، أنور الجندي، دار ابن زيدون، ط1.
  • الملك فيصل الأول وأدواره التاريخية، سيار الجمل، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2021.

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى