في الذكرى المئوية للثورة العربية الكبرى: دلالة الموقف المصري

تحدثنا في الجزء الأول عن دلالة الموقف العربي وذكرنا اليمن والعراق، نتابع معًا باقي المواقف العربية ودلالاتها حيث سيكون محور حديثنا هنا: هو الموقف المصري من الثورة العربية الكبرى.

الموقف المصري

  • الحرب ضد الدولة العثمانية

عندما دخلت الدولة العثمانية الحرب الكبرى إلى جانب دول الوسط دفاعًا عن وجودها ضد أطماع الحلفاء، قامت بريطانيا باتخاذ إجراءات مضادة منها إعلان الحماية على مصر وإنهاء السيادة العثمانية عليها وخلع الخديوي عباس حلمي بتهمة الميل للجانب المعادي وتنصيب حسين كامل صاحب الميول البريطانية سلطانًا على مصر، كما سخرت بريطانيا إمكانات مصر لخدمة المجهود الحربي البريطاني، وفي ذلك يقول المؤرخ البريطاني بيتر مانسفيلد إن

“المصريين المتحمسين أرادوا المساهمة في المجهود الحربي، فشاركت القوات المصرية في الدفاع عن قناة السويس ضد الهجوم التركي الأول والوحيد، كما خدم أكثر من عشرين ألف مصري في النقل بقوافل الجمال وهيئة العمل في فلسطين وفرنسا، وتكبدوا أثناء ذلك خسائر جسيمة “[7].

https://gty.im/479334717

ولكن مؤرخين آخرين يعطون صورة مختلفة عن هذا  “الحماس” المصري الذي يتحدث عنه مانسفيلد، فالمؤرخ البريطاني أيضاً يوجين روجان يقول:

“كان البريطانيون يتطلعون إلى إضعاف نفوذ السلطان العثماني عن طريق تعزيز السلطان المصري، مثلما تطلعوا إلى إضعاف الدعوة إلى الجهاد ضد بريطانيا وفرنسا التي أطلقها السلطان (العثماني) عن طريق إطلاق الشريف حسين دعوة للثورة”

غير أن هذه الحيلة لم تترك أثرًا كبيرًا على مسلمي مصر ولا على المسلمين عامة، إذ ظلوا يبجلون السلطان العثماني بصفته خليفة المسلمين، وبمجرد أن اندلعت الحرب وقع الجزء الأكبر من عبء دعم مصر للبريطانيين على الطبقة العاملة، صودرت المحاصيل لدعم المجهود الحربي، وجُند الفلاحون في فرق عمل تزود الجبهة الغربية بالدعم اللوجستي، وأدى التضخم ونقص البضائع إلى انخفاض مستوى معيشة جميع فئات الشعب، وصار كثير من المصريين في حالة عوز، امتلأت القاهرة والإسكندرية بالجنود البريطانيين وجنود الكومنولث الذين احتشدوا في مصر…وأدى كبر عدد الجنود إلى زيادة درجة التوتر بينهم وبين أهل البلاد “[8].

https://gty.im/79046462

ويقول المؤرخ زفي يهودا هرشلاغ إن الحرب أتت باضطرابات اقتصادية على شكل أزمات وانتعاشات متعاقبة، وإن اضطرار مصر لتقديم سلع رخيصة في بداية الحرب أدى إلى أزمة  “هددت بالثورة “، فعالجت السلطات ذلك ببعض الإجراءات التي أدت إلى انتعاش مؤقت

“لكن الوضع تدهور مرة أخرى قرب نهاية الحرب عندما بدأت مصادرة المحاصيل والماشية والاستيلاء عليها تؤثر أيضًا على الطبقات الأفقر وصغار المنتجين، وتحولت التعبئة إلى نوع من السخرة أدى إلى الهرب من القرى تخلصًا من الاستدعاء، أو إلى الفرار من معسكرات الجيش بعد التجنيد “[9].

وتقول الدكتورة تهاني شوقي عبد الرحمن: إن مصر انقسمت في نظرتها للدولة العثمانية بعد اندلاع الحرب الكبرى

“فنجد رجال خفر السواحل المصريين ينضمون إلى قوات الجيش الرابع التركي، وانضم آخرون إلى السنوسيين في هجومهم على القوات البريطانية في الغرب، بينما وقف الجيش المصري كي يدافع عن القناة ضد عبور العثمانيين، وكان لهذا الانقسام بين صفوف العرب أثره في الحركة العربية فيما بعد “[10].

https://gty.im/451306312

ولكن موقف الجيش المصري لم يكن معبراً عن موقف الشعب المصري، فقد كانت حربه تحت لواء بريطانيا ضد السودان الذي كان جزءاً من الوطن المصري (وادي النيل) قبل أن تقسمه بريطانيا (1899) وقتله آلاف السودانيين موقفاً آخر يؤكد أنه لا يعبر عن موقف مصر (كيف يمكن أن تقتل مصر أبناءها وتطعن ذاتها؟) لاسيما عندما نقرأ عن التجنيد الإجباري والفرار من الجندية، ويؤكد ذلك أيضاً موقف شعب مصر السلبي جدًا من تنصيب حسين كامل سلطاناً وإعلان الحماية البريطانية.

  • موقف مصر من السلطان حسين كامل

السلطان حسين كامل
السلطان حسين كامل

يقول المؤرخ السوفييتي فلاديمير لوتسكي في كتابه تاريخ الأقطار العربية الحديث إن بريطانيا قامت بعد اندلاع الحرب الكبرى وفرض الحماية على مصر بإجراءات تعسفية فيها كمصادرة القمح والماشية والابتزازات القسرية والتجنيد ونهب الريف المصري وفرض نظام الإرهاب والديكتاتورية العسكرية، مما أدى إلى إثارة سخط عميق في البلاد.

ولكن كبار الملاك والبورجوازية الكبيرة راكموا الثروات ودافعوا عن بريطانيا وهادنت صحفهم وأحزابهم السياسية السيادة البريطانية وامتنعت عن أي كفاح ضد المحتلين، ولم تحاول الحكومة أو أعضاء المجلس التشريعي الاعتراض على فرض الحماية[11]

ولعل هذا هو الجانب المظلم الذي عممه المؤرخ البريطاني بيتر مانسفيلد على مصر دون تمحيص، كما سبق ذكره، ووصفه بالحماس المصري لمشاركة بريطانيا في المجهود الحربي، وهو ليس سوى حماس الطبقة العميلة المستفيدة من الاحتلال كما في جميع البلاد المستعمَرة.

ويكمل لوتسكي إن نظام الإرهاب العسكري والتوقيفات والإبعادات وغلق الصحف ضيق من إمكانات الوطنيين إلى درجة كبيرة، فحصروا خياراتهم بالدعاية من الخارج وأعمال العنف في الداخل، فقاموا بمحاولتين لاغتيال السلطان حسين كامل ومحالة لاغتيال رئيس وزرائه حسين رشدي ومحاولة لاغتيال وزير الأوقاف[12].

حسين رشدي رئيس الوزراء المصري في عهد حسين كامل
حسين رشدي رئيس وزراء السلطان حسين كامل

وتشير الدكتورة أمل فهمي إلى جوانب أخرى فتقول إنه  “بإعلان الحماية على مصر دخلت في مرحلة جديدة: حيث أعلن الوطنيون في مصر استياءهم من حسين رشدي وعدُّوه مسئولاً عن إعلان الحماية البريطانية، كما استاء المصريون من عزل عباس، واعتبروا تنصيب رجل آخر طعنة في حقوق مصر؛ لذلك:

  1. كتب محمد فريد-زعيم الحزب الوطني وخليفة مصطفى كامل باشا-مقالًا في صحيفة توران باستنبول ضد حسين رشدي وحسين كامل: طلب في ختامه إصدار فتوى بأنه خارج على الخليفة وأن دمه أصبح مهدرًا (ولعل هذا يفسر محاولات الاغتيال آنفة الذكر).
  2. كما ذكر محمد فريد أنه بإعلان الحماية تعلقت قلوب المصريين انتظاراً لقدوم الجيش العثماني لتخليص مصر من الوجود البريطاني “[13]
  3. كما ارتدى طلبة المدارس الثانوية أربطة سوداء يوم الاحتفال بعيد الجلوس السلطاني.
  4. كذلك امتنع العلماء عن إصدار فتوى بعزل الخديوي عباس.
  5. ولم يرفع الأهالي العلم المصري الجديد.

وربما كانت هذه الأحداث غير مرتبطة بثورة الشريف حسين مباشرة إلا أنها عبرت عن موقف مغاير لها من الدولة العثمانية آنذاك ولا يمكن فصل هذه الحوادث عن بعضها البعض.

يقول الدكتور محمد محمد حسين:

إنه بعد إعلان الحماية على مصر وخلع الخديوي عباس اجتمع مجلس الوزراء المصري برئاسة السلطان حسين كامل وقرر إلغاء وظيفة قاضي قضاة مصر العثماني، وانقطعت بذلك آخر علاقة بالخليفة

ولكن…

 “ظل الرأي العام في مصر مع ذلك على ولائه للخلافة، وإن كان إعلان الأحكام العرفية ووضع الصحف تحت الرقابة، ثم إغراق مصر بجيوش الاحتلال بمصر، قد كمم الأفواه وكبت هذا الشعور. ويستطيع المراقب لتطورات الأمور في مصر في ذلك الوقت أن يلاحظ كثيراً من الأمارات التي تدل على ضيق المصريين بالإنجليز ضيقاً يوشك على الانفجار… وقد تجاوز سخط المصريين الإنجليز إلى السلطان حسين:

  • لاستمداده ولايته من سلطة مسيحية بعد أن كان يستمدها من الخليفة.
  • ولقبوله منصبه بخطاب من القائم بأعمال الوكالة البريطانية بعد أن كان الخديويون يرتقون العرش بفرمان سلطاني يحمله مندوب خاص من عند الخليفة.

وعبر المصريون عن هذا السخط حين:

  • امتنع طلبة الحقوق عن الذهاب إلى كليتهم لاستقباله في اليوم الذي حدد لزيارته  “18 فبراير (شباط/ فيفري) سنة 1915 “
  • وحين أطلق عليه النار شاب يدعى  “محمد خليل “-وهو تاجر خردوات بالمنصورة- وذلك عند مرور موكبه بشارع عابدين في 8 أبريل (نيسان/ أفريل) سنة 1915
  • ثم لم يمض على هذا الاعتداء شهران حتى وقع عليه اعتداء آخر في الإسكندرية حين ألقيت قنبلة من نوافذ أحد المنازل في شارع رأس التين على مركبته وهو في طريقه لصلاة الجمعة.
  • ولم يمض وقت طويل حتى وقع اعتداء على وزير الأوقاف فطعن بسكين في محطة القاهرة في 5 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1915.

ويستطيع المتأمل في تاريخ هذه الفترة أن يجد كثيرًا من المظاهر التي تصور هذا السخط، فمنها مثلاً:

  1. ما يُروى من أن أحد الخدم القدماء بقصر عابدين قد حاول أن يحرقه.
  2. ومنها أن النشرات التي تهدد السلطان حسين قد استطاعت أن تجد طريقها داخل القصر.
  3. ومنها أن بعض قبائل العربان قد رفضوا أن يقسموا يمين الطاعة للإنجليز.
  4. وأن الضباط والجنود المصريين في الإسماعيلية رفضوا إطلاق النار على إخوانهم الأتراك.
  5. واحتجبت صحيفة  “الشعب” عن الظهور احتجاجًا على إعلان الحماية، ورفض أمين الرافعي إصدارها حين طلب منه السلطان حسين ذلك.

وقد كانت السلطات المحتلة تعرف من مصر هذا العطف على تركيا، ولذلك فقد اعترفوا بذلك وأعلنوه منذ اللحظة الأولى في تبليغهم الأول إلى السلطان حسين كامل حيث:

أوهموا المصريين بأنهم لا يحاربون الخليفة المغلوب على أمره: إذًا فلماذا ناوأوا منصب السلطنة العثمانية نفسه بمنصب السلطنة المصرية؟!

ولكنهم يحاربون حكومة الاتحاديين التي استأثرت بالسلطة دونه: إذًا فلماذا حاول الإنجليز الاستئثار بمنصب السلطنة دونه أيضاً؟!

فقد جاء في هذا التبليغ:

ولا أرى لزومًا لأن أؤكد لسموكم بأن تحرير حكومته (أي حكومة الملك البريطاني) لمصر من ربقة أولئك الذين اغتصبوا السلطة السياسية في الآستانة لم يكن ناتجًا عن أي عداء للخلافة

وهو نفس تبرير الشريف حسين فيما بعد لثورته بأنها ليست ضد الخليفة بل ضد الاتحاديين. [14]  والكتاب مشحون بتفاصيل أخرى من مظاهر سخط مصر على الإنجليز والسلطان حسين وبمظاهر النفاق التي قام بها المنتفعون من الاحتلال والتي أدت لوهم “الحماس” المصري في المجهود الحربي البريطاني الذي تكلم عنه المؤرخ البريطاني بيتر مانسفيلد.

  • الموقف المصري الشعبي من القومية العربية

يقول الدكتور رءوف عباس إن مصر في مطلع القرن العشرين كانت تتبنى فكرة الجامعة الإسلامية التي كانت بندًا رئيسًا في طرح الحزب الوطني، ومضمونها هو الحفاظ على سلامة الأراضي العثمانية ووحدتها وانتماء مصر إلى دولة الخلافة الإسلامية، ذلك أن الحزب الوطني بنى نضاله على أساس عدم شرعية الوجود البريطاني في مصر الخاضعة للسيادة العثمانية.

وكان التمسك بالتبعية العثمانية هو طوق النجاة من الاحتلال البريطاني، كما كان التحزب للجامعة الإسلامية التي دعا إليها السلطان عبد الحميد مواكبًا للتمسك بالتبعية العثمانية وغالبًا على فكرة القومية المصرية التي دعا إليها أحمد لطفي السيد بخجل قبل الحرب الكبرى الأولى، كما كان التحزب للجامعة الإسلامية رفضًا لفكرة القومية العربية بصفتها دعوة إلى تمزيق أوصال الدولة العثمانية إلى كيانات قومية، ولو نجحت ستكرس الوجود الاستعماري البريطاني في مصر والفرنسي في شمال إفريقيا

أحمد لطفي السيد: المصري الذي دعا إلى فكرة القومية المصرية
أحمد لطفي السيد

“لذلك وصمت الحركة الوطنية المصرية دعاة القومية العربية بالخيانة والعمالة للدول الأوروبية الاستعمارية، ونفرت من الدعوة إلى القومية العربية “[15].

  • الموقف المصري الشعبي من الثورة العربية

ويقول الدكتور أنيس صايغ مؤكداً ذلك في كتابه الفكرة العربية في مصر: “أما موقف المصريين حيال القضية العربية وعلاقات العرب مع الأتراك، فكان، بوجه عام، مغايرًا لموقف أحرار العرب، من المقيمين في سوريا أو الحجاز أو مصر…ولم يكن لثورة الحسين أثر كبير عند المصريين، بل إن الشعب وقف موقفًا عدائيًا منها، ولكن الصحف لم تتمكن من مهاجمة الثورة لأنها كانت تخضع للرقابة العسكرية (البريطانية)… ويعترف جورج أنطونيوس مؤرخ الثورة العربية وصديق الذين قاموا بها، بأن عداء المصريين للثورة كان حقيقيًا واضحًا، وأن كره المصريين للإنكليز غذى ذلك الشعور “.

ويعلق الدكتور فكتور سحاب على ذلك بالقول:

“لم يكن الإعراض عن القومية العربية كله إذن في ذلك الزمن، للانكفاء عنها إلى موالاة الغرب أو تمسكًا بمشاعر إقليمية انفصالية، بل كان بعضه لموقف معاد للإنكليز ولشبهة “الإصبع “الإنكليزية –كما كان يقال-في تحريك الثورة “العربية ” ضد السلطنة العثمانية “.

وعن موقف السوريين الذين لجئوا إلى مصر هربًا من السلطان عبد الحميد يقول الدكتور صايغ

“تميز جهاد هؤلاء الأحرار بالانفصال التام عن جهاد المصريين في سبيل الحرية والاستقلال، فلم تلتق طرقهما مع أنها كانت متوازية “[16].

المصادر

[7] -بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الأوسط، النايا للدراسات والنشر، دمشق، 2011، ص 175

[8] -يوجين روجان، ص 210.

[9] -ز. ي. هرشلاغ، مدخل إلى التاريخ الاقتصادي الحديث للشرق الأوسط، دار الحقيقة، بيروت، 1973، ص 277.

[10] -ز. ي. هرشلاغ، مدخل إلى التاريخ الاقتصادي الحديث للشرق الأوسط، دار الحقيقة، بيروت، 1973، ص 277.

[11] -لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، دار الفارابي، بيروت، 2007 ، ص 410-411.

[12] -نفس المرجع، ص 411

[13] -الدكتورة أمل فهمي، العلاقات المصرية العثمانية على عهد الاحتلال البريطاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002، ص 336.

[14] -الدكتور محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مكتبة الآداب، القاهرة، ج2 ص 6-8.

[15] -رءوف عباس، صفحات من تاريخ الوطن، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2011، تحرير: عبادة كحيلة، ص 243.

[16] – الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، الدراسات الخاصة، ج 3 (دراسات الحضارة) ص 672 (فكتور سحاب، الفكر السياسي الفلسطيني بعد عام 1948: الكتابات السياسية الفلسطينية حول قضايا أخرى، القومية العربية).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى