السلطان عبد الحميد الثاني.. سيرة السلطان المظلوم

يعد السلطان عبد الحميد الثاني من أبرز وأشهر السلاطين العثمانيين، إضافة إلى كونه آخر خليفة وحاكمٍ فعلي للدولة العثمانية، فقد كان -رحمه الله- جوهرةً فريدة، ورجلًا قلَّ مثيله في زمنه وعصره، إذ حافظ على دولته لأكثر من ثلاثين عامًا كانت وقتها تعاني الديون والتفكك والتهديدات الخارجية الاستعمارية الطامحة لاحتلال الأراضي الإسلامية، لذلك كان إنزاله عن عرش السلطنة بداية النهاية للخلافة الإسلامية، ونذير تفكُّكِ وانهيار وحدة الأمة بعد قرونٍ من توحُّدها في ظل الخلافة العثمانية، التي حفظت الإسلام والمسلمين لأربعة قرون سطرت فيها المجد والعزة.

نشأة السلطان عبد الحميد الثاني

ولد السلطان عبد الحميد الثاني في قصر جرغان في إسطنبول عام 1258هـ، ليكون الابن الثاني للسلطان عبد المجيد الأول، وللسلطانة (تيرمجكان) ذات الأصول  الشركسية، فنشأ عبد الحميد نشأة الأمراء في تربيته وتعليمه وتثقيفه، إلى أن بلغ سن العاشرة من عمره إذ تعرض لصدمةٍ نفسية بوفاة والدته، الأمر الذي ترك في نفسه أسىً وحزنًا، وجعله يميل إلى الوحدة والانفراد، لكن زوجة والده الثانية (بريستو قاضن) اهتمت به وعكفت على تربيته، فتعلَّقت به وأحبته ودأبت على تعليمه وتربيته، حتى نشأ عبد الحميد نشأةً تليق بالأمراء، فكان دمِث الأخلاق، راجحَ العقل مستقيم السلوك، لم يلتفت لمغرِيات الحياة الكثيرة، ولم يجنَح للطيش والتفلُّت من القواعد والأصول التي تضبط حياة الأمير العثماني، بل إنه كان يتقيد بها تمامًا، ولا يخرج من القصر ليلًا للسهر والتنزه، حتى إنه كان مواظبًا على فروضه متمثلًا بتعاليم الدين في حياته وسلوكه.

 وكان -رحمه الله- يلازم والده في مجلسه، فتعلم منه أمور الدين والسياسة، إذ كان جيد الاستماع حادَّ الذكاء، لا يتكلم إلا قليلًا ويكتفي بالاستماع والتفكر، إضافةً إلى أنه أخذ عن والده تعلقه بحرفة النجارة، فبدأ يتمرَّس بها، ويمارسها في أوقات فراغه، التي كانت مملوءة بكل ما هو مفيد، لا سيما كثرة المطالعة والدراسة، فقد كان محبًا للقراءة حبًا كبيرًا، لا سيما قراءة القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، إذ كان يلازم كتاب صحيح البخاري، ويدرسه ويحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا بد من القول إنه لم يكن يقصر اهتمامه على الناحية الدينية، فقد كان أيضًا متعلقًا بالقصص الأوروبية، مثل قصص المحقق (شارلوك هولمز)، التي كان يتابعها باستمرار.

ولمَّا بلغ عبد الحميد الثاني سن الثامنة عشرة ابتُلي بوفاة والده السلطان عبد المجيد الأول، ففقد بذلك حنان الأم، وعطف الأب، ثم توفِّيت مربيته وزوجة والده الثانية التي عكفت على تربيته، فحزن عليها حزنًا شديدًا، لكنها تركت له ميراثًا ضخمًا، فقرر الاشتغال بالتجارة والعمل فيها بدلًا من تجميد الأموال أو صرفها، فبرع في هذا المجال، وأخذ يحقق ثروةً  منها، لكنه في ذات الوقت لم يهمل السياسة والتعلم، فلازم عمَّه السلطان عبد العزيز رحمه الله، الذي قرَّبه وجعله مرافقه في رحلاته وأسفاره، رغم أنَّ الأمير عبد الحميد لم يكن وليًا للعهد، وكان بعيدًا عن كرسي السلطنة، لكن نباهته وفطنته دفعت بعمه إلى اصطحابه معه، ليشهد أولَ زيارةٍ دبلوماسية لخليفةٍ عثماني لأراضي دولةٍ أجنبية، فزار باريس ولندن، وعددًا من العواصم الأوروبية، وبدأ ينتبه إلى شدة الأخطار التي كانت تبيتها الدول الغربية للإيقاع بالدولة العثمانية.

السلطان عبد الحميد وتربيته الدينية

كان السلطان عبد الحميد قد نشأ في قصر الخلافة الإسلامية، فكان من الطبيعي أن يتم تأهيله وتدريسه على العلم الشرعي، فأخذ يدرس القرآن الكريم، والحديث الشريف، إضافةً لتعلم اللغات الأخرى، لا سيما العربية، والفارسية، والشركسية والألبانية، لكنه ما إن دخل في مرحلة الشباب حتى بدأ يميل إلى التصوف، فاتبع الطريقة الشاذلية الصوفية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ التصوف لم يكن طارئًا في الدولة العثمانية، بل إنه كان منتشرًا وتحتضنه بعض المساجد والتكايا والرُّبُط، وكان ينقسم إلى طرق ومذاهب، اعترى أكثرها الدجل والكذب، فكان فيها الرقص وقرع الطبول وإقامة الموالد والقيام بأمورٍ سحرية على أنها كرامات، وقد كان غير قليل من الناس يتأثرون بهم، ويتبعون مثل هذه الطرق.

 ولكن لا بد من الإنصاف في هذه المسألة، إذ لم تكن كل الطرق الصوفية قد استحضرت البدع في مسلكها، ومنها الطريقة الشاذلية، التي كانت تكتفي بحضور مفهوم المقامات، أي درجات ترقي العبد في عبادة الله، مثل التخلي والتحلي والتوكل والصبر وغيرها،  لذا لم يكن غريبًا أن يتأثر السلطان عبد الحميد بها في شبابه، خصوصًا أنه كان يميل إلى الزهد والتحلي بالأخلاق، وحب الذكر والعبادة، فوجد عند الشاذلية ما يلبي رغبته، لكنه انصرف عنهم دون أن يضعف إيمانه بالله، ولعل مرَدَّ ذلك إلى أنَّ الطرق الصوفية تدفعه للتزهد والتخلي عن الدنيا وكل ما يتعلق بها، وهذا الأمر لا يليق بأمير عثماني يرى أمته في وضعٍ صعب وتحتاج إليه في النهوض والتخلص من المشكلات التي تحيق بها، إضافةً إلى أن بعض الطرق الصوفية أدخلت بدعًا ليست من الدين في شيء.

مقتل السلطان عبد العزيز 

اعتلى السلطان عبد العزيز عرش السلطنة في زمنٍ كانت فيه الدولة تعاني من هزائم وخسائر كبيرة مُنيت بها بسبب القوى الأجنبية التي كانت تحرض الأقليات في البلقان وأرمينيا على العصيان، إضافةً إلى هزيمتها في حرب اليونان، وتوقيعها عددًا من الاتفاقيات الصعبة، وأخيرًا ضعفها الاقتصادي ومرورها بأزمةٍ مالية دفعتها للاقتراض لأول مرةٍ في تاريخها من الدول الأوروبية، فبدأ السلطان عبد العزيز حركة الإصلاح في دولته، وأخذ يقلِّل من نفقات قصره ويحاول تنفيذ حركات إصلاح جديدة غير مسبوقة، مثل إلغاء نظام (الحرملك)، لكنه على الرغم من ذلك اضطر لأخذ قروضٍ جديدة، وأن يرهن ضرائب الدولة وإيراداتها للبنوك الفرنسية؛ الأمر الذي أدى إلى إعلان الدولة العثمانية إفلاسَها عام 1879م، وعام 1881م، وقد بقي السلطان عبد العزيز في الحكم لمدة خمسة عشر عامًا، إذ خُلع وعُّين ولي عهده الأمير مراد سلطانًا للدولة بدلًا منه، وكي يُضمن عدم عودته للسلطنة قُتل بعد ثلاثة أيامٍ في قصره، ليكون الحكم خالصًا لمراد الخامس الذي لم يدم حكمه طويلًا إذ خُلع هو الآخر بحجة أنه مجنون، ليرتقي السلطان عبد الحميد الثاني عرش الخلافة عام 1876، وبذلك بدأت مرحلةٌ جديدة في تاريخ الدولة العثمانية.

خلافة السلطان عبد الحميد الثاني

السلطان عبد الحميد الثاني

ما إن ارتقى السلطان عبد الحميد الثاني سدة الحكم حتى شرع في تحسين أحوال الدولة، لكنه لم يمتلك الصلاحيات الكاملة لوجود مجلس المبعوثين، الذي يعادل ما يعرف اليوم بمجلس النواب في الدول الحديثة، ونتيجةً لوجود هذا المجلس، وتعدد القوميات والأعراق فيه، لم يُتخذ فيه قراراتٌ صائبة تسعى لتحسين أحوال الدولة والارتقاء بها، بل على العكس تمامًا، حاولت كل قومية وعرق أن تلبي مصالحها دون النظر للمصلحة العليا للدولة، فتسبب هذا الأمر بزيادة الشروخ وتمزيق جسد الدولة، إضافةً إلى أنَّ هذا المجلس ورَّط الدولة العثمانية بحربٍ مع روسيا، إذ رفض أي حُلول سلمية معها، فاشتعلت الحرب التي خسرت بسببها الدولة مناطق واسعة من أراضيها، ودفعتها لتوقيع اتفاقياتٍ ومعاهدات فرضت عليها شروطًا صعبة، فقرر السلطان عبد الحميد حل هذا المجلس، واستلام السلطة بشكل مباشر، الأمر الذي جعل خصومه يصفونه بالحاكم المستبد.

وبعد حل المجلس أخذ السلطان يشرع بعمليات إصلاحٍ واسعة في الدولة، فحسّن الجيش، واستقدم القادة الألمان فيه، وأخذ ينقيه من الموالين للغرب، فشكل الاستخبارات العثمانية، التي استطاعت إفشال الكثير من العمليات التخريبية والاستخبارية في أراضي الدولة، إضافةً إلى اعتقال الجواسيس وكشف أسرار اغتيال السلطان عبد العزيز الذي أُشيع عنه أنه انتحر في غرفة نومه، فاعتُقل مدحت باشا رأس الانقلاب، ونفي إلى الطائف ليعدم فيها، لتبدأ الأصوات التي تتهم السلطان عبد الحميد بكونه السلطان الأحمر، الذي يصفي خصومه ويلقيهم في مضيق البسفور.

السلطان عبد الحميد والمشاريع الداخلية

السلطان عبد الحميد الثاني

بدأ السلطان عبد الحميد الثاني سلسلة من الإصلاحات الجذرية للدولة، فعمد إلى تقوية الاقتصاد، للتخلص من مسألة الديون التي أثقلت الدولة، ثم بدأ بإصلاح التعليم، فافتتح غير قليلٍ من المدارس العسكرية والهندسية والطبية، التي وصلت إلى حد الجامعات الأوروبية في التطور، وعزَم على مد سكة حديدٍ تربط أجزاء الدولة بعضها ببعض، وذلك لتحقيق العديد من الأهداف، فالدولة العثمانية دولة مترامية الأطراف، ولا بد من ربط الأجزاء البعيدة منها بالمركز، وذلك بخطوط مواصلاتٍ حديثة تختصر الوقت والجهد، وتضمن عمليات نقلٍ وحركة آمنة، إضافةٍ إلى أنَّ مساحات واسعة من الدولة تسيطر عليها القبائل التي تُغير على القوافل للسلب والنهب، وأيضًا حاجة المسلمين لوسيلة وصولٍ سريعة وآمنة لبلوغ الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، وأخيرًا اكتشاف البترول في الحجاز والعراق، الذي يحتاج لمد خطوط مواصلات إليه لبلوغه واستخراجه ونقله بأمان، لذلك كان لإنشاء سكة الحديد أثرٌ عظيم على الدولة، وضربة قوية للقوى الأوروبية الاستعمارية التي كانت تريد السيطرة على البلاد العثمانية مستغلةً ضعف بنية المواصلات، ثم إنَّ سكة الحديد انتهت بمدة زمنية قصيرة تمثلت بعشر سنوات، تم ربط إسطنبول ببلاد الشام والحجاز وبغداد وغيرها من المدن.

السلطان عبد الحميد وإفشال المساعي الاستعمارية

كان همّ السلطان عبد الحميد الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، وجعلها تتبع للخليفة العثماني بوصفه رأس العالم الإسلامي، فأطلق دعوة الجامعة الإسلامية التي تدعو لضم كافة الشعوب الإسلامية تحت راية الخلافة، لا سيما بعد توحد القوى الأوروبية النصرانية لهدْم الخلافة وتدمير الإسلام، الأمر الذي أثار الدول الاستعمارية، وخشوا على مستعمراتهم من الضياع خصوصًا تلك التي تضمُّ أغلبية مسلمة، فسعت تلك القوى لتشويه صورة السلطان عبد الحميد، وإثارة القلاقل وزرع الفتن داخل الدول، فحرضوا الأقليات المسيحية والأرمنية، وطالبوا بحمايتهم وتحسين أوضاعهم في الدولة، واقتطاع أجزاءٍ منها لصالح الدول النصرانية مثل اليونان، الأمر الذي أدى إلى تأزم الوضع واندلاع الحرب العثمانية اليونانية التي بذلت فيها الدول الأوروبية جهدها لدعم اليونان، لكن الجيش العثماني استطاع هزيمة اليونان، والحفاظ على أراضي الدولة.

 وقد عمل السلطان عبد الحميد على إبعاد الاستعمار عن أراضي الدولة، فأرسل ثمانية آلاف جنديٍّ لليمن، وذلك لإبعاد الإنجليز عنها، ثم أرسل جيشًا قوامه خمسة عشر ألف جندي إلى ليبيا لدحر العدوان الإيطالي الذي أُجِّل خوفًا من الاصطدام بالعثمانيين، أما عن ميناء العقبة، فقد أرسل قوةً عسكرية لطرد الإنجليز منها، وضم قصبة طابا، بعد أن سيطر الإنجليز عليها بدعوى أنها مُلك للدولة المصرية، التي رفضت هي الأخرى التدخل الإنجليزي، وبذلك دحر السلطان عبد الحميد العديد من الأطماع الأوروبية، لكنه واجه أطماعًا أشد وأخطر، وهي الأطماع اليهودية الصهيونية بفلسطين، فقد قررت الصهيونية العالمية اختيار فلسطين لتكون وطنًا قوميًا لها.

 لكن وجود الخلافة العثمانية حالت بينهم وبين أطماعهم، فسعوا إلى تشويه صورة السلطان عبد الحميد عبر الصحف والإعلام، وإظهاره بمظهر المستبد القاتل، وعمدوا إلى إظهار معاناة اليهود في العالم لا سيما في ظل الدولة العثمانية، وأنهم يعانون أشدَّ أنواع الاضطهاد والتمييز الديني والعرقي، لكن السلطان عبد الحميد استطاع تفادي هذه الهجمات، فلجؤوا إليه ليعرضوا عليه أخيرًا مسألة شراء أرض فلسطين، وذلك بدفع ديون الدولة العثمانية، ورفدها بالأموال الكثيرة، لكن السلطان رفض اقتراح (ثيودور هرتزل) زعيم الصهيونية، وأعلن أنَّ أرض فلسطين هي أرضٌ وقف للدولة العثمانية لا يجوز بيع أيّ جزءٍ منها لغير المسلمين، وشدد الإجراءات تجاه حركات البيع والشراء في فلسطين منعًا لتغلغل اليهود، وأخيرًا منع هجرتهم إليها تحت أي ظرف، وقد أثارت هذه الإجراءات نقمة اليهود عليه، فحاولوا التخلص منه غير مرة.

محاولات إسقاط السلطان عبد الحميد الثاني

السلطان عبد الحميد الثاني
ثيودور هيرتزل

منذ أن اعتلى السلطان عبد الحميد الثاني عرش السلطنة، وبرز بهيئة الحاكم المصلح، أخذ أعداء الأمة بمحاولة عزله أو قتله، فقد شكّل وجوده خطرًا على الأطماع الاستعمارية، فحاولوا أول أمرهم أن يخلعوه عن العرش بواسطة عملائهم، فكان أول تحركٍ لهم بأن أشاعوا أنّ السلطان مراد الخامس قد شُفي تمامًا، لكنه محتجزٌ في قصره، فأدَّت هذه الإشاعة لإحداث قلاقل بين الناس، مما دفع بالسلطان عبد الحميد إلى استدعاء أمهر الأطباء إلى قصر أخيه، وذلك لمعاينته وكتابة تقرير يفصح عن حالته، فوجد الأطباء أن السلطان مراد عاجز عقليًا، ولا يستطيع تدبُّر أمره حتى يتدبر أمر الحكم، لكن القوى الأجنبية لم يعجبها هذا الأمر، فحاولت أن تختطف السلطان مراد وتحمله على سفينة روسية إلى أوديسا، وذلك لاستعماله ضد أخيه عبد الحميد، لكن هذه المحاولة فشلت.

أما المحاولة الثانية لإسقاط عبد الحميد الثاني فكانت تتمثل بمحاولة اغتياله على يد جماعاتٍ أرمينية، دعمها الصهيوني ثيودور هيرتزل وذلك عن طريق زرع ثمانين كيلو غرامًا من المتفجرات في عربة قريبةٍ من المسجد الذي يُصلي فيه السلطان يوم الجمعة، إذ إنه المكان الوحيد الذي يُمكن أن يتواجد فيه السلطان بشكلٍ دوري دون انقطاع، لكن مشيئة الله تعالى أرادت أن يكون عمره أطول مما أرادوا، إذ توقف السلطان على غير العادة ليستمع إلى بعض الشكاوى من إمام المسجد، لتنفجر العربة بعيدًا عنه، وقد اعٌتقل منفذو العملية، واعترفوا أنهم عزموا على تفجير البنك العثماني وجسر (غلطة)، ومقر الحكومة العثمانية، وعددٍ من السفارات الأجنبية، لإحداث حالة فوضى في الدولة، لكن الله تعالى نجَّى السلطان والأمة، وقد كتب الشعراء قصائد تهنئ بنجاة السلطان، منها قول أحمد شوقي:

هنيئًا أمير المؤمنين فإنما    نجاتك للدين الحنيف نجاة

هنيئًا لطه والكتاب وأمةٍ     بقاؤك إبقاءٌ لها وحيــــــاة

نهاية حكم السلطان عبد الحميد 

استمر السلطان عبد الحميد في الحكم إلى ما يقارب الثلاثين عامًا. استطاع تخفيض ديون الدولة من ثلاثمائة مليون ليرة، إلى ثلاثين مليونًا فقط، وحسَّن الجيش العثماني، ورفع جاهزيته وأمدَّه بالسلاح والعتاد، وحسَّن مرافق الحياة في الدولة وبذل لها كل نفيس، لكن الأطماع الاستعمارية لم تهدأ للحظة، فاستطاعت الصهيونية العالمية، ومن ورائها دول الغرب أن تتغلغل في أواسط الطلاب في المدارس العسكرية والتقنية العثمانية، وأشاعوا فيما بينها أفكار الحرية الكاذبة، ومبادئ الثورة الفرنسية المشوهة، فتأسست جمعية الاتحاد والتّرقي ذات الخلفية الماسونية، وبدأت تستقطب ضباطًا وقياداتٍ من الجيش إلى صفوفها، ومن بينهم (أنور باشا)، وقد اتخذت هذه الحركة من السالونيك مقرًا لها، وبعد أن قويت وتمكنت من تأسيس قاعدةٍ قوية لها أطلقوا حركات تمردٍ للمطالبة بإعادة تفعيل القانون الأساسي وإعادة مجلس المبعوثين، فاضطر السلطان لقبول ذلك، رغم كونه غير مقتنعٍ بقدرة هذا المجلس الذي تدخلت فيه العديد من الدول الاستعمارية.

وبعد أن حققت جمعية الاتحاد والترقي أولى أهدافها، ووجدت أن السلطان عبد الحميد لن يلجأ للقوة العسكرية لإخماد أي تمرد ضده صونًا لدماء المسلمين قرروا التحرك في يوم الثلاثين من مارس عام 1908، فقام طلاب المدرسة العربية بعصيان ضد السلطان، وتقدم جيش السالونيك باتجاه العاصمة واحتلها واقتحم قصر (يلدز)، ثم ضغط الانقلابيون على شيخ الإسلام كي يوقع على فتوى عزل السلطان، وقد قيل إنه لم يوقعها بل وُقعت من شيخٍ آخر، إذ احتوت الفتوى اتهاماتٍ خطيرة ضد السلطان عبد الحميد، مثل تمزيق المصحف وكتب الأحاديث وإحراقها، وتبذير أموالٍ وارتكاب جرائم قتلٍ ضد المعارضين، وكل هذه التهم هي تهمٌ ملفقة كاذبة، فالسلطان عبد الحميد لم يوقع عقوبة الإعدام حتى بالمخرِّب الذي فجَّر موكبه أمام المسجد بقصد اغتياله، أما عن تمزيق وإحراق الكتب الدينية، فهي تهمة بعيدة كل البعد عنه، إذ كان شديد التدين، وأمر أثناء سلطنته بجمع صحيح البخاري وطبعه، أما عن التبذير والإسراف، فقد كان السلطان شديد الحرص على أموال الدولة حتى إن معارضيه أنفسهم كانوا يتهمونه بالبخل، فكيف يجتمع في الشخص الواحد الإسراف والبخل في آنٍ واحد، لكن الانقلابيين وجدوا هذه الحجج الكاذبة لتشويه صورته أمام المسلمين والتاريخ، فعُزل السلطان ونقل من قصر يلدز إلى سالونيك ليعيش فيها حياة النفي، وقد أمعن الانقلابيون في التقليل من شأنه، فأُسكن في قصرٍ ليهودي، ومنع عن الخروج ومقابلة الناس، ومنع من رؤية أولاده الذكور، الذين كان منهم الأميرعبد القادر الذي ناصر الاتحاديين على والده بعد أن خُدع بأفكارهم السامة بالحرية، وأخيرًا أُجبر على التنازل عن أمواله بعد أن بدد الاتحاديون أموال الدولة.

ولكي تكتمل خطة القضاء على الدولة العثمانية، أطلق الاتحاديون حركة تعصبٍ عرقي ضد الأعراق غير التركية، إضافةً إلى تحمُّسهم لدخول الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا، وذلك لتحقيق أمجادٍ زائفة على حساب معاناة الشعب العثماني، علمًا أن السلطان عبد الحميد كان ينتظر هذه الحرب بفارغ الصبر حتى لا يشترك فيها ويقف على الحياد، إذ كان على علم بأن الدول الأوروبية ستُفني نفسها فيها، وأن المنتصر الذي سيخرج منها لن يكون ندًّا للدولة العثمانية، لكن الاتحاديين لم يدركوا حكمة السلطان، وقادوا البلاد إلى الخراب، فبدأت الدولة تخسر أراضيها، حتى وصلت الجيوش الغازية أعتاب السالونيك، فنُقل السلطان إلى العاصمة مجبَرًا، ليموت فيها بعد أن شاهد ما حدث لدولته من مآسٍ، إذ حلت المجاعة، وخسرت الجيوش العثمانية على جبهات القتال المختلفة، حتى انتهت الحرب العالمية الأولى بالنسبة لها بتوقيع اتفاقية أدرنة التي بموجبها تنازلت الدولة العثمانية عن كافة أراضيها التي لا تحتوي على أتراك، وانحسرت في آسيا الصغرى، وقبلت أيضًا الاحتلال المتعدد الجنسيات، فاحتُلت عاصمة الخلافة وعجَّت بالإنجليز والفرنسيين واليونان وغيرهم، وبذلك حلت الهزيمة بالدولة، وخسر الاتحاديون كل شيء، بالأخص دولتهم ودينهم وسلطانهم الذي ندموا على خسارته وانتهت بموته واحدة من أعظم الدول الإسلامية على مرّ التاريخ، وليطمس العلمانيون الخلافة الإسلامية محققين ما عجزت عنه اليهود والنصارى على مر قرون.

السلطان عبد الحميد في الأدب

بعد إزاحة السلطان عبد الحميد عن عرشه شرع في كتابة مذكراته التي عكست عمق الكذب والافتراء عليه، فكانت هذه المذكرات وثيقة تاريخية تثبت كذب خصومه، وبراءته من كل تهمة، وفي عصرنا الحالي، تصدى عددٌ من الأدباء والكتّاب للحديث عن السلطان عبد الحميد الثاني، ولعل من أبرز الأعمال التي كُتبت عنه، وحاولت انصافه، رواية ياسين قلب الخلافة، للروائي المغربي عبد الإله بن عرفة، الذي حاول تقصي مراحل حياته عبر سردٍ أدبي ممتع، كاشفًا عن جوانب حياته النيرة، وإسهاماته الجليلة في خدمة الأمة الإسلامية.

المصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى