طوفان الأقصى.. المعركة العسكرية والأبعاد الاستراتيجية

في سبتمبر 2023، وقف نتنياهو متبجِّحًا، مستعرضًا خريطة الشرق الأوسط الكبير في الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة. وما لبث الشهر أن انقضى حتى أعلن القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام الشهيد محمد الضيف عن طوفان الأقصى، في مَلمَحةٍ جديدة شكَّلت منعطفًا حاسمًا في خريطة الصراع المتعدِّد الأبعاد والمستويات.
فلم تقتصر ارتدادات المعركة الجغرافية على دول الإقليم فحسب، بل امتدّت إلى مناطق العالم قاطبةً، كما لم تتوقف ارتداداتها المعنوية عند حدود معجزة صمود المقاومة تحت الأنفاق بعد عامين من القتال المستمر في ظلّ واقع الحصار، بل تجاوزت ذلك إلى إعادة تدقيقٍ ومراجعةٍ للمفاهيم العسكرية ومعاني النصر والهزيمة، وللأطروحات الكامنة في العقائد القتالية ذاتها.

ونحن على أعتاب مرور عامين على المعركة التي قد يُختلَف في نتائجها، لكن لا يُختلَف قطعًا في أثرها وارتداداتها، وهو ما دفعنا إلى كتابة هذا المقال، من باب مسؤولية التحليل والتأريخ لحدثٍ قد يشكِّل الحدث الأعظم في القرن الحالي.

7 أكتوبر والانقلاب العظيم

السابع من أكتوبر

بينما كانت تتوجّه أنظار المحلّلين إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تُخفّف وجودها العسكري ضمن منطقة العالم الإسلامي وتُعيد تعريف استراتيجيتها الدولية ضمن أولوية تهديد الصين للمنظومة الدولية، وكانت إيران تقف على عتبة القنبلة النووية وتتموضع عسكريًا على طول المنطقة عن طريق طوق الحلفاء، وتعدّ إسرائيل العالمَ باتفاقياتٍ وصفقاتٍ اقتصادية تجعل الكيان الإسرائيلي دولةَ الارتكاز الوحيدة في المنطقة ضمن ثلاثية التفوّق العسكري والضامن الأمني والمورّد الاقتصادي والتجاري، جاء إعلانُ الضيف ليُعيد ترتيب رقعة الشطرنج ويضع الجميع مقابل الجميع، ويُرغم الجميع على إعادة ترتيب الأولويات، وينتهي بمعظم فواعل المنطقة إلى مآلاتٍ لم تكن متخيّلة قبل الطوفان.

فانتهت استراتيجيةُ الدفاع المتقدّم الإيرانية، وتشكلت خريطةٌ سياسية جديدة في لبنان، وانتهى نفوذُ روسيا وتواجدُها العسكري في سوريا، وتشكّل محورٌ جديد بين تركيا وسوريا، وراجعت السعوديةُ ودولُ الخليج علاقاتها الدفاعية، ووقفت أوروبا عاجزةً عن جعل نفسها مركزَ الحدث الدولي، وتغيّرت توجهاتُ الرأي العام داخلها، وهو ما جعل الباحث في شؤون الشرق الإسلامي “gilles Kepel” يذهب إلى تشبيه السابع من أكتوبر بانهيار جدار برلين 1989م في حجم التأثير على بنية النظام الدولي.1 وهو نفس رأي جنرال القوات البرية الفرنسي “pierre schil” الذي اعتبر السابع من أكتوبر من الرموز التي ستبقى للتأريخ للحظة الانقلاب في الفضاء الاستراتيجي المعاصر.2

التضليل الأمني والفشل الاستخباراتي الإسرائيلي

لم تُظهر المقاومة في طوفان الأقصى بسالة عسكرية فقط، بل أبانت عن ذكاء أمني وقوة استخباراتية منقطعة النظير بالنظر إلى عامل الإمكانيات؛ فالتحضير النوعي والبشري والمادي لعملية في عمق الاحتلال يفرض حركة واتصالًا وتنسيقًا سابقًا يصعب عدم رصده من طرف الاحتلال؛ فغزة أرض مكشوفة جغرافيًا فلا يمكن الحركة فيها دون رصد، وهي محاصرة من كل الجهات بما لا يسمح بالتحضير لهذه العملية إلا من خلال الإرادة الداخلية، وهو ما جعل المقاومة تقرأ سلوك الاحتلال جيدًا وتتموضع وفقًا لمنظوره الاستراتيجي للصراع، فقد بدا بعد انتكاسة الربيع ووثيقة حماس في 2017م وسيف القدس 2021م أن حماس مردوعة، وأنها تحافظ على نسق رد الفعل مع الاحتلال، وأنها تتحرك وفق منطق إدارة الصراع لا حله، وهو ما راهن  عليه الاحتلال أيضًا وتبناه، فجعل غزة أولوية ثالثة بعد إيران ولبنان، وخفض وجوده الأمني والعسكري فيها ضمن نفس سياق النموذج التحليلي “البارادايم” المتحيز الذي صنعه لنفسه، وهو ما وضحه بشكل دقيق مفصل رجل الأمن وقائد البحرية “عميحاي أيالون” في حوار له مع معهد كارنجي3، فقرأتْ المقاومة اللحظة بشكل دقيق، وتعاملت مع كل المحاذير وحولت شبكات اتصالها إلى الحالة التقليدية وجعلت الاحتلال يصدق أنه محق في نموذجه التحليلي؛ لتجعله أمام واقع جديد ومعادلات في الصراع لم يكن يتخيلها.

صناعة الإنسان والثقل العسكري

صناعة الإنسان المقاوم

يُعَدّ الثّقل العسكري واحدًا من أهم عناصر تقييم قوة الأطراف ومدى استعدادها وقدرتها على الاستمرار، وقد تمّ تحديد مركز ثِقَل المقاومة العسكري في مناسبتين:

الأولى: في تصريح الجنرال “أوستن” وزير الدفاع، بأنّ المدنيين هم مركز الثِّقَل في هذا النوع من المعارك، ولا يحتمل كلامُه الشق المتعلق بالحفاظ على سلامتهم أو الضغط من خلالهم على المقاومة وتحييدهم عنها، بل لأنه يُدرك تمام الإدراك أن الإنسان في غزة مقاومٌ في عمومه، وأن المقاومة منه وهو منها.

أما المناسبة الثانية: فهي تصريح أبي عبيدة الشهير المصوَّر، الذي أكّد فيه أن الصناعات الفتّاكة لم تكن لتجدي لولا الصناعة الأهم التي تمتلكها المقاومة، وهي صناعة الإنسان المقاوم. وإن نماذج الاستبسال في ساحات القتال تجعل المتابع يُدرك إدراكًا كاملًا أن استخدام القوة الفتّاكة هو عجزٌ عن حسم المعركة، وعدم قدرةٍ على وضع الهدف السياسي النهائي.

وما تعجز القوى الدولية الاستعمارية عن إدراكه في كل مرحلةٍ، وفي كل جولةٍ من جولات الصراع في أحد الأقطار الإسلامية، هو أن صناعة الإنسان تتفوق على صناعة الآلة، وأن المغزى من استخدام القوة أهم من القوة ذاتها عندما يتعلق الأمر بمعارك التحرير.

إعادة تقييم مفهوم القوة والنصر والردع

إن أهم ساحة في الحسم العسكري هي ساحة الإرادة والنفس؛ فحرب الإرادات تتجاوز السعي إلى كسر إرادة العدو إلى إعادة صياغتها ورسمها بما يحقق الردع، وهو مفهوم حرص عليه الكيان في حربه على غزة والمقاومة، ولم يعد تصوره العسكري قائمًا على دفع الجيوش إلى الأمام، بل صار تصورًا استراتيجيًا شاملًا يوظف مختلف عناصر القوة، ويتكيف مع اتساع البيئة الدولية وتعدد أدوات التأثير، فانتقلت الاستراتيجية من كونها فنًا للعمليات العسكرية إلى إطار شامل لإدارة القوة في خدمة القرار السياسي؛ فيسعى إلى فرض الإرادة السياسية على الخصم، إما بالفعل أو بالتهديد، ويتحقق ذلك عبر “العمل الحاسم” الذي يختلف عن “العمل التدميري”. 

فالقرار الاستراتيجي الحاسم ليس تدميرًا ماديًا بقدر ما هو لحظة نفسية فارقة تجبر العدو على الاستسلام، ويؤكد بوفر4 أنّ القرار هو: حدث نفسي بالأساس، هدفه إقناع الخصم بعدم جدوى الاستمرار في القتال، وبهذا المفهوم لا تزال المقاومة قادرة على الاستمرار وكلما استمرت تكون قادرة على توظيف عامل الزمن في صالحها، وكلما طال القتال يترسخ مفهوم الهزيمة لدى الكيان.

فإذن هي إرادة الفوز لدى الكيان ضد إرادة البقاء لدى المقاومة، ونادرًا ما تستطيع إرادة الفوز تفكيك إرادة البقاء، وعلى امتداد مستويات الحرب، من التكتيكي إلى السياسي، يظل جوهر الانتصار الاستراتيجي نفسيًا، والانتصار يتحقق عند لحظة خضوع العدو للإرادة المفروضة عليه، سواء نتيجة العجز المادي، أو انهيار منظومته الداخلية، أو لأنه اعتبر نفسه مهزومًا، وهو ما لم يتحقق إلى الآن في حالة المقاومة.

التلازم بين المعركة الدبلوماسية والعسكرية

التلازم بين المعركة الدبلوماسية والعسكرية

تخوض المقاومة معركة الغرف والأروقة كما تخوض معركة الأرض والاشتباك، ويبدو التكامل بين المسارين قويًا جدًا بما تعجز عنه حتى أعتى غرف العمليات العسكرية للدول. فالمقاومة تجيد تفعيل مفهوم الزمن جيدًا وتقرأ اللحظة السياسية ببراعة، وتختار التصعيد الدبلوماسي والعناد في وقته، وتفتح باب المناورة والتفاهم وإرضاء الوسطاء في وقته. فنجدها تتعنّت في حقوق الشعب الأصيلة وسلاح المقاومة، وتبدي مرونة في التجاوب مع صفقات السلام. وأجادت معركة عدم الثقة الكاملة في الوسطاء فعمدت إلى جعل كل اتفاق ضامنًا في نفسه؛ وإن كانت بعض البنود تنص على ضمانة الوسطاء، فقد بدت غير فعالة في لجم الاحتلال، بل قُصِف الوسطاء أنفسهم. 

وقد عرف منحنى المعركة منعرجات دبلوماسية وترتيبات سياسية من الكيان وحلفائه لحشر المقاومة وعزلها سياسيًا في محاولة نزع المكاسب بالسياسة بدل الحرب. ولعب خليل الحية ووفدُه المعركة جيدًا، فما تزال المقاومة بعد عامين تُرغم الجميع على التفاوض رغم أن سلاحها خفيف، والسر قدرتها على التنسيق بين مختلف السرعات والأبعاد بما يرفع فاعلية الأداء، في حين يعجز الكيان عن ربط سرعاته المختلفة والتنسيق بين أطرافه. فهو وإن كان يملك عناصر القوة الشاملة المتعددة (عسكرية، سياسية، حيوية، اقتصادية، تقنية…)، فإنه يفقد عنصر “الغاية” من استعمال فائض القوة، فيحقق بها أهدافًا تكتيكية وإن بدت ضخمة، ويفقد عنصر “التسخير” في تناسب فائض القوة مع الغايات فلا يكاد يستطيع الانتقال بينهما. فهو يراكم نصر المعارك ولا يراكم نصر الحرب، يتقدم في معركة إدارة المعارك ولا يحرز تقدمًا في معركة الإرادة العسكرية؛ يربح في الاستراتيجية المباشرة ثم يخسر غير المباشرة، يملك التصور عن الأولى ويُعمى في الثانية.

المقاومة والمدرسة العسكرية

في أحد المقاطع المنشورة على المنصات، ظهر تصريح لمحمد السنوار يتحدث عن مفهومٍ عسكري أعطى لنفسه حقًا إضافيًا إلى أبجديات العمل العسكري المتمثلة في الصديق والعدو والمسافة والوقت والهدف، وهو اليقين بالله عزّ وجلّ، وهو عامل يُعبر عن عمق العقيدة العسكريةِ ومنطلقها، ويجمع بين الأخذ بأسباب الدنيا والعمل وتسخير الأدوات وأسباب الآخرة في التوكل واليقين. ومتى جَمَعَ طرف هذه الإرادة استحال كسرُهُ. ولو كُتِبَ لهذه المقاومة البقاء، وسخر الله لها من أهل العزم من يوثّق ويكتب ويدوّن عن مشاهد البطولة والعزة، فستكونُ مدرسة عسكرية متكاملة الأبعاد تُدرّس مفاهيمها وأدواتها وبيئتها التنظيمية في أعتى المدارس العسكرية.

المراجع

  1. Gilles Kepel – Le bouleversement du monde: l’après 7 octobre ↩︎
  2. UKRAINE, GAZA ET GUERRE DU FUTUR – Pierre Schill (chef d’état-major de l’armée de Terre) ↩︎
  3. The Israel-Hamas War: Intelligence, Strategy, and the Day After ↩︎
  4. هو أندريه بيوفر، جنرال ومفكر استراتيجي فرنسي (1902-1975) شارك في الحرب العالمية الثانية و اشتهر بدوره في حرب الاستقلال الجزائرية خصوصًا في معركة الجرف، والمقولة مأخوذة من كتابه مدخل إلى الاستراتيجية العسكرية. ↩︎

ميلود شيبانة

مهندس عمليات، وباحث في الشؤون الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ماشاء الله بورك فيك على المقال، وفقت في النشر في انتظار مقالات أخرى حول التغيرات الاستراتيجية و الجيوسياسية بعد الطوفان.
    ورحم الله الشهداء و ثبت أهلنا في غزة على ما هم فيه ان شاء الله…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى