سورة مريم: سورة مناجاة وذكر.. وطريق إلى الرحمن
سنقترب من سورة لها جو خاص، سورةٍ تهدأ بها القلوب المتعبة، وتقر بها الأنفس الحزينة، فجوها الرحمة وظلالها الود ونسيمها البشرى والوعد القريب. سورة مريم هي سورة الرحمات والعطاء كما ذكر الكثير من أهل التدبر والتفسير، وهي كذلك سورة الذكر والمناجاة، ذكر من المخلوق للخالق وذكر من الرحمن لأهل الصدق والوفاء.
سورة تجعل مورد أهل الإيمان محبوبًا مطلوبًا وتجعل مورد خصومهم من المكذبين والمعرضين والجاهلين مذموما مبغوضا. سورة مريم تصنع لنا طريقا إلى الرحمن، تجعله معبَّدا بسلوك المتقين ومن قبلهم الأنبياء والصديقين والمخلصين لربهم، مَن أخلصوا فتخلصوا، طريق يبدأ بكلمة {عبده} وينتهي بوده الخاص لمن آمنوا وعملوا ما أحبه. طريق عدته محراب الصلاة ونداء العجز والصلة، وخطه الدائم دعوة وإصلاح برسالة الحق تبدأ من الأهل ولا تتوقف عندهم، ومورده تنزيه الرحمن ومعرفته والتعلم عنه حتى تمتلئ النفس به، فتكون حين وصولها عنده قد وصلت إليه عبدا مقربا حلت له الشفاعة ووجبت له المودة الدائمة الموجِبة لنعيم آخر لم نحط به علما.
فلنلج إلى فيوض الرحمات في السورة ولنتوقف قليلا مع بعض معانيها الإيمانية وكنوزها التي لا تنفد..
زكريا.. عبد يدعو ورب يرحم
تبدأ السورة بذكر نبي يدعو وينادي ربه، لكن الله يخصه بوصف العبودية، ويذكر لنا صفة الدعاء الذي قرَّ بقلب نبي الله زكريا وأثره عليه. لقد كان نداءً يخرج من أعماق القلب، نداء من يعرف ربه، يحبه، له معه صحبة وخلوة، يناجي المحب حبيبه، يطيل الحديث ويبث شكواه، يتوسل بفاقته وضعفه وعجزه وما عهد عند ربه من العطايا، لقد كانت تأتيني منك الرحمة والأنس والرعاية وأمان القلب، فما يأتيني وما أرجو منك إلا خيرا.. وإن النبي الكريم ليرجو ما يحب ربه، يريد أن يورث رسالة ربه لمن هو أحق بها، فيجيب الرب بما يقر عينه ويزرقه بما يحب رغم استحالة الأسباب وانقطاعها. وحين يتعجب كيف تأتي البشرى ويتحقق الأمر البعيد تأتيه الإجابة زادا لكل مؤمن: {هو علي هين}، لنعرف أنه ما من أمر إلا بقضاء الله وأن الأسباب لا تعمل عملها إلا بمشيئته، وأننا إذا أردنا المعجزات فباب النجوى والدعاء كنز لا يُرد عنه أحد. غير أن للأنبياء والصديقين سبيلا ممتدا، فلا تنقطع المناجاة والقربى بتحقق الإجابة، فالتسبيح والذكر والصلاة والإقبال زادٌ لا تشغله عنه النعمة، بل تزيده حبا وشكرا وبلاغا.
وهكذا هي دائرة الرحمة ترحم ضعفك بإقبالك على الرحمن فيمنُّ عليك فتقبل أكثر فيزيد العطاء والكرم، يؤمنك مما تخاف ويهبك من خير ما ترجو ويتفضل بما يليق بإحسانه وفضله.
مريم.. عجيبُ صنعِ الله والتسليم له
هذه الصدِّيقة كما وصفها الله في سورة أخرى تجيب أمر ربها في مداومة العبادة والقنوت وترقية القلب بالقرب، فيأتيها رزق الله المقدر لها، رحمة من الله وآيةً وقضاء خير خصها الله به. لكن هذا القضاء والتشريف في ظاهره ألم وشدة، هو بلاء المقربين، مثلما ابتلي الصديق إبراهيم ببلاء مبين يقضي بذبح ولده الذي رزق به على كبر، كان بلاء الصديقة مريم أن تواجه قومها بما يشين ظاهرا، أن تأتيهم بغلام دون زوج فتنالها ألسنتهم بالسوء، وهي التي تطهر قلبها وأفاض على جوارحها عفافا وحياء وخشية لرحمن الأرض والسماء. تألمت مريم وطال الحزن قلبها وحق لها أن تحزن، لكن ربها الذي عرفته وتقربت إليه سائر أوقاتها، الله الذي ابتلاها ليرقيها لا يترك حزنها ينفذ إلى الأعماق. فيرسل لها الرحمن نداء البشرى، يلفتها إلى رحماته التي لا تنقطع وينهيها عن الحزن فهناك عطايا ومنح تجبر ذلك القلب الموجوع.. وها هي المعجزة تجبُر المعجرة، ها هو أجر الصابرين يأتي سريعا ليجيب عنكِ فدعي الأمر يدبره صاحب القدرة، فتنشط مريم وتقف لا خوف ولا حزن تواجه قومها وتشير إلى طفلها لينطق بالمعجزة.. يعرِّف نفسه بأنه عبد لله، عبد يقيم عبوديته كما أراد ربه، فهو البار بأمه، المبارك بحمل الحق ودعوة الخلق إليه، الذي سلم أولا وآخرا كما سلمت أمه، ينطق الوليد في مهده ليخرس ألسنة البغي في زمنه وألسنة الكفر والشرك إلى زمن بعثته حيا على ملة الحق والتوحيد.
فهذه الأنثى التي استجابت لأمر ربها، التي سلمت لقضائه رغم الحزن والألم، تنال الشرف والرفعة، تنال الذكر والاصطفاء، ويكون اسمها علما على سورة العبودية والتوحيد الحق والرحمات التي لا تنقطع، فهل عرفنا طريق الترقي للكمال؟ طريق الرضا بأقدار الله والتصبر فيها به ومعه، فلا نقول ولا نفعل إلا ما يحب أن يرى منا؟
إبراهيم.. أدب وقوة وبراءة
يأتي ذكر نبي الله إبراهيم في السورة في مشهد حواري بينه وبين والده الذي اختار الكفر على الإيمان، يدعوه إبراهيم عليه السلام بأدب الأنبياء، لقد أمدته العبادة وعلاقة القرب بينه وبين ربه بهداية وعلم ويقين يخاطب به أبيه ويدعوه لأن يسلك طريق الرحمن لا طريق الشيطان، فلا تزيده الدعوة إلا عنادًا ونفورًا رغم ما انطوت عليه من لطف ولين وشفقة ومحبة صادقة. فماذا يكون رد النبي المعلّم من ربه؟ ينهي حواره بسلام يليق بخلق النبي الكريم ثم يرد الأمر لربه، إحسان وقرب يجعله يتلقى الصد بدعوة واستغفار.. ويعتزل النبي الذي خاصمه قومه وتوعدوه بالعذاب موطنه مهاجرًا إلى ربه داعيًا إليه، وقد لخص مسيرته السابقة واللاحقة قائلاً: “وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴿٤٨﴾” هذا كان موطن إبراهيم أسوة المؤمنين وذلك كان منبع قوته وسر وقوفه وحيدًا أمام الباطل إلا من عزم ويقين، دعاء ربه وخلوته به وصدق يظهر في الأقوال والأفعال والأحوال.. يعتزل أهلاً وعشيرة فيهبه الله من رحماته أهلاً ورحمًا وذرية، والله أكرم من عبيده فتكون في الذرية المختارة إمامة الدين والنبوة والصديقية، ويكون منها إلى يوم الدين من يتخذه إمامًا ويعلن انتمائه إلى ملته الحنيفية. كان هذا من عطاء الرحمة لإبراهيم لأنه كلما ابتلي وفى وكلما دخل أتون المحنة خرج بنور أقوى وصدق أعلى.
فإذا أراد العبد المؤمن عطاء ربه وذكر ربه فليكن على درب إمامه، يتعرف على معالم العبودية، فيسلم في الأحكام وفي الأقدار، ويرد نهر اليقين، فلا تهزه شبهات الباطل، بل يقف لها بنفس قوية وأدب المنتمي إلى رب رحيم لطيف ودود، ثم هو ينأى أن يكون للصادين معبرًا وستارًا، يروه الناس بينهم فتلتبس عليهم أعلام الحق والباطل.
وفد الرحمن كيف ارتقوا
وتذكر السورة ملمحًا سريعًا لأهل الإيمان، للمنعم عليهم، لأهل الود والوفاء، فها هم أنبياء الله، المثل الأعلى، ما ارتقوا إلا بإخلاص وصدق ملك عليهم قلوبهم. يطلب موسى النبوة لأخيه، ويأمر إسماعيل أهله بالصلاة ويقوم إدريس بأمر الله، لقد خلّوا نفوسهم مما سوى الله، فصار مطلبها ومنزعها وغاية اهتمامها وأولويات حياتها استنفاذ الجهد في إنفاذ أمر الله، تعليمه والدعوة إليه والتمثل به وصفًا وحالاً. وبينما يطلب أهل الدنيا المكانة والمنزلة ويبذلون لها أنفسهم، يرفع الله أهل الصدق والإخلاص، تكون لهم المناجاة وتكون الرحمات الخاصة ويراهم القادمين خلف الزمان قادة الركب والنجوم التي يهتدون بها. هؤلاء ومن تبعهم من أهل المجاهدة عرفوا مقام الله فأقاموا النفس فيه واصطبروا على العبادة حتى صفت أرواحهم لها، فإذا سمعوا الآيات تراءت لهم من مشاهد الإيمان ومقامات الرحمن ما ملأ قلوبهم خشية وخضوعًا، فامتثلت الجوارح في ميدان الحياة وكانت أعمالهم منفعلة بهذا الشعور الطاغي، يقيمون أنفسهم قولاً وأدبًا وإصلاحًا وتعاملاً بآيات الرحمن، فهم أشد ما يكونون لها تشوفًا وامتثالاً.. سجد القلب مؤمنًا في محراب العبادة فسجدت الجوارح ملبية نداء الإيمان في واقع الحياة وفي محراب الصلاة عند تلاوة الآيات.
هؤلاء والسائرين على دربهم أُعدت لهم الجنات، سلمت لهم من اللغو ومن النقص والفناء كما سلّموا أنفسهم مرتاضين إلى ربهم، لم يلفتهم عن غايتهم في الدنيا بلاء ولا شدة، ولا كيد ولا أذى ولا ما فاتهم من المكانة والحظ ونظر الناس. أفلا يليق بهم وداد الله في الدنيا ثم كرامة الوفد المقبل على ربه، يرفعهم الرحمن ويفتح له أبواب الجنان وتقول لهم ملائكته سلام سلام؟
المجرمون.. لا ذكر ولا رحمة
تذكر السورة أصنافًا من المجرمين غفلوا عن رحمات الله، وقطعوا حبائل الود بينه وبينهم، فكان وليهم الشيطان يشير إليهم فيسيرون خلفه، فهؤلاء قوم إبراهيم جحدوا الآيات وجعلوا الآبائية أعلى في نفوسهم من الله، وهؤلاء بنو إسرائيل، خافهم نبي الله زكريا على ميراث النبوة وتأذت منهم مريم الصديقة، ثم هاهم قد أضلهم الشيطان فأشركوا في عبادته بشرًا من خلقه ونسبوه إليه ظلمًا وجهلاً. وكذلك أهل الصد والتكذيب لرسالة الإسلام الخاتمة، وذلك الخلف الذين أضاعوا الصلاة، قطعوا ما يجعل للقلب حياة ويخرجه من ظلمة مادية الأرض وشهواتها إلى أنوار الصلة، والقربى، وصلاح النفس والحياة. فكان جزائهم قطع في الآخرة عن كل خير فهم في واد الخسران والهلاك يلقون جزاء غيهم.
ولأن السورة سورة رحمات، فإنها تعرض لمشاهد الأخذ والنزع بقوة والجثو على الركب وغياب النصير والقدوم فردًا وعرض سجلات الأعمال والحشر إلى النار، مشاهد تفزع القلب اليقظ، وتجعله يفر هربًا.. لكن أين يفر القلب إذا انتبه واهتدى؟ يفر إلى وعد الرحمن للمؤمنين وللتائبين الصادقين، يفر إلى الرزق الدائم بالجنات بعدما قايض الفاني بالباقي وترك الأثاث والرياش لأولياء الشيطان يُستدرجون به. يفر من وسوسة وأز الشياطين إلى سلام أهل الجنان بعدما استبدل لغوا المعرضين بالباقيات الصالحات. فالأبواب مفتحة مشرعة إلى الرحمن، يقبل من عاد ويعلّم من جهل ويهدي من أراد، فما أوسعها من رحمات لا تليق إلا بهذا الرب العظيم الذي قد عرف قدره كل شيء سوى هذا الإنسان المتمرد، فسبحته مخلوقاته ونزهته عن أن يكون له شريك أو ولد، بل كاد أن تنفلق وتنشق من وطأة الدعوى.
وبينما بساط السورة كان على امتداده يرفع ذكر عباد الله، الذين رفعتهم عبودية الصدق والإخلاص حتى جعلتهم وفدًا مكرمًا يلج الجنان، فإن وردوا جهنم يُطوى ذكرهم، تُخسف مكانتهم التي قايضوا بها الإيمان، ولا تنفعهم عشيرة ولا جند ولا صحبة، فهم أهل الخسارة والبوار.
تلك الملامح السريعة من السورة وتلك الحروف الخجلى لم تفعل شيئًا إلا أن تدعوك إلى العيش في أجواء السورة والتنعم بظلالها التي تمنح القلب سكونًا وأمنًا وحبًا. وتمنحه دروسًا لا تنفد ومعالماً تتابع وأسرارًا في النفس وفي القرب وفي عيش الحياة وفي الوصول إلى الرحمن، حتى لكأن السورة الواحدة تكفيك! وذلك إعجاز كلام الله وتلك بعض أنواره التي لا نكاد نحس منها شيئًا من شدة ذلك الحاجز الذي أقمناه على القلوب فحال بينها وبين استقبال النور وأشعته الصافية. فالسورة الكريمة لا يكفيها ذلك العرض الموجز، وإنما ندعوك به لتتعرف عليها وتأخذ منها ما ينفعك ويزيد من إقبالك على كلمات الله تلاوة وفهمًا وعملاً.