حقيقة العبودية

انتهينا في المقال السابق أنه لابد للكون من خـالق يُعبد. ولأن الله تعالى لم يخلقنا عبثًا حاشاه ” أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ” فلم يتركنا هكذا نصل أو لا نصل ثم إن وصلنا فلا نعرف كيف نتوجه إليه بالعبادة.. فأرسل إلينا رُسـلًا تعلمنا  كيف نعبد خالق الكون ومدبر أمورنا “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ“. ولهذا لما جاء رجل في فترة من الرسل أي لا رُسل فيها وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن عمرو بن نُفيل والد سعيد بن زيد. آمن أن الأصنام باطل، واليهودية حُرِفت، وكذلك النصرانية فناجى ربه قائلًا: يارب، لا أعرف على أي وجه أعبدك في علاك، اللهم لو كنت أعلم على أي وجه أعبدك لعبدتك. فكان سعيد بن زيديسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ءاستفغر لأبي يا رسول الله؟

فيقول صلى الله عليهوسلم: نعم استغفر، يرحم الله زيد بن عمرو إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده؛  لأنه كان يبحث عن الحق و أشهد ربه بإنكاره الباطل. توالى الرُسل وتتابعوا واختلفت أقوامهم، واختلفت بحسب هذا الوصايا والتعاليم، لكن رسـالة التوحيد والعبودية ظلت ثابتة من أمة إلى أمة، ومن رسول إلى آخر، بل إن كل رسول يأتي مؤكدًا كلام من سبقه. وسبحان الله.. تجد القرآن الكريم يقول: “كذبت عادٌ المرسلين” رغم أن رسولهم واحد، لكن لأن رسـالة الله واحدة فكل من كذب بنبي فقد كذب برسالة النبيين جميعهم .

اقرأ أيضا: الصلاة ري الإيمان

العبودية:

ذلك المعنى الشـامل، ليس الصلاة والصوم والمكوث في المسجد، بل ذلك المعنى الواسع:

أن أكون عبدًا لله جل في علاه، أي أكون كما قال سيدنا إبراهيم عليه السلام: “قل إن صلاتي ونسكي ومحيياي ومماتي لله رب العالمين”

أي تنظر في كل أمور حياتك وتراجعها، هل تقوم وفق أمر الله سبحانه وتعالى  أم وفق الأهواء والموضة ورغبات النفس؟

نكون كما أسمانا إبراهيم عليه السـلام “هو سماكم المسلمين من قبل” أي مستسلمين لأمر الله سبحانه منقادين له.

وإن هذا ليس دعوة لعدم التفكير وإعمال العقل،بل إن أول آية نزلت كانت “اقرأ” لكن.. الثقة بالله والانقياد له سبحانه وتعالى بداية، يدفعك إلى التفكير السليم فتصل، بغير هذا يسهل أن يتبع المرء هواه فيضل.

عبدٌ لله سبحانه وتعالي أي أن الله يرى دواخلي، يسمع كلماتي، مطلعٌ على كل أعمالي..فأتذكر هذا دومًا لأحسن دواخلي وأخلاقي وأفعالي فتليقُ بعبدٍ للملك سبحانه وتعالى. عبد لله سبحانه وتعالى أي أني ملكٌ له وكل ما أملكه ملكٌ لله سيرى كيف أتصرف فيه ويحاسبني على هذا، ولا أنسى كلمة الفتاة الفرنسية التي أسلمت وقالت وهي تبكي كثيرًا:

 لما أسلمت.. أحسست أني أمة الله

فكيف تكون عبدًا لله عز وجل، وتكون أنت نفسك ملك له، ثم تجعل لغير الله عليك سلطانًا، بل تجعل سلطان الهوى فوق سلطان الله عز وجل؛ فتطيع أمرًا لحاكم أو والد أو معلمٍ هو يخالف أوامر الله جل جلاله؟!  إن العبودية لله تحررك من كل القيود، فلا المعصية تقيدك، ولا الهوى، ولا أي أحدٍ ممن له سلطان عليك، فسلطانه يقف عند حدود أوامر الله سبحانه وتعالى فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. واسأل نفسك أيهما أشـرف منزلة، أن تكون عبدًا لله أم للمعصية أو الهوى أو بشر مثلنا ؟!

حين يذكر الله الأنبياء عليهم السـلام في موضع التشريف يقول أنهم عباد الله.. وانظر إلى قول نبي الله عيسى عليه السلام: “إني عبد الله آتني الكتاب وجعلني نبيًا”

وتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اقترب من الالتحاق بالرفيق الأعلى إذ يقول:لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا ” عبد ” فقولوا “عبد الله” ورسوله.

هي منزلة رفيعة، لا ندركها إلا بالاستسلام لله، والالتزام بكل أوامره واجتناب نواهيه سبحانه وتعالى حتى إن لم ندرك حكمتها. فإنك لا تصلي بالأساس لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، بل طاعة من عبدٍ لخالقه ومولاه، وهكذا في كل أمورنا من برٍ بالوالدين أو إحسـان للآخرين وكذا الجهاد في سبيل الله، ونشر دين الإسـلام. إن العبودية لله تكتمل بالحب لتام والذل التام له سبحانه وتعالى، ذلك يدفعك إلى حب من أحب الله ومعاداة وبغض من عادى الله سبحانه وتعالى..

اقرأ أيضا: إن الله لا يغفر أن يشرك به!

ألا تُشرك مع الله غيره:

إن هذا لا يقتصر على الأصنام  المرئية فحسب، بل إن هناك الكثير من الأصنام نحتاج أن نحذر منها وهدمها، فإن الطاغوت الذي أمرنا باجتنابه، هو كل ما يُعبد من دون الله عز وجل. بهذا تستطيع أن تعمل العمل موقنًا إنك ما إن نويت وبدأت فإن أجرك على الله وحده، لا تنتظر الإعجاب والثناء في عيون الناس أو كلماتهم. تستطيع بهداية الله وحده ألا تعمل عملًا ثم تحدثك نفسك أن يا ليت فلان كان هنا .. تقدر بعون الله أن تتخلص من شوائب يزينها الشيطان.

ثم إنه من سوء الأدب مع الله عز وجل أنه وحده يملك كل أمورنا، ورزقنا ثم نحن نتوجه بالعبادة لغيره أو نشرك معه غيره.

ويقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: (الطاغوت كلُّ ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاعٍ؛ فطاغوتُ كلِّ قومٍ مَنْ يتحاكمون إليه غيرَ الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعةٌ لله)

إن المرء حين يقبل أمرًا منكرًا في عمله لأجل الرزق، فهو هكذا لم يؤمن حق الإيمان أن الله يتكفل برزقه فعلًا بل اعتمد كل الاعتماد على عمله ومدير عمله. لا أدعو للجلوس بغير عمل ثم سيهبط الرزق من السماء، لا فهذا تواكل في غير محله. لكن، ألا تطيع مخلوقًا في معصية الخالق الذي يتكفل بكل أمرك. كذا الأمر حين تتبرج الفتاة تاركة شـرع الله ظنًا أن هذا طريق الزواج! كلا فتاتي فالأمر رزقٌ من الله سبحانه. وأحب هذا المثال كثيرًا : إن رزقنا مكفول ومكتوب فحين يسرق أحدهم اليوم مبلغًا من النقود كان هو رزقه المكتوب فعلًا، وأمامه طريقان يحصل بهما عليه،  طريقٌ حلال، وطريقٌ حرام..فاختار الطريق الذي لا يحبه الله!

التعلق بالأسباب:

وهنا الله يعلمنا، فتجد كثيرٌ ممن منّ الله عليهم بالخروج من المعتقلات يرون أنه حين تتعلق قلوبهم بأهليهم أو القاضي فإنهم يتأخرون في المكوث، الله يعلمنا أن الأمور بيده وحده لا شريك له.

وأخطر ما في هذا الأمر، أنه لو تزاحم في قلبك غير الله في عملٍ من أعمالك فإن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشِرك. في الحديث القدسي: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : قال الله تبارك وتعالى : ” أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ” رواه مسلم

وفي المقابل: “منْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بالله شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّار» (رواه مسلم)

لفتات من هدي القرآن وأخلاق المرسلين:

في سـورة الإخلاص: ” الله الصمد” أي أن الله هـو المقصود، نتوجه له وحده سبحانه وتعالى. آيةٌ إذا صحبناها ربما تكون سببًا في إحياء قلوبنا.

سيدنا إبراهيم عليه السلام: 

لما صدر أمرهم بإلقائه في النار ، في تلك اللحظة جاء جبريل عليه السلام ووقف عند رأس إبراهيم عليه السلام وسأله: يا إبراهيم .. ألك حاجة ؟
قال إبراهيم عليه السلام : أما إليك فلا

وقال حسبي الله ونعم الوكيل، فجعل الله النار بردًا وسـلامًا. حتى في لحظات الضعف التي قد يلجأ فيها امرء لأول ما يصادفه، لكنه أمة قانتًا لله، فاللهم علمنـا صدق اللجوء إليك.

سيدنا زكريا:

” كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) 

سيدنا زكريا عليه السلام لما وجد فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، تعجب. فقالت السيدة مريم: هو من عند الله. لما لمس قدرة الله عز وجل في هذه اللحظة دعا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة”

لم يتوجه للسيدة مريم، بل لله عز وجل هو وحده الرزاق.

راقبوا قلوبكم لتعمل بـ لا إله إلا الله كي تخرج من أفواهنـا بصدق.. كي يكون عليها ختامنا. فاللهم أحينا ما أحييتنا موحدين، وأمتنا على التوحيد واجعل خير أيامنا يوم لقاك، وخير أعمالنا خواتمهـا.

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى