فاستقم كما أُمرت.. الاستقامة في زمن الاعوجاج
ومن أبواب الكتاب المؤثِّرة النافعة باب قصير جدًّا يتعدَّى قليلاً نصف الصَّفحة سمَّاه الإمام النووي باب في الاستقامة. وليستْ القيمة بالحيِّز تُقدَّر، بل بالصحَّة والقوة والنفع والتأثير. وعلى هذه المعايير فباب النووي من أنفع الأبواب، غير كونه بابًا رئيسًا أيْ يتناول موضوعًا حاكِمًا في الدين، وهو مبدأ الاستقامة.
تعريف الإمام النووي للاستقامة
وفي هذا الباب نجد الإمام ينقل تعريف العُلماء لها، يقول: “معنى الاستقامة لُزومُ طاعة الله تعالى”. ومعنى كلمة لُزُوم هُنا التزام أيْ الالتزام الثابت والمستمرّ لطاعة الله -تعالى- في كلّ أحوال الإنسان. ولعلَّنا نكتشف محوريَّة مبدأ الاستقامة في الدين؛ فالاستقامة على طاعة الله هي التعبير الكامل للتسليم لله، وهي التطبيق السليم لمبدأ العبوديَّة. فكيف يُقال إنَّك عبد لله وأنتَ غير مُستقيم على طاعته؟! وكيف تُوصف بعبوديَّة إله حكيم وأنت تخالف أمره أو تطبقه فقط فيما تهوى؟!
ولهذا المعنى الكامن وراء مبدأ الاستقامة أكمل النووي ليصفها قائلاً: “وهي من جوامع الكَلِم، وهي نظام الأمور”. والمقصود بجوامع الكَلِم في البلاغة هي الكلمات القليلة أو الكلمة التي تتضمَّن الكثير من المعاني الشريفة.
وها نحن نراه يصف الاستقامة بأنَّها نظام الأمور؛ أيْ بها تنتظم أمور المُسلم في حياته، وبها تصير حياةُ فردٍ حياةَ مُسلِمٍ. فليستْ حياتُك تُسمَّى حياة مُسلِم لأنَّ وصفك أنَّك مُسلم يا عبد الله، بل لأنَّك جعلتَ الإسلام نُصبَ عينَيْك في كلّ فعلك. وساعتَها تُوصف حياتك بأنَّها حياة مُسلِم.
استقِمْ في زمن الفتنة
ونسمع وصيَّة الدين بالتزام مبدأ الاستقامة فنشعر أنَّه يُحدِّثنا عن زماننا هذا. فأَوْلَى الأزمان بالتزامِك بقِيَم دينك هي أزمان الفِتَن؛ وها أنتَ يا عبد الله ترى الفتن تتضافر علينا من كلّ حدب وصوب، وها نحن قد عشنا حتى نرى الإسلام يُهاجَم في عُقر داره مِمَّن يدَّعون الإسلام، وها قد رأينا مصادر الإسلام الرئيسة تتداعى عليها النفوس الخبيثة تريد أنْ تقوِّضها وتهدمها وتُسقطها من نفوس المُسلمين، وها قد رأينا الجُرأة على دين الله جهارًا نهارًا بلا تورُّع، وها قد شهدنا مَن ينفق ماله حتى النفاد ليصُدَّ عن دين الله ويُلهي أهل الحقّ عن حقِّهم.
وليستْ هذه الأمارات والعلامات دلالة يأس تُبَثُّ في نفسك يا عبد الله، بل هي علامات بدء في سلك الاستقامة. ودائمًا انظُر إلى أيّ اعوجاج في صورة دعوة لك للاستقامة، فباستقامتك دومًا تعتدل الكِفَّة. ولعلَّك تتذكَّر في دُنياك أنْ ليس عليك هُدى أحد، بل عليك أنْ تستقيم مع الهُدى، وتذكَّر إذا وهنتَ أو ضعفتَ هذه الآية الكريمة التي تفتح لنا النور في عالَم الظُّلمات الحالكات يُطمئنك فيها الله -تعالى- على مصير مسيرتك متى استقمتَ، مهما ضلَّ مَن حولك أو دعوك للضلال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) -المائدة 105-.
دلالة أمر الله العباد بالاستقامة
ولعلَّنا هُنا نلحظ لهذا المبدأ “الاستقامة” دلالات جانبيَّة تشير لها لفظة الاستقامة نفسها فوق معناه الأصيل. وأوجز أهمّ الدلالات في الآتي:
- طريق الإسلام صريح واضح لا مواربة فيه.
- يُسر تطبيق طريق الإسلام؛ فما عليك إلا الاستقامة عليه.
- تشير اللفظة على أنَّ ما دونه من أنظمة أو أديان هو اعوجاج.
معنى استقم كما أمرت
ومن أعظم شروط مبدأ الاستقامة هذا الشرط الذي تضمَّنته الآية الكريمة (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) -هود 112-. فالله لمْ يأمر عباده بالاستقامة محضَ أمر دون تفصيل، بل أبان لهم طريقهم في الاستقامة. وربطه ربطًا جازمًا بما أمَرَ وقرَّرَ وشرَعَ ووصَفَ من عبادات وصالحات وخيرات. ومنع الشرع الحنيف أيَّة إضافة من أيَّة جهة في أمور الدين فوق ما شرع؛ فليس في الإسلام:
- استحداث فعل تعبُّديّ؛ فليس هناك مَن يستحدث صلاةً مثلاً، ولا صيامًا.
- استحداث أمور من الخير -غير المُحدَّد الكمّ أو الكيف- الذي أمر به الشرع. كفروع الصدقة أو الأذكار أو الأدعية يكون مُنافيًا لما يعلوه درجةً في سُلَّم الشرع. كأنْ يستحدث ذكرًا أو دُعاء به كفر أو شِرك، وكالتصدُّق بما ليس حلالاً.
- وكما يحرمُ الاستحداث يُحرمُ أيضًا تعطيلُ فعل الشرع؛ فليس لأحد كائنًا مَن كان أنْ يعطِّل الفرائض -لا يدخل هُنا حالات عدم الاستطاعة، بل المقصود التعطيل العَمديّ- كما فعل بعض الصُوفيَّة حين قالوا إنَّ الوصول لحال مُعيَّنة مع الله تُسقِطُ التكاليفَ والفرائض. وهذا محض افتراء على الله ومُخالفة لأمره في مبدأ الاستقامة.
مبدأ الاستقامة الدرع الحامية من البدع
وعلى السابق نعرف فلسفة مبدأ “الاستقامة” في الإسلام؛ حيث هو الدرع الحامية من البدع، وهي الصادُّ في مواجهة الانحدار لأفعال الأُمم الأخرى التي أدانها الإسلامُ وقرآنُه، مثل قوله (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّه) -البقرة 79-.
فليس في الإسلام ما نرى في دين آخر حيث كلَّ عصر يُضاف إليه من قِبَل كهنته شعائرُ من صوم وصلاة ترتبط بقدِّيسِيْهِم وصالحيهم، والبشر يُقرِّرون أمر عبادتهم. وفي هذا جاء الحديث الشهير “إيَّاكم ومُحدَثات الأمور”، وإذا سمعتَ تحذير النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فاحذر من كلّ بدعة في الدين، واستقم كما أُمرتَ لا كما تهوى.
الوصيَّة التي لا يُسأل فيها إلا لرسول الله
أتى النووي بحديث جاء فيه:
قلتُ: يا رسولَ الله، قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك. قال: قُلْ آمنتُ بالله ثمَّ استقم.
فلتتصوَّر يا عبد الله الصالح أنَّ الوصيَّة التي يوصيها النبيّ ولا يقدر أحدٌ أنْ يعرفها ويوصي بها غيره هو الاستقامة التي تفعلها في حياتك متى قرَّرت.
لماذا جمعت المصادر الاستقامة بالإيمان بالله؟
ولعلَّ الحديث السابق وآيتان سيأتيانِ بعدُ تطرح في أنظارنا سؤالاً هامًّا: لماذا جمعتْ المصادر بين الإيمان بالله وبين مبدأ الاستقامة؟ ولعلَّ الإجابة تتضح بعد فهمنا لمبدأ الاستقامة وطبيعة الإيمان؛ فإنَّ الإيمان تصديق في القلب يحتاج إلى تفعيل.
وصُلب تفعيل الإيمان بالله في دُنياك أنْ تستقيم على مُقتضى هذا الإيمان بالله؛ فتلتزم ما رسمه لك من طريق في دُنياك، وتطبِّق ما فرضه عليك، وتبتعد عمَّا نهاك عنه.
والإيمان دون الاستقامة يبقى مُجرَّد فكرة غير داخلة في حيِّز التطبيق. واسأل نفسك: هل يُحبُّ أحدٌ أحدًا ويضرُّه؟ هل يودُّ أحدٌ أحدًا ويُناصبه العداء؟ فكلا الحبّ والمودَّة يقتضي أفعالاً دون أفعال.
وكذا الإيمان يقتضي أنْ تفعل شيئًا دون شيء، وأنْ تسير في طريق دون آخر. وهُنا نتذكَّر آيات كثيرة جاءت في هذا المعنى لكنْ بدَّلتْ الاستقامة بالعمل الصالح منها (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) -الرعد 29-.
جزاء الاستقامة
وقد أورد الإمام النووي آيتَيْن تُبشِّران المُطبِّقِين لمبدأ الاستقامة في حياتهم. أوَّلهما الآية الكريمة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) -فُصِّلت 30-.
والأخرى في الأحقاف رقم 13:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
ولعلَّك تلحظ في كلمة “إنَّ الذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا” إحساسَ الشَّمَم والرِّفعة والصَّدع بالحقّ من طائفة أعلنت أنَّها استقامتْ في طريق الحقّ. ذاك الطريق الوحيد المُستحقّ بالاستقامَة عليه يا عبد الله الصالح.