صبرا وشاتيلا: المجزرة على لسان أحد الناجين
صارت كلمة «الإرهاب» تلوكها الألسن وتصوغها الأفكار، وبرع الجلادون في توظيفها أحسن التوظيف، بل وحصروها في منطقة الشرق الإسلامي، وبالإسلاميين تحديدًا، وعملت روافد إعلامهم الجبارة على إيهامنا أننا إرهابيون، وأنهم هم الأبرياء وأصحاب مواثيق حقوق الإنسان والأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية. وعملوا أيضا على التلاعب بذاكرة الأمة المسلمة، وطمس تاريخهم الدموي. حتى باتت مجازر الغرب نسيًا منسيًا.
فإذا جاء ذكرها مروا عليها مرور الكرام، لكن الخطير أننا أيضًا جهلنا هذا التاريخ الدموي، مما يتحتم علينا رصده وتدوينه وتذكير الأجيال به دومًا، لكيلا تهتز ثقتنا بأنفسنا، ونعلم علم اليقين من هو الإرهابي الحقيقي، وحتى لو وجد فينا بعض الإرهاب فإنما هو ردٌ على تاريخهم الأليم وتصرفاتهم الوحشية.
ماهر مرعي يروي أحداث المجزرة
هذا ما رواه ماهر مرعي أحد الناجين من المجزرة -صبرا وشاتيلا- وهو يصف ما حدث ليلة السادس عشر من أيلول 1982، قال:
“رأيت الجثث، أمام الملجأ مربوطة بالحبال لكني لم أفهم، عدت إلى البيت لأخبر عائلتي، لم يخطر في بالنا أنها مجزرة، فنحن لم نسمع إطلاق رصاص، أذكر أني رأيت كواتم صوت مرمية قرب الجثث هنا وهناك، ولكني لم أدرك سبب وجودها إلا بعد انتهاء المجزرة. كواتم الصوت “تتفندق” بعد وقت قصير من استخدامها، ولذا يرمونها. بقينا في البيت ولم نهرب حتى بعد أن أحسسنا أن شيئا مريبا يحدث في المخيم.
رفض والدي المغادرة بسبب جارة أتت للمبيت عندنا، وكانت أول مرة تدخل بيتنا. زوجها خرج مع المقاتلين على متن إحدى البواخر ولم يكن لديها أحد، فقال أبى: لا يجوز أن نتركها ونرحل. كان اسمها ليلى. كانت الجثث التي رأيتها أمام الملجأ لرجال فقط. ظننا أنا ووالدي أن الملجأ كان مكتظا فخرج الرجال ليفسحوا المجال للنساء والأطفال بالمبيت وأخذ راحتهم، فماتوا بالقصف.
كنت ذاهبا يومها لإحضار صديقة لنا -كانت تعمل مع والدي-تبيت في الملجأ. كانت تدعى ميسر. لم يكن لها أحد هي الأخرى. كان أهلها في صور. أراد أبى أن يحضرها لتبيت عندنا. قتلت في المجزرة مع النساء والأطفال. رأيت جثتها فيما بعد في كاراج أبو جمال الذي كان الكَتائبيون يضعون فيه عشرات الجثث، بل المئات. كان المشهد لا يوصف !!! عندما دخل “الإسرائيليون” إلى بيروت الغربية كنا نعتقد أن أقصي ما قد يفعلونه بنا هو الاعتقال وتدمير بيوتنا، كما فعلوا في صور وصيدا وباقي الأراضي التي احتلوها.
أذكر أنى ذهبت صباح يوم المجزرة -وكان يوم الخميس في 16 أيلول-مع مجموعة كبيرة من النساء والأطفال لإحضار الخبز من منطقة الأوزاعي سيرًا على الأقدام (كان عمري 14 عاما). كنا “مقطوعين” من الخبز وليس لدينا ما نأكله. رفض أصحاب الأفران يومها أن يبيعونا، كان الخبز متوفرًا ويبيعونه إلى اللبنانيين فقط مع أنه كان متوفرا بكثرة.
عدنا إلى المخيم فلم نستطع الدخول، إذ كانت الطرقات المؤدية إلى المخيم جميعها مقطوعة، وكان “الإسرائيليون” يقنصون من السفارة الكويتية باتجاه مدخل المخيم الجنوبي.
عند تقاطع هذا المدخل وبئر حسن، كان هنالك قسطل مياه مكسور، وكان أهالي المخيم يعبئون منه الماء رغم القنص. رأيت عند قسطل المياه إسرائيليًا من أصل يمني يقتل فتاتين فلسطينيتين، لأنهما وبختا فلسطينيًا أرشد “الإسرائيلي” إلى الطريق التي هرب منها أحد الذين يطاردونهم، هكذا قالت أم الفتاتين التي كانت معهما وهربت عند بدء إطلاق الرصاص. حاول أهل المخيم سحب الفتاتين فقتل رجلان وهما يحملان جثتيهما –قنصهما الإسرائيليون من السفارة -ثم ما لبث أهل المخيم أن سحبوهما بالحبال.
يومها رأيت آرئيل شارون في هليكوبتر أمام السفارة، أحسست أنه قائد إسرائيلي كبير، لم أكن أعرف من هو إلا بعد أن رأيته على شاشات التلفزيون بعد انتشار أخبار المجزرة.
تمكنا بعد ذلك من العودة إلى المخيم في المساء كانت القذائف المضيئة تملا سماء المخيم، هنا، بدأ صوت ماهر يرتجف عندما أخذ يخبرني ما حصل في بيتهم تلك الليلة -أي الخميس وهو أول يوم في المجزرة.
قال ماهر:
“عندما أخبرت والدي عن الجثث، طلب منا أن نلزم الهدوء وألا نصدر أي صوت، تتألف عائلتنا من 12 شخصًا، ستة صبيان وأربع بنات وأبى وأمي. كان أخواي محمد وأحمد خارج البيت وهما أكبر مني سنًا. الباقون كانوا في البيت وكانت جارتنا ليلى عندنا. قرابة الفجر، صعدت أختي إلى السطح مع ليلى كي تطمئن على بيتها. كان النعاس قد غلبنا أنا وأبى -إذ بقينا ساهرين ننصت إلى ما يجري في الخارج ونسكت أختي الصغيرة التي كانت تبكي من وقت لآخر. لم نشعر بصعود ليلى وأختي إلا عندما نزلا.
كانتا خائفتين فقد رآهما المسلحون. ما هي إلا لحظات حتى بدأنا نسمع طرقا عنيفا على الباب. عندما فتحنا لهم أخذوا يشتموننا وأخرجونا من البيت ووضعونا صفا أمام الحائط يريدون قتلنا.
أرادوا إبعاد ليلى إذ ظنوا أنها لبنانية لأنها شقراء، وأبعدوا أختي الصغيرة معها لأنها شقراء هي الأخرى وظنوا أنها ابنة ليلى! رفضت ليلى تركنا، أخذت أختي تصرخ وتمد يديها إلى أمي تريد الذهاب معها، كان عمرها أقل من سنتين وكانت ما تزال تحبو، في تلك اللحظة، كان جارنا حسن الشايب يحاول الهرب خلسة من منزله، فأصدر صوتا وضجة أخافتهم.
كان هناك شاب من بيت المقداد يطاردهم ويطلق عليهم النار ويختبئ، كان اسمه يوسف، لمحته تلك الليلة عدة مرات، اعتقد أنهم ظنوا في تلك اللحظة أن الضجة صادرة عنه، لذا أدخلونا إلى البيت وهم يكيلون لنا الشتائم، طلبوا من والدي بطاقة هويته، وما أن أدار ظهره ليحضرها حتى انهال الرصاص علينا جميعا كالمطر لم أعرف كيف وصلت إلى المرحاض واختبأت فيه وفي طريقي إلى المرحاض وجدت أخي الأصغر إسماعيل فأخذته معي وأقفلت فمه. رأيت من طرف باب المرحاض كل عائلتي مرمية على الأرض، ما عدا أختي الصغيرة.
كانت تصرخ وتحبو باتجاه أمي وأختي، وما أن وصلت بينهما حتى أطلقوا على رأسها الرصاص فتطاير دماغها وماتت. إسماعيل وأنا لم نتحرك.
لزمنا الصمت فترة. لم أعد أستطيع التنفس، فحاولت بلع ريقي لاستعادة تنفسي وكنت مترددا في فعل ذلك. إذ كنت -عادة-أصدر صوتا عندما أبلع ريقي، وخفت أن يسمعوا الصوت ويأتوا لقتلي. وبالفعل، عندما فعلت كان صوت البلع مسموعا من شدة السكون الذي سطر على البيت لكنهم لم يسمعوني، فقد خرجوا بعد أن نفذوا جريمتهم.
كان كل شيء ساكنا، أمسكت الباب كي لا يتحرك لأنه كان يصر -في العادة-صريرا. خفت أن يسمعوه فيعودوا ورحت أحركه ببطء شديد. كما اعتقدت أنهم ربما لاحظوا غيابي وأنهم سيعودون لقتلي. لذا انتظرت بعض الوقت، وعندما تيقنت من خروجهم وعدم عودتهم خرجت من المرحاض وأبقيت إسماعيل فيه.
بدأت أتفقد عائلتي. والدتي تظاهرت بداية بالموت وكذلك أختاي نهاد وسعاد، ظنًا منهما أنى كتائبي. ولكن، والدي وباقي إخوتي “الخمسة” وليلى كانوا جميعا أمواتًا، كانت أمي مصابة بعدة طلقات وكذلك نهاد وسعاد. أمي ونهاد تمكنتا من الهروب معي وإسماعيل، بينما سعاد لم تستطع لأن الطلقات أصابت حوضها وشلت.
تركناها وخرجنا لإحضار الإسعاف -يا لسذاجتنا-ولم نكن نعرف ماذا ينتظرنا في الخارج، الذين دخلوا إلى بيتنا كانوا خليطًا من القوات اللبنانية وقوات سعد حداد، إذ كان بينهم مسلمون ولا يوجد مسلمون إلا مع سعد حداد. عرفنا أنهم مسلمون من مناداتهم لبعضهم. كان بينهم من يدعى عباس وآخر يدعى محمود. بعد خروجنا من البيت تهنا عن بعضنا البعض. بقيت أنا وإسماعيل معا، وأخذوا يلاحقوننا من مكان لآخر.
أخذت أنبه الناس لما يجري، فكثيرون كانوا ما يزالون في بيوتهم، يشربون الشاي ولا يدرون بشيء. اختبأنا في مخزن طحين ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أمرنا فهربنا مجددا. أطلقوا الرصاص علينا، هربت وعلق إسماعيل ولم يجرؤ على عبور الشارع كان في الثامنة من عمره، عدت إليه وأمسكت بيده وهربنا معا. ثم ما لبثنا أن وجدنا جمعًا حاشدًا من النساء والأطفال كانوا يجرونهم إلى المدينة الرياضية حيث يتمركز “الإسرائيليون” فانضممنا إليهم.