الأنظمة الحاكمة بين القيمة والسلوك!

(النظام یقتل، النظام یعتقل، النظام یقمع، النظام لا یحترم أصوات الشعب) هكذا تتنوع اتهامات المعارضة في بلادنا للنظام، لا شك أن سلوك النظام من قتل واعتقال وقمع وغیره كفیل بفضحه أمام الشعب، إلا أن الحقیقة المرة أثبتت أن تغییر الوجوه لا یكفي لتغییر هذا السلوك، كما أن النظام أعمق بكثیر من حصره في هذه الظواهر السلوكیة.

إن النظام بأشخاصه ومؤسساته وسیاساته ودستوره هذه، وقوانینه وممارساته إنما هو نتاج منظومة قیم ثابتة values system تقوم علیها الدولة، المنظومة القیمیة لأنظمة بلادنا هي صنیعة عقود من التجریف والاحتلال والتبعیة، ونقصد بمنظومة القیم تلك الثوابت السیاسیة العامة والتي لا یمكن تغییرها بتغییر الوجوه فقط ولن تتغیر حتى بتغییر الدستور، كما رأینا بعد “الثورات” الأخیرة، والنظام العالمي یحرص على بقاء هذه المنظومة القیمیة في بلادنا كما هي، لأن في بقائها بقاء مصالحه، ولذلك لا یأتي رئیس إلا بعد أن یتعهد بحمایتها والإبقاء علیها، وقد أطلقنا علیها اسم منظومة (الهیمنة).

حماية المنظومة

إن القیم السیاسیة والاقتصادیة والعسكریة والثقافیة التي تقوم علیها بلادنا الیوم إنما هي صنیعة الخارج، والمؤسسات العسكریة الموجودة الآن في كل بلد من بلادنا إنما دورها الرئیسي بوضوح تام هو حمایة تلك المنظومة القیمیة بقوة السلاح والإبقاء علیها بلا تغییر، هذه المنظومة القیمیة یأخذ بعضها شكل الاتفاقیات وبعضها یكون فقط بتهدید السلاح العالمي، وكثیر منها یجود بها رجال النظام بأنفسهم حفظًا لمصالحهم الذاتیة وكراسیهم.

إن كل نظام من أنظمة بلادنا قد تم تشكیل منظومته القیمیة بصورة مستقلة، فالنظام في تونس تم تشكیل قیمه بصورة تختلف عن النظام السعودي، وكذلك للنظام المصري منظومة قیم أخرى، هذا بالرغم من وجود ثوابت مشتركة بین جمیع هذه الأنظمة وضعها الاحتلال الحدیث (النظام العالمي) الأنظمة في دول الخلیج مثلًا لكونها المصدر الأول للنفط في العالم كان یجب أن تتسع منظومتها القیمیة لوجود قواعد أمریكیة ضخمة على أراضیها ووجود علاقات استراتیجیة عمیقة جدًا معها.

ومصر لكونها أخطر الدول العربیة على إسرائیل كان یجب أن تتسع منظومة قیمها لما یحفظ أمن إسرائیل لعقود ویفصل مصر تمامًا عن معاداتها والصراع معها، وتم هذا عبر اتفاقیة كامب دیفید، هذه الاتفاقیة التي عبثت بمنظومة القیم المصریة بالفعل حتى أنتجت نظامًا سیاسیًا عبارة عن مسخ حقیقي فاقد الإرادة والعزة والهویة، لا یستطیع أن یجعل أمنه القومي ومصلحة شعبه أولویة ولا یتمكن من بسط سیادته على كامل أراضیه، إننا لو أردنا أن نسمي النظام المصري اسمًا یعبر عنه حق التعبیر فلیس هناك أصح من تسمیته (نظام كامب دیفید)، ولذلك كلما تبدلت الوجوه السیاسیة الحاكمة لمصر یتجدد التأكید على احترام مصر لمعاهداتها وعلى رأسها كامب دیفید، أي التأكید على أن النظام بمنظومته القیمیة كما هو ولن یتغیر فاطمئنوا یا غرب!

اتفاقیة كامب دیفید -والتي مازال یُخفى معظم بنودها- لا تعني عدم الحرب مع إسرائیل كما یظن الكثیر بل هي اتفاقیة رسمت أجزاء كثیرة من شكل النظام وسیاساته الخارجیة والعسكریة حتى قال بعض الخبراء أن الدستور المصري سیظل حبرًا على ورق لأن الدستور الحقیقي الذي یحكم مصر هو كامب دیفید!

جاءت كامب دیفید لتكون حلقة في سلسلة طویلة من تغییر القیم السیاسیة للنظام الحاكم في مصر، فتغییر القیم السیاسیة في مصر قدیم قدم الحملة الفرنسیة ثم ما كان من الاحتلال الإنجلیزي وهكذا حتى وصلنا لما نحن علیه الیوم.

إن الاحتلال القدیم لم یخرج من بلادنا إلا بعد أن عبث بالقیم المجتمعیة والسیاسیة وأعاد تشكیلها بالصورة التي تخدم مصالحه، وبعد إعادة تشكیل منظومة القیم في بلادنا لم یعد لدیه الحاجة في البقاء العسكري المكلف إلا عند الضرورة، فكل ما ستفرزه هذه القیم من دساتیر وقوانین ولوائح ومؤسسات وشخصیات على رأس النظام سیكون متوافقًا مع أهداف الخارج حتى ولو أظهروا غیر ذلك، فقد وضع المحتل القضبان التي سیسیر علیها القطار مهما اختلف السائقون، وقد زاد الطین بلة مجيء الاحتلال الحدیث (النظام العالمي الجدید) حیث زادت التبعیة وصارت بلداننا تحت احتلال جدید فرید من نوعه یحكمها الخارج عبر المندوبین الداخلیین، لنرى الیوم أنظمة مشوهة على رأسها أشباه رجال یتحكمون في مصائر شعوب بما یحقق مصالح الدول الكبرى!

وبذلك تعرف أن النظام لیس هو منصب الرئیس، إن الرئاسة ربما هي الحلقة الأضعف في النظام، النظام بالأساس هو منظومة قیم كاملة تحمیها السلطة الثابتة في البلاد، هذه القیم هي ما ینتج عنها كل ما تراه على الأرض، وأحیانًا قد یضحي النظام برأسه احتواء لغضب الجماهیر حتى لا یصل الغضب إلى منظومة القیم، وهذا عین ما فعله المجلس العسكري في مصر عندما ضحى بمبارك.

منظومة القیم لا تتغیر

ومنظومة القیم لا تتغیر في بلد ما مرة واحدة، بل القیم السیاسیة یتم تغییرها عبر سنین بعدما یتم تغییب المجتمع وتشویه القیم بداخله هو نفسه، فالقیم السیاسیة كثیرًا ما تتغیر بالتوازي مع تغییر القیم المجتمعیة، ففي مصر مثلًا: قیمة مثل (سیادة الشرع) هي قیمة تم تشویهها في قلوب الناس قبل أن یقوم النظام المصري في عهد عبد الناصر بإلغاء المحاكم الشرعیة، فإلغاء المحاكم الشرعیة هو سلوك نبع عن تغییر القیم عبر سنین طویلة قضاها الناس تحت الاحتلال الفرنسي والإنجلیزي تم التلاعب فیها بالمحاكم والقضاء إلى أن وصل الناس إلى تقبل فكرة وجود المحاكم المختلطة التي أسسها الاحتلال.

ثم قلّص الاحتلال اختصاصات المحاكم الشرعیة وحصرها في الأحوال الشخصیة، فالاحتلال هو الذي وضع البذرة للمحاكم الیوم وهو الذي شوه قیمة التحاكم للشرع في قلوب الناس، بینما الذي أقدم على “سلوك” إلغاء المحاكم الشرعیة تمامًا كان عبد الناصر، وهكذا كل سلوكیات الأنظمة في بلادنا إنما هي نتاج القیم التي زرعها الاحتلال حتى ولو ادعت هذه الأنظمة أنها مناهضة للاحتلال! وقِس على ذلك كل القیم التي تقوم علیها الأنظمة الیوم مثل: صنمیة الدولة والعلمانیة السیاسیة والرأسمالیة والتبعیة للخارج وتقدیس الحدود التي رسمها الاحتلال، وبالتالي فالتغییر الحقیقي الذي نسعى له هو تغییر كامل لمنظومة القیم الموجودة حالیًا في بلادنا ولیس تغییر السلوك فحسب (راجع مثال الطفل العدواني).

ومنظومة القیم في أي بلد تمثلها وتحمیها السلطة الثابتة كما شرحنا في الفصل السابق، فالسلطة الثابتة مع منظومة القیم هي باختصار ما نعنیه بكلمة (نظام)، والثورة هي عملیة مستمرة لإسقاط النظام وإحلال غیره مكانه، وهو ما يجب علينا أن نعمل لأجله.

اضغط هنا لتحميل كتاب معركة الأحرار كاملًا PDF – الطبعة الثانية

أحمد سمير

ناشط ومهتم بالشأن الإسلامي والعالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى