العمل زمن المستحيل

تمر على المجتمعات البشرية أزمة يعد فيها التطلع إلى الكمالات أو الانعتاق الشامل من القيود الداخلية أو الخارجية أو تحقيق التغيير الكلي الحقيقي… أمرًا مستحيلًا، لا لكونه متعذِّرًا في ذاته، بل للظروف المحيطة المكبلة عن السعي والطموح للإنجاز، أو للبيئة التي تنسج خيوطها لتنتج طبقة من القبول بالواقع، فإذا تربى الفكر الجمعي على اليقين بالواقع، وخاصة في وجود تجارب فاشلة للتغيير، تصبح أي فكرة خارج محددات الواقع فكرة مستحيلة غير واقعية، من ناحية استصعاب حصولها أو أمل تحقيقها، وفي كل زمن كانت فكرة التغيير تمر عبر مراحل إذ تولد في زمن المستحيل؛ الزمن الذي تُنبذ فيه وترفض وتقاوم، وتمر بعد تشبث حامليها بها إلى درجة الممكن، ثم تصل إلى فرضها في الواقع الجديد..

في هذا المقال نحاول مناقشة العمل لتحقيق الأهداف في زمن المستحيل، وليكون الموضوع أكثر «واقعية» سنطرح بعض النماذج التي ولدت في أحد أزمنة المستحيل، وكيف عمل رجال تلك الأزمنة وكيف كان تفكيرهم..

زمن المستحيل بين منظورين

كثيرة هي الظروف التي تصنع القبول بالواقع الفاسد، وبالتالي إحالة ما دونه إلى خانة المستحيل، ومن هذه الظروف: الاحتلال الخارجي الذي يفرض إرادته بالقوة ويضعف إرادة الشعب المحتل، أو الاستبداد الداخلي والاحتلال المحلي الذي يسلب تلك الإرادة وينشر الجهل ويسطو على نبوغ وتطلعات الشعب، أو وجود احتلال خارجي يتستر بمستبد «وطني» وخاصة إذا وجدت «خرافة» ما تغذي شعور القبول بالواقع، وتسبغ عليها لمسة قداسة روحانية، خاصة تلك التي تدعم بقاء الفساد بتحريف معاني ومقاصد النصوص الدينية وتحويلها من جذوة حرية وكرامة إلى سطوة روحية تقدس صانعي الفساد والاستبداد في ذلك الواقع.

وقد رُوي أن عدد من المهتمين بالعلوم في قصر فرعون زمن مصر القديمة، كانوا منشغلين بالتدوين عموما، ومن بين ما دونوه: الأوقات التي تحدث فيها ظواهر طبيعية غير اعتيادية، فلاحظوا -عبر استقراء حركة الشمس والقمر- أن الشمس تتعرض لظاهرة الكسوف ويتعرض القمر لظاهرة الخسوف في موعد متكرر كل فترة زمنية، وعبر تلك الملاحظة أصبحوا يتوقعون الوقت الذي ستحدث فيه هذه الظواهر بحكم تكرارها الدوري الطبيعي، فاستغلوا هذا العلم وهذه المعرفة لإخضاع الناس لخرافات صنعوها والتي ساعدت على تثبيت عرش الفرعون، إذ يطلبون قبل أيام من حدوث تلك الظواهر القرابين والأموال من الناس، لتفادي غضب الشمس أو القمر التي ستغيب، وبسبب قرابينهم سيخف الغضب لكي يعود النور بعد انقطاعه المؤقت، بهذه الطريقة تسلب أموال الفقراء ويبقى فرعون على كرسي الطغيان بمساعدة دجَلة القصر ورهبانه.

في زمن هكذا قد تصبح فكرةُ: «أن للطبيعة قوانين وسننا ثابتة» مستحيلة داخل الفكر الجمعي، للهالة المقدسة التي أحاطها دجَلة فرعون بالظاهرة، وطول عهد الناس بهذه الخرافة، خاصة إذا عاشت أجيال و أجيال تتشكل أفكارهم وتتأسس داخلها، ومثل هذا الحدث وقع في زمن ظلمات أوروبا (التي لم تبرح ظلماتها بعد) إذ تقوم الكنيسة بتكفير كل من يكتشف اكتشافا طبيعيا مخالفا لما قررته في كتبِ دجلها… بالتالي فإن من سيطرح الحقيقة ويعمل على دحر الخرافة سيبدأ هنا في زمن المستحيل ومناخه.

عندما دخل الاحتلال الفرنسي للجزائر، خرج بعض مشايخ الصوفية واعترضوا المجاهدين الذين حملوا أسلحتهم وأرواحهم لدفع العدو الصائل على دين الشعب وأعراضه وأمواله، وقالوا إن فرنسا: قضاءُ الله وقدره، وإنكم بحربها تحاربون قدر الله… بل صنف بعض المتواطئين مع الاحتلال الإيطالي لليبيا شيخ المجاهدين عمر المختار أنه من الخوارج و أهدروا دمه ودماء من معه.. نعم عمر المختار البطل الذي قاوم الطليان ومرغ أنوفهم، والذي كان في أوقات فراغه بين معارك الجهاد يعلم صبيان المسلمين القرآن، أهدروا دمه وحكموا بأنه من المفسدين لأجل عيون إيطاليا… كما أصدر بعض مشايخ السعودية فتوى بوجوب طاعة ولي الأمر المتغلب إثر احتلال أمريكا للعراق سنة 2003، وولي أمرهم هنا هو الأمريكي بول بريمر.. أمريكي! ولي أمر! يا سلام!

في أزمنة كهذه، قد يصل أهل الحق إلى مرحلة يظنون فيها أن ما هم عليه جنون أمام هذا الطغيان، وقد تتسلل فكرة «المستحيل» إلى بعض عزائم المذهولين من هول ما يتعرض له أهل الحق.

وقد مر على المسلمين زمن تصاعدت فيه النظريات والمذاهب المادية، من معسكر شرقي يمثله الاتحاد السوفياتي يتفاخر بالشيوعية والديالكتيكية والاقتصاد الاشتراكي، ومعسكر غربي يتفاخر بالرأسمالية والليبرالية والاقتصاد الرأسمالي، وفي ذروة نشاط المروجين لتلك المذاهب، وانبهار بقية العالم بها، أصبح بعض دعاة الإسلام محاصرين داخل مناخ المستحيل، الذي ألجأهم لقراءة الإسلام داخل المذاهب المادية، فخرجت أطروحة اليسار الإسلامي، والإسلام اليساري، والاشتراكية في الإسلام، وحرية رأس المال في الإسلام والحريات الشخصية في الإسلام…  فمناخ المستحيل قد يلقي بظلاله على رؤية الواقع، ليميل بأصحاب الأفكار لتبريرها تبريرا يرضي سياق الحضارة الغالبة، حتى وإن كانت هذه الحضارة تعادي في قيمها وجوهرها قيم أصحاب تلك الأفكار، لينتج مناخ المستحيل أفكارا هجينة لا يمكن أن تقف بذاتها كما كانت أصولها انطلاقا من منهجها الذاتي في التفكير، بل دائما ما تبحث عن متكأ ترتكز عليه في الوقوف، حتى وإن كان نظريات أعدائها عن الكون والحياة والواقع.

وإذا ذهبنا نعدد مناخ المستحيل والظروف المحيطة به والعاملين على ترسيخه وعدم الخروج عليه ونتائج الخضوع لمحدداته، فلن يكفينا عدد من الكتب، لا مجرد مقال، لكن حسبنا أن يكون في الأمثلة تبصرة لغيرها من النماذج في الواقع… وما أكثرها من نماذج!

بين التحدي والخضوع لمحددات المستحيل

إذن هناك منهجان للتعامل لدى العاملين في زمن المستحيل، إما الخضوع لمحددات المستحيل، أو تحدي المستحيل والعمل خارج محدداته وإحداث الخرق في جدرانه الصماء…

إن الخضوع للمستحيل يعني التطبيع مع الواقع الفاسد، وقبول محددات المستحيل يعني افتراض استحالة الخروج عن تلك المحددات، وافتراض عدم إمكان العمل خارج تلك المحددات، وتقليص الآمال وتحجيمها إلى مستوى متدنٍّ، وهو ما يعمل عليه أهل الباطل بكل قواهم وإمكانياتهم، فالحرب في الأساس حرب إرادة، فلك أن تتخيل ما يمكن أن يحدث إذا سلبوا إرادة أهل الحق وإخضاعهم لتلك المحددات..

فالتغيير لا يمكن أن يحدث في هذه الحالات إلا عن طريق عقلية تخترق محددات المستحيل بواسطة رجال المستحيل، لكن تلك العقلية قد تعترضها ظروف متشابهة في أوقات مختلفة، واجهوها بمنهج متشابه في كل مرة.

إمام رجال المستحيل

إن إمام رجال المستحيل، هو الذي أحدث في مجتمعه بل في الكون كله ذلك التغيير الغامر، فقد بدأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم حاملا للفكرة وللعقيدة وحده، لا يحملها في تلك اللحظة أحد غيره في العالم، وأُمر أن يواجه كل الناس في سبيل تبليغها لكل الناس، بصفته مبعوثا لكل البشر {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ:28]،‏ وهو صلى الله عليه وسلم النواة التي بنيت حولها دعوة الإسلام، وحري بنا أن نستسقي من سيرته العطرة، منهج العمل والأمل في زمن المستحيل.

هاهم أهله وعشيرته يكذبونه عندما أعلن ذلك الإعلان الفارق، إعلانَ التوحيد. لقد كذبوه وقد كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، ورموه بالجنون وقد علموا أنه أحلمهم وأحكمهم.
وها هو ذا المجتمع القرشي يقف من دعوته وقفة تمثل بيئة المستحيل، لا بالتكذيب والرمي بالجنون وكيد القريب والغريب فقط، بل بالتجند لمحاربة فكرة الحق، وتعذيب كل المعتنقين والمستجيبين الجدد لها، وها هو ذا -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- يسجد في مكة فتُرمى على ظهره الشريف أمعاء وقذارات ناقة (سلى الجزور)، وها هو في الطائف بعد أن حرض عليه الكافرون السفهاء يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين… تخيل!

فهل سلم واستسلم النبي صلى الله عليه وسلم لبيئة المستحيل وكيد أهلها؟

لا، بل بلغ من عمله وحركته في هذا الزمن أنه كان كلما أغلقت قريش بابا للدعوة، فتح بابا جديدا لم يكن ليخطر على بال أرباب الجاهلية، حوربت دعوته وأصحابه في مكة، فأرسل فريق منهم للحبشة كنقطة ضغط خارجية شتتت أوراق قريش في تحول إستراتيجي للمعركة أدهش وأرعد الملأ منهم ما دفعهم لإرسال وفد لملك الحبشة لتحريضه على طرد المهاجرين، لكنهم عادوا خائبين.

وحين منعوه من دعوة أهل مكة، حول الدعوة لوفود الحج القادمين سنويا، وعندما اشتد استحكام الحصار في قريش خطط واستقبل سرا وفد من يثرب الذي سيكون بعدها مرتكز مشروع الهجرة لتأسيس الدولة.

وتأمل معي عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم وهو شيخ في عمر الخمسين، يخرج في ساعة متأخرة من الليل والقوم نيام، وقد ضرب موعدا سريا للقاء وفد يثرب، ثم يلتقي بهم وأعين أهل قريش غافلة، ويقع الاتفاق مع الوفد والبيعة، ثم ينكشف وجود ذلك الاجتماع السري فيتفرق كل الحاضرين و يختلطون بالحجيج؛ ما أفشل تعقبهم في تلك الليلة..

ثم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم لتأسيس الدولة، وبدأ الصراع يأخذ طريق المواجهة العسكرية التي بدأت يوم بدر، ثم تطورت في غزوات بعدها، إلى أن حشدت قريش كل حلفائها من العرب واليهود وجاؤوا أحزابا للقضاء على هذه الدعوة وأهلها مرة واحدة وللأبد، فأمر النبي بحفر الخندق كإجراء عسكري يعيق تقدم جيوش الأحزاب، في معركة قال فيها الله سبحانه {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا} [الأحزاب:11]. وفي أثناء الحفر، اعترض الصحابة صخورا لم يقدرو على كسرها، فعن البراء بن عازب ـرضي الله عنه- قال: ((أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، قال وعرض لنا فيه صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاء فأخذ المعول ثم قال: باسم الله، فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)). رواه أحمد.

في هذا المناخ من الخوف والترقب وعدم الأمن، ها هو ذا النبي صلى الله عليه وسلم يخرق جدار المستحيل ويحول تطلع الصحابة الكرام إلى أمر يعتبر في ميزان إطار الواقع الضيق أمرا غير ممكن لصعوبة اللحظة، و لتفوق الروم وفارس من ناحية التطور العسكري والمادي وعدد الجنود والسلاح… لكنه منهج النبي صلى الله عليه وسلم في إبصار الأمل في عمق مناخ المستحيل وبيئته.

وحين شدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الرحال لرحلة الحج، واعترضت قريش وطالبت بتأجيل العمرة للسنة التالية مقابل عقد صلح الحديبية، وكان من بنود العقد أن تقع إعادة الفارين إلى المدينة من المسلمين إلى قريش، وعندما قرر نفر من المسلمين بقيادة الصحابيين أبي بصير وأبي جندل الفرار إلى نقطة جغرافية مستقلة عن مكة وليست من المدينة، ليمارسوا تكتيك معارك المغاوير وحرب العصابات بالاعتراض والإغارة وتعطيل قوافل قريش الاقتصادية، وبتكوين ملاذ آمن للمسلمين الفارين من قريش، وأقر النبي فعل الصحابة وتكتيك هذه الحرب، ما دفع قريش لإسقاط بند إرجاع مسلمي قريش الفارين إلى المدينة بعد عدم تمكنهم من مواجهة حرب العصابات الجديدة.

وما هي إلا سنوات قليلة حتى فتح الله مكة لنبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته ثم أذعنت كل العرب لدين الحق  وبلغ الفتح الإسلامي حصون فارس وقصور الروم ودانت لهم الأمم في فترة وجيزة.

كلمات من ضياء تخترق الظلمات

بعد استعراضه لنماذج كفاح الشعوب في مواجهة الاحتلال قال سيد قطب في كتابه (المستقبل لهذا الدين):

«لقد كافح الإٍسلام -وهو أعزل- لأن عنصر القوة كامن في طبيعته. كامن في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية، كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد؛ وفي رفض التلقي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين .. كامن كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان المتسلطين. فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته.. ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين.

ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب المنكرة، لأنه يقف لهم في الطريق، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية، كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون!

ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة، كما يطلقون عليه حملات التشويه والخداع والتضليل!

ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيما أخرى، وتصورات أخرى، لا تمت بسبب إلى هذا المناضل العنيد؛ لتستريح الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!

إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلاب الوطن الإسلامي، هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الأصيل..

ولكن الذي لا شك فيه – على الرغم من ذلك كله – هو أن «المستقبل لهذا الدين».

فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين؛ ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين. وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه، أراد أعداؤه أم لم يريدوا، وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى -كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه». [1]

لكن هذه الكلمات، على وضاءتها ووضوحها وحرارتها، لم تكتب في ظروف من الراحة والهدوء، ولا من الحرية الجسدية، ولم تكن في وقت انحسرت فيه أمواج مناخ المستحيل، بل كتبها سيد داخل محبسه الضيق المظلم، في زاويته التي يؤخذ منها ويعاد للتحقيق الدائم الذي تتخلله أوجاع وجروح التعذيب، لكن روحه كانت تخرق بإشراقها طبقات من ظلمات مناخ المستحيل، يتطلع من ربوة شاهقة من وراء تلك الطبقات باستعلاء المؤمن لما خلف مناخ وظروف المستحيل، للمستقبل الذي هو لهذا الدين.

أخي ستبيد جيوش الظلام *** ويشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك إشراقها *** ترى الفجر يرمقنا من بعيد

مهندسون على الطريق

في زمن بدأت فيه ريح الخيانات والتطبيع تهب على فلسطين، كان يحيى عياش قد بدأ يغادر مرحلة طفولة تميز فيها بهدوئه وقلة كلامه وتفوقه الدراسي والتزامه الديني، لينتقل إلى مرحلة الشباب بعد التحاقه سنة 1984م بجامعة بيرزيت كلية الهندسة الكهربائية، المرحلة التي دخل فيها غمار الصراع مع دولة الاحتلال مع أبناء جيله في انتفاضة الحجارة، إذ نشط حينها في خياطة الأعلام والكتابة على الجدران ونشر البيانات والوعي، ومواجهات الحجارة ضد جيش الاحتلال، ومرةً أثناءَ حواره مع والده الذي انتبه لحرقةٍ فيه على فلسطين والأقصى، قال له عبارة معناها: أيعقل أن يموت مهندس على حجارة؟ قال له: كيف؟ فقال: فلسطين فيها شباب لكن فلسطين تحتاج إلى عقل[2].. ولعل تلك الكلمة هي التي أوقدت جذوة التوجه الجديد ليحيى، بتحويل قدراته المعرفية كوقود للمعركة، وبدأ في تجربة تحويل مواد محلية حتى استطاع إيجاد معادلة صناعة مواد متفجرة، وخلال تلك الفترة كان يبحث ويصنع بل وينفذ عمليات تفجير لوحده، إذ قام بصناعة عبوات متفجرة وزراعتها في نقطة حراسة صهيونية قبالة كليته أثناء دراسته.

وسنة 1993 تخرج المهندس يحيى عياش من كلية الهندسة، ليبدأ مشواره كمهندس للمعركة، خاصة وأنه التحق بكتائب عز الدين القسام.

تلك السنة كانت محطة كبيرة من محطات صناعة مناخ المستحيل، خاصة وأنها السنة التي حدث فيها التوقيع بين حركة فتح ممثلةً في ياسر عرفات مع الكيان الصهيوني على معاهدة أوسلو، والتي مثلت وصمة عار بكونها أول قبول واعتراف وشرعنة لوجود دولة الاحتلال، وأول اتفاقِ عملٍ وتنسيق مشترك بين الطرفين، تحول بعدها جهاز أمن السلطة الفلسطينية إلى حليف للجيش الصهيوني ومخابراته في تعقب وسجن وقتل المجاهدين في فلسطين، إنه القبول بدور العبيد لدى السيد المحتل…

وقد أبحر يحيى عياش في هذه الظروف عكس تيارات العمالة، ونصب أشرعته ضد اتجاه رياح الخيانة، وما لبث أن صار المطلوب الأول لدى الكيان الصهيوني ولدى الأجهزة الأمنية لمنظمة فتح.

ومع توسع عملياته الموفقة داخل العمق الصهيوني، وتضييق قبضة المطاردة، تحول يحيى إلى قطاع غزة التي دخلها متخفيا داخل عربة خضار، كما تحولت عائلته إلى القطاع كذلك، ومكث فيه مختفيا عن الأعين، يخطط ويقود العمليات الفدائية. لقد أصبح المهندس هاجسا مرعبا يخيم على دولة الاحتلال، قال عنه -متعجبا- الجنرالُ (جدعون عيزرا) نائب رئيس الشاباك  السابق في مقابلة مع صحيفة معاريف: «إن نجاح يحيى عياش بالفرار والبقاء حولته إلى هاجس يسيطر على قادة أجهزة الأمن ويتحداهم. فقد أصبح رجال المخابرات يطاردونه وكأنه تحدٍّ شخصي لكل منهم، وقد عقدت اجتماعات لا عدد لها من أجل التخطيط لكيفية تصفيته… لقد كرهتُه، ولكني قدرتُ قدرته وكفاءته». وقال شمعون رومح أحد كبار العسكريين الإسرائيليين إنه «لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مضطرا للاعتراف بإعجابي وتقديري بهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات وخبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه، وعلى قدرة فائقة على البقاء وتجديد النشاط دون انقطاع». بل بلغ الرعب في دولة الاحتلال أن قال رئيس وزرائها حينها إسحق رابين: «أخشى أن يكون عياش جالسا بيننا في الكنيست (البرلمان)».

وقد كان يحيى عياش قد أوى إلى بيت رفيقه من أيام جامعة بير زيت أسامة حامد، الذي دخل إلى غزة سنة 1995، وعلم عياش بذلك فلجأ لبيته، ولم يكن يعلم بوجوده في ذلك المنزل إلارخال أسامة كمال حماد، وكمال هو تاجر كبير وعميل لجهاز الشاباك الصهيوني، ومن خلاله تم تدبير عملية اغتيال عياش، بزرع متفجرات في جهاز هاتف جوال أوصله كمال عن طريق أسامة ليحيى، الذي كان قد استعمل هذا الهاتف في مكالمة والده، وفي مكالمة معه تم تفجير الهاتف ليرتقي الشهيد يحيى عياش سنة 1996 إلى جوار ربه، بعد مسيرة فذة في طريق الحرية، بقيت كامنة في الوجدان الشعبي للمسلمين وخاصة في فلسطين بتحوله لرمز ملهم في طريق الجهاد لمن بعده.

وقد بدأت كتائب القسام سلسلة من العمليات الفدائية تحت عنوان «الثأر المقدر»، بدأت بأول عملية في اليوم الأربعين على اغتيال عياش، وحصدت 46 صهيونيا وجرح نحو 163 آخرين.

بقيت فلسطين تترقب حاملا جديدا لشعلة المهندس يحيى عياش، في وضع تفاقم فيه مناخ المستحيل بزيادة ترسيخ العقيدة الأمنية للعمالة عبر التنسيق الأمني والتطبيع بين السلطة الفلسطينية ومخابرات وأمن الاحتلال، التي يتم بموجبها ملاحقة كل من يمثل خطرا على الكيان الصهيوني.

لقد بقيت بطولة عياش كامنة في الوجدان الشعبي وفي قلوب الأحرار، فقد ولد عياش القدوة يوم استشهاده، أما من حمل المشعل بعده فقد كان مهندسا على طريق المقاومة؛ إنه أمير الظل عبد الله البرغوثي، الذي تجمعه ويحيى العقلية الفذة والإقدام على المواجهة والموهبة الفائقة..

ولد عبد الله البرغوثي في الكويت سنة 1972، وعاش طفولة نشطة صقل فيها كثيرا من المواهب والمهارات، من المحلِّ الذي اكتراه ليعمل في صيانة السيارات كان يعيد تصنيع سيارات على مقاسه من ناحية القوى، وقد كان عمره صغيرا حين صنع رخص قيادة بأسماء مستعارة لكي يتمكن من استعمال السيارات، وقد استطاع قرصنة شبكة الاتصالات المحلية لاستعمالها في أغراض تخصه.

كانت تلك المهارات في طور التأسيس، حتى سافر عبد الله لكوريا في رحلة عمل، ليستطيع تسديد أموال في ذمته، وهناك بدأ في العمل داخل مصنع، لكن هاجس المعرفة وتحصيل العلوم التقنية بقي لديه، فقرصن شبكة الإنترنت الكورية ليستطيع الولوج بحرية وتعلم كل ما هو جديد، وقرصن شبكة الاتصالات ليجري اتصالاته بأهله، وقد كانت الأحداث في فلسطين متوترة فكان هو همزة الوصل في التواصل بين أهله وبقية أقاربه في فلسطين. في كوريا درس هندسة الكهرباء، وتزوج بفتاة كورية، وكان السبب الرئيسي للزواج هو تجنب الفتن المنتشرة بشكل كبير في ذلك البلد.

وبدأت أخبار إصابات واستشهاد أقارب عبد الله في فلسطين تتواتر عليه، منذ خبر إصابة بلال ابن عمه الذي تربى معه في الكويت و سافر لفلسطين، ثم بدأت أنباء الشهداء توقد لهيب الثأر بين أجنابه، وبدأت اعتداءات الصهاينة تؤزُّه أزًّا للمقاومة.

لقد أمضى البرغوثي أيامه في الغربة لإعداد نفسه للمعركة الكبرى كما قال: «وبقيت على حالي أعمل وأتدرب على هواياتي التي أحب، هواياتي التي أقسمت أن تكون وسيلتي لتحرير بلادي، لتحرير القدس والأقصى، لتحرير الإنسان من جبروت الاحتلال».[3]

كان كره البرغوثي للاحتلال قد دفعه للمشاركة في مواجهات دارت بين شرطة سيول وبين الطلبة إثر احتجاجٍ على حادثة اغتصاب عدد من الجنود الأمريكيين لفتاة كورية، وبدأ عبد الله برمي زجاجات المولوتوف، وألقي عليه القبض من الشرطة وتم تسفيره مقيد اليدين والقدمين إلى عمان.

وبعد فترة من الزمن انفصل البرغوثي عن زوجته الكورية، وكان السبب الرئيسي لذلك هو عدم إمكان إنجاب الأطفال، فأصرت أم عبد الله أن تبحث بنفسها له عن زوجة، واختارت أن تكون فلسطينية، وفي رحلة التعرف على الزوجة كانت مصافحة عبد الله مع معشوقته الأولى… فلسطين!

زار المهندس فلسطين والقدس زيارة مبدئية التقى فيها بصديق له، وعاين تفتيش الصهاينة وجواسيسهم من السلطة الفلسطينية، لقد امتلأ قلبه عشقا للقدس وفلسطين، بنفس القدر الذي امتلأ فيه بغضا للمحتل وأذنابه، دفعه ذلك الشعور أن يصرخ صرخة أمام البحر في فلسطين قائلا: «أقسم بالله أن أحرر فلسطين كل فلسطين، أقسم أن أجرد الصهاينة منها، وأقسم أن أجرد أشباه رجال أوسلو منها». [4]

لقد استغل البرغوثي إتقانه للغة الكورية والإنجليزية في سهولة الحركة والتعامل داخل الأراضي المحتلة بادئ الأمر، لقد تجول في رحلته إلى القدس، أعجبه طعم الخبز الفلسطيني العتيق، وشعور الصلاة داخل المسجد الأقصى، إلا أن رائحة الخيانة كانت تزكم أنفه حين عاين جاسوسية السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية لصالح الكيان الصهيوني.

وبعد زواجه واستقراره في فلسطين، عمل البرغوثي خلال المرحلة الأولى على إيجاد مجال للحركة والتجهيز للعمليات، واستعان بالأموال التي حصلها من رحلة كوريا ومن بعض أعماله التجارية، فاكترى عدة محلات ساعدت على تخزين احتياجاته، لكن معركة عبد الله هي التي اختارته.

كان يومها يركب الحافلة رفقة زوجته وابنته الطفلة، حين سمع سائقها وسائق حافلة أخرى يسبان الله تعالى، فثارت ثورة عبد الله ونزل فانهال على السائق الأول ضربا ثم رماه في طرف الوادي، ثم توجه إلى السائق الثاني الذي هرب إلى الطرف الآخر من الوادي، ثم قام بإنزال جميع الركاب من الحافلتين وقادهما ورماهما نحو الوادي في ذهول كل الحاضرين، كل ذلك غيرة على الذات الإلهية التي سمع سائقي الحافلتين يسبَّانها، لقد كان موقفَ ثائر ذي عزم صلب وغيرة متَّقدة.

وكان أحد كبار السن يراقب الموقف، وصعد مع عبد الله في الحافلة المتوجهة إلى البلدة، وبدأ في طرح الأسئلة خاصة بعد أن عرف أنه مهندس.

ثم عاود اللقاء بهذا الشيخ مرة أخرى في جنازة أحد الشهداء، فطلب أن يرافقه لتناول الغداء وعندما عبر البرغوثي عن استعجاله قال له: «ما راح أأخرك أكثر، بدي أغديك وأعطيك أمانة توصلها لصاحبها»، وقد كانت تلك الأمانة حقيبة؛ حقيبة غيرت مجرى حركة عبد الله ومستقبل حراكه!

كانت الحقيبة للمهندس يحيى عياش، عياش الذي تعيش ذكراه وذكرى بطولاته في وجدان البرغوثي، وطلب الشيخ أن يوصل الحقيبة لصاحبها الشهيد يحيى عياش، إذ تركها عنده عندما تحول من الضفة لقطاع غزة، قبل أن تصل له يد الغدر والخيانة ويستشهد.

عاد البرغوثي بالحقيبة وفكره مشتت، وبقي هكذا حتى قرر فتحها، وداخلها وجد عبوتين مصنوعتين من الحديد الصلب، وورقة لطريقة الاستعمال، وأهم من ذلك مصحف كتب يحيى عياش في صفحته الأولى عبارة «كن مع الله ولا تبالِ».

وبدأ مشوار المهندس.. بدأت رحلة مهندس الظل، فإن كان عياش قد عمل في زمن مناخ المستحيل بداية من سنة 1993 التي عقد فيها اتفاق أوسلو، فإن عبد الله بدأ في مناخ مشابه سنة 2000 التي شهدت انعقاد اتفاقية كامب ديفد.

في البداية استعان عبد الله بابن عمه بلال البرغوثي، الذي رمقته أحد كاميرات التصوير من أحد محاله وهو في أثناء الكتابة على الجدران خلسة لشعارات ضد الجيش الصهيوني، ثم بدأ التحرك المنظم ليلتحق البرغوثي بمجاهدي كتائب عزالدين القسام.

واستطاع أن يدير الحركة بهويات مموهة عن تتبع أمن سلطة الجواسيس الفلسطينية وسلطة الاحتلال، وأصبح لحركته فاعلية كبيرة خاصة بعد انضمامه لمجموعة عمل الكتائب.

لقد كان المهندس بارعا في ابتكار الحلول لمشاكل معقدة، سواء كانت تقنية أو لوجيستية، حتى إن أيمن حلاوةوهو مهندس فلسطيني كان من رفاقه- قال له مرة: «أستحلفك بالله يا عبد الله هل أنت تنتمي إلى هذا العالم أم لعالم المستقبل؟ قل لي بالله عليك هل أتيت إلى نابلس عبر آلة زمن؟»[5]، كان البرغوثي فعلا رجلا متجاوزا لمناخ وزمن المستحيل الذي تعيشه المنطقة.

وبدأت العمليات بقيادة المهندس، العمليات الفدائية التي اختار لها عنوان: (العقاب). وخيَّم عقاب البرغوثي على مصالح وقوات الاحتلال، بعمليات متنوعة وموجِعة داخل تجمعات العدو، وفي نقاطه الحساسة.

في هذه المرحلة وقع أسر أحد فريق البرغوثي، ثم اعتقل هو نفسه من طرف سلطة الجواسيس، أدى ذلك إلى كشف بعض ما كان يدور، لكن البرغوثي وحال خروجه من المدة التي قضاها بين الاستجواب والتعذيب، وجد نفسه قد أصبح مطاردا فقيرا، وقد وقع لقتحام عدد من محلاته والأماكن التي كان يستعملها وخسر كل مقدراته.

ليتفاقم مناخ المستحيل

و ليتحول المهندس إلى (أمير الظل)، مرحلة جديدة من المقاومة والفداء، قوامها التخفي والحركة في ظروف المطاردة.

وما إن تصاعدت عمليات العقاب التي أوجعت الكيان الغاصب وعملاءه، حتى أصبح عبد الله البرغوثي المطلوب الأول لدى الاحتلال والسلطة الفلسطينية، لكن هذا لم يثنه عن طريقه بل زاد في تمسكه بمواصلة معاقبة الصهاينة.

لقد حصدت عمليات البرغوثي 67 قتيلا في صفوف الكيان المحتل وأكثر من 500 جريح، عدا الرعب الذي خلفته عمليات العقاب في الإدارة الصهيونية، ولم يكن معروفا حينها بوجهه لدى أجهزة المخابرات الصهيونية، حتى إن المباني التي كان يتحول إليها كان يقع اقتحامها وتفتيشها من قبل جيش العدو وعبد الله بين سكانها ولا يقع التعرف عليه.

وكعادته في اكتراء الشقق لاستخدامها في حركته، تعرف أحد مالكي العقارات الفلسطينيين على عبد الله، وكان هذا المالك عميلا للعدو، وبدأت قصة محاولة اعتقاله، وذات يوم، وأثناء اصطحابه لابنته للمستشفى، ألقي القبض على البرغوثي و اقتادوه إلى الإيقاف، وحُكم عليه بأكبر حكم صدر من محكمة على طول التاريخ، بـ 67 مؤبدا، و 5200 سنة سجن… ويمكن أن نعرف مدى الرعب الذي يمثله البرغوثي للكيان عبر تصريح الضابط الإسرائيلي المسؤول عن ملف الأسير البرغوثي إثر المحاكمة، إذ قال: «لو اضطرت إسرائيل إلى ترك أرضها لأي سبب كان، فإنها ستأخذ عبد الله البرغوثي معها».

لكن البرغوثي بوصفه أحد رجال المستحيل، لم تتوقف المعركة عنده ساعة سجنه، فقد تعلم اللغة العبرية في ظرف وجيز، وقهر سجانيه عندما استطاع إجراء مكالمة هاتفية من داخل سجنه عبر هاتف مهرب، اتصل عن طريقه بإذاعة فلسطينية وقدم نصائح وتوجيهات للقيادة العسكرية.

فضلا عن كتبه التي يكتبها ويهربها خارج السجن، لتحلق كلماته في عقول وأفكار الأحرار، إلى أن يأتي اليوم الذي يحلق فيه أمير الظل بنفسه خارج أسوار زنزانته…

وقد تواصلت قصص المهندسين على الطريق، إذ ولد مهندس آخر في صفاقس التونسية سنة 1967م… محمد الزواري الذي وجد نفسه في بيئة الاستبداد في شبابه زمن (بورقيبة)، ثم الانتقال الذي أحدثه انقلاب 1987 بقيادة زين العابدين بن علي الذي صنعه الموساد والأمريكيون، إذ فرض طوقا أمنيا على المتدينين وحربا  على الشعائر والنشاطات الإسلامية.

وقد بدأ مشوار الزواري مع الهندسة بالتحاقه سنة 1988 بكلية الهندسة في صفاقس قسم ميكانيكا، وكان قد انضم لحركة الاتجاه الإسلامي.

لم تطل المدة بعد الانقلاب كثيرا حتى بدأ (بن علي) في تصفية خصومه تصفية دموية تخللتها جرائم في حق الطلبة والجامعات كالتي حدثت يوم 8 ماي 1991، والتي أعقبها حملة اعتقالات واسعة، كان الزواري من بينها.

بمجرد خروجه من السجن عزم الزواري على مغادرة البلاد، فاستعمل جواز سفر باسم مستعار وهو (مراد)، وسافر إلى ليبيا ومنها إلى السودان.

في السودان عمل (مراد) في مصنع لصنع آلات النجارة، والذي حولته السلطة السودانية فيما بعد إلى مؤسسة للتصنيع الحربي، فزاد ذلك المستوى المعرفي للزواري في المجال؛ خاصة وأنه تحصل على الجنسية السودانية.

ثم سافر سنة 2006 لسوريا، وتعرف هناك على ضابط عراقي كان قد اشتغل على رسالة دكتوراه في مجال صناعة طائرة بدون طيار، وسخر هذا الضابط كل خبرته ومعرفته لصالح المقاومة الفلسطينية، وكان الزواري حينها هو المهندس الذي قام على هذا المشروع بعد انضمامه لكتائب عز الدين القسام سنة 2006، دعم هذا امتلاك الزواري لخصائص مميزة منها قدرته العلمية الفائقة في مجال الهندسة الميكانيكية ومجال الحاسوب، إضافة إلى اكتسابه خبرة في مجال التصنيع [6] في فترة السودان، ومثَّل التحاق الزواري بالوحدة المختصة لتطوير الطائرات بدون طيار للقسام  نقلة ودفعة كبيرة للمشروع.

وفي سنة 2008 سافر الزواري لإيران لتكملة ما ينقص من إمكانيات لصناعة الطائرة* وبعد نجاح تصنيع عدد من الطائرات بين ايران وسوريا، سافر الزواري إلى فلسطين، إلى قطاع غزة تحديدا، هناك التقى بفريق تطوير وصناعة طائرات بدون طيار، وقد زار الزواري القطاع ثلاث مرات، ووقع تبادل الخبرات بين فريق الزواري وفريق غزة ضمن فريق واحد نحو غاية واحدة حتى وقع بفضل الله إقلاع أول طائرات الأبابيل في سماء غزة.

ومع اندلاع ثورة الحرية في تونس، وهروب رأس النظام وحارس المعتقل الكبير زين العابدين بن علي ولجوئه إلى السعودية، عاد محمد الزواري إلى بلده تونس،  وكانت رغبته الأولى هي إكمال دراسته التي حرمه منها المخلوع في المدرسة الوطنية للمهندسين في صفاقس، وبعد عامين أسس في صفاقس أول جمعية للطيران تحت اسم نادي  طيران الجنوب، احتضن المواهب التونسية اليافعة التي ركزت على التكوين في صناعة الطائرات بدون طيار، وتأسيس الطلبة على صناعة هذه الطائرات بأبسط الإمكانيات المتاحة، وكان الزواري هو الذي يشرف ويعلم ويمول احتياجات النادي، في جو أبوي تربوي ربطه مع طلبته.

لكن العقلية الهندسية عند الزواري لم تكتف بالطائرة التي وضعت تحت يد المقاومة، بل كان يبحث ويعمل على صناعة اختراع جديد، وهو غواصة مسيرة عن بعد، لكن يد الغدر قد طالته بالاغتيال قبل اكتمال مشروعه، ليرتقي شهيدا في مدينته صفاقس أمام بيته وفي سيارته يوم الخميس 15 ديسمبر 2016، بمسدسات حملها مبعوثون من الموساد الصهيوني، خططوا ودخلوا للبلاد ونفذوا الجريمة، وانسحبوا ولم يأتي «الأمن»؟التونسي إلا بعد ساعة كاملة من الاغتيال، وقد خرج الفاعلون من تونس بدون اعتراض من جهات أمنية في تونس.

لقد أثبت الزواري لكل التونسيين وكل المسلمين أن مناخ المستحيل وهم يتوهمه من يبحث عن أعذار لعدم العمل لقضايا الحرية، وأن كل من يملك موهبة ويؤمن بقضية، يمكنه أن يقلب معادلة الصراع لأشواط كبيرة بين اﻷمة وأعدائها، إذا صحَّ عزمه.. وتجاوز الخطوط التي ترسمها بيئة المستحيل. 

النحت على صخور جبال الهندوكوش

عندما بدأت الاعتداءات الشيوعية على مقدسات المسلمين في أفغانستان، قرر شيخ مُسنٌّ اسمُه (محمد يونس خالص)، الجهاد في وجه النظام القائم الموالي للاتحاد السوفياتي، في تلك اللحظة نصحه رؤساء الأحزاب الإسلامية بعدم خوض هذه المعركة، كجزء من شيوع مناخ المستحيل في تلك الفترة بتفاصيله وظروفه، لكن الشيخ الكبير أبا إلا أن يصعد الجبال مع من تبعه من الشباب وبدأت المقاومة بالفعل، وما هي إلا سنون قليلة من الصبر والإصرار حتى سقطت الحكومة الشيوعية؛ فاضطر الاتحاد السوفياتي إلى النزول بثقله إلى المعركة…

بدأ التغلغل الشيوعي في أفغانستان بتشجيع ورعاية روسية، لكنه دائما ما كان يلقى ردة فعل عكسية من شعب شديد التمسك بعقيدته، خاصة في عهد الملك (ظاهر شاه) الذي قام بتسهيل المد الشيوعي، لكنه ازداد بعد الانقلاب العسكري الذي قاده (محمد داوود) ابن عم الملك، إذ زاد فى عهده عدد البعثات الأفغانية من الطلبة لكليات روسيا لدرجة أنه بلغ عدد خريجي الجامعات الأفغانية أكثر من مجموع طلبة الجامعات في أحد السنوات، ومكن الشيوعيون من مراكز الإعلام ومناصب التعليم باعتماد الماركسية اللينينية كمذهب، وبدؤوا في شن حرب علنية على القرآن والحجاب برعاية حزب (خلق)، كما كانت المواجهة بين الطلبة المسلمين والشيوعيين دائما ما تؤول الغلبة فيها للمسلمين، وهو ما يدفع السلطة للتدخل وفتح أبواب السجون التي تنتهك فيها حقوق المسلمين.

ومع تحول الصراع لدموية أكثر وازدياد الجرأة على العلماء وعلى شعائر الإسلام، دفع ذلك عددا من علماء المسلمين إلى إعلان الجهاد ضد حكم (محمد داوود)، وكان في زعامة دعوة الجهاد الشيخ (محمد يونس خالص)، لكن ضعف الاستجابة اضطرته للتحرك إلى باكستان.

ثم حدث الانقلاب العسكري الذي قام به الشيوعيون على صديقهم محمد داوود، وجاء بزعيمهم (تراقي) إلى الحكم.

وفي صبيحة الانقلاب عزم الشيخ محمد يونس خالص على الدخول إلى أفغانستان واستئناف الجهاد ضد الحكم الشيوعي.

لقد وقف محمد يونس خالص في البداية ضد النخب السياسية الموجودة في البلاد؛ صاحبة التأثير والقواعد الكبيرة، وفكَّر وتحرك خارج مناخ ومحددات المستحيل، وواجه الحكم الشيوعي وبدأ بذرة مواجهة الاتحاد السوفياتي.

وما هي إلا مدة قليلة حتى انتشر الجهاد في أغلب ولايات أفغانستان خاصة مدينة (كابل)، وحتى المدن التي تقع على الحدود مع الاتحاد السوفياتي.

وفي فترةٍ ما استدعاه الرئيس الأمريكي (ريغان) فلبَّى الدعوة، وحين لامه بعض الأفغان على ذهابه ومقابلته لرئيس أمريكا، جاء رده بأنه خجل من الله بأن يتيح له فرصة دعوة الرئيس الأمريكي للإسلام ولا يفعل… نعم لقد ذهب محمد يونس خالص لعرض الإسلام على رئيس أمريكا؛ فالإسلام هو قضيته التي من أجلها رفع السلاح في وجه الشيوعيين السوفييت، وسيرفعه الأفغان لاحقا كذلك  في وجه الاحتلال الأمريكي.

لقد جاهد محمد يونس خالص بلا أطماع مادية كالتي اجتاحت الساحة أثناء المعارك، ولا أطماع رياسة واستئثار بحب الزعامة رغم سيطرة حزبه على ولايات مهمة كـ(ننكرهار)، و عندما وصلت حركة طالبان لهذه الولاية قام محمد يونس خالص بتأييدها ولم يحاربها ودعمها بالانضمام إليها، وما ثمرة دحر الاحتلال الأمريكي عن أفغانستان وتمكين طالبان إلا قطرات من الجهود المتواصلة التي كان جهاد (محمد يونس خالص) ومن معه من أول محركيها، لتتواصل المسيرة بعدها حتى اليوم الذي نالت فيه أفغانستان وشعبها الحرية.

في الختام

إن هذه الأمة تحتاج أن تستقي من تاريخها القديم والمعاصر ما ترفع به آمالها وتتحدى به واقع الانحطاط المهيمن عليها، وما بلوغ التحرر بمستحيل ولا بعيد، إنها فقط مسألةُ وجودِ مَن يعمل على تحقيقه وفق منهج رشيد، ففي الوقت الذي كان جزء من شعوبنا يغرق في مناخ اليأس، كان جزء آخر يحفر شبكة أنفاق بلغ طولها خمسمائة كيلومتر ويعد للجهاد والمعارك، وفي الوقت الذي كان جزء من الذين أيقنوا بسقف المستحيل وروجوا لديمقراطية أمريكا كحل ومنفذ وحيد، كان غيرهم يتحدى الوهم الأمريكي ويحيله إلى سراب ويذيقهم الهزيمة وراء الهزيمة في الأرض على الواقع.

إننا نحتاج إلى اقتلاع روح المستحيل التي تنتج الهزيمة النفسية وتقتل روح التحدي والندية عند أجيال المسلمين و«إن هذه النفوس المنهزمة لا تعيد مجدا ولا تقيم حضارة ولا تغير من الأوضاع شيئا، وإن الحقيقة تكمن في أن الله سيسخِّر لتغيير هذه الأوضاع من يستحق بالفعل أن ينال هذا الشرف، سيسخِّر من هم أحرار النفس والعقل لا يسايرون الذل ولا يقبلون بأن يعيشوا على هامش الأمم!». [7]

*يمكن فهم التعامل مع سوريا وإيران على أنه استغلال لإمكانات متاحة ولمجال الحركة، وتقاطع بعض المصالح.

المصادر

  • كتاب المستقبل لهذا الدين لسيد قطب، طبعة دار الشروق – ص 92-93
  • وثائقي مهندس الرعب – يحيى عياش، قناة اليرموك الفضائية – الدقيقة 09:52
  • كتاب مهندس على الطريق أمير الظل للمهندس عبد الله البرغوثي – ص 14 – 15
  • كتاب مهندس على الطريق أمير الظل للمهندس عبد الله البرغوثي – ص 37
  • كتاب مهندس على الطريق أمير الظل للمهندس عبد الله البرغوثي – ص79
  • قناة الجزيرة، وثائقي الزواري .. طيار المقاومة – دقيقة 4.30
  • كتاب معركة الأحرار للمهندس أحمد سمير – ص 13

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى