أسئلة دينية يطرحها الملحدون العرب، هذه الإجابة عليها
للأسف الشديد إننا نعيش في عصر غارق حتى النخاع في الفتن، وأحد أخطر هذه الفتن على الإطلاق؛ هو الإلحاد، وظهور فئة من الناس ممن ينكرون وجود الله سبحانه وتعالى جل شأنه، ويعتقدون أن ما يحدث في الكون يعود إلى الطبيعة أو الصدفة! ولديهم في هذا بعض الأدلة الواهية الباطلة التي يعتمدون عليها في إنكار وجود الخالق العظيم، وبالطبع يستغلون بأحاديثهم الواهية ضعف العقيدة عند بعض المسلمين الذين لا يستطيعون الرد عليهم، لا لأن حججهم قوية بل لأن بعض المسلمين لا يعلمون شيئًا عن أمور دينهم.
وعلى الرغم من أن الملحدين قد رأوا الكثير من الآيات التي تدل على خلق الله سبحانه وتعالى في الكون وفي أنفسهم، والتي تعلن بقوة عن وجوده وعن حكمته مصداقًا لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ فصلت: 53، لكنهم مع ذلك يجحدون بآيات الله وينكرون وجود هذا الخالق العظيم؛ مصداقًا لقول الله عز وجل شأنه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ النمل: 14، وهذا الجحود لا لأنهم لا يرون آيات الله في خلقه وفي أنفسهم، بل لأنهم مستكبرون مستعلون، سيطرت عليهم الأهواء والشهوات؛ فطمست على قلوبهم وبهتت على عقولهم فلا يكادون يفقهون قولًا.
وفي واقع الأمر إننا لنعجب كل العجب ممن تجرأ على الخالق عز وجل وأنكر -بكل جحود- وجوده وقدرته، بل وصار مبارزًا محاربًا له ولكل من يؤمن به، ولو نظر نظرة صادقة على حاله لرأى بوضوح ضعف حاله وعجزه وهوانه، ولاكتشف مدى حاجته إلى الله سبحانه وتعالى لا سيما وقت مرضه، لذا أعتقد أن دور أهل العلم هو التصدي بكل حزم وقوة للرد على هذه الأفكار الضالة والأسئلة التي يزعزعون بها إيمان ضعاف الإيمان أو الأشخاص الذين لا يعلمون أمور دينهم، والذين يخدعهم لسان الملحدين فيشكون في عقيدتهم، وأعتقد أن أهل العلم بردهم على هذه الأسئلة بالعقل والعلم لا يجب أن يكون هدفهم أن ينقذوا الملحدين الذين غرقوا في الوحل، بقدر ما يكون إنقاذ شباب المسلمين ضعاف الإيمان الذين لا يعلمون شيئًا تقريبًا عن الدين إلا اسمه. لذا سنتطرق في هذا الموضوع إلى أشهر الأسئلة التي يطرحها الملحدون العرب على المسلمين، وما هو رد الدين عليها بالعقل والمنطق. لكن قبل ذلك يجب أن نعلم أولًا ما هو الإلحاد؟
ما هو الإلحاد؟
الإلحاد في العموم؛ هو إنكار وجود الله عز وجل، ويتفرع من هذا الإنكار؛ نفي خلق الله سبحانه وتعالى للخلق وقدرته على إفنائهم وبعثه لهم، وإنكار الرسالات والرسل والمعجزات، فالإلحاد لغةً هو: “الميل عن القصد، والعدول عن الشيء، ومصدره لحد، واللحد هو الشّقُ في جانب القبر”، وهذا يعني أن الإلحاد في اللغة يقصد به كل من مال عن الحق والقصد. وقد استخدم العرب صفة الإلحاد ليطلقوها عن أي أحد يظهر بدعة حتى لو كان مؤمنًا بالله ورسوله، كما أطلقوها على الكفار والزنادقة حتى لو كانوا من أديان ومذاهب أخرى. أما من ناحية الاصطلاح فإن الإلحاد هو: مذهب فكري ينفي وجود خالق الكون، واشتقت التسمية من الكلمة الإغريقية (atheos) التي تعني (بدون إله)، ولهذا يجب التفرقة بين الإلحاد والربوي واللاأدري لأنه يتم الخلط بينهم.
فالملحد؛ هو المنكر لوجود الله عز وجل والأديان. وربما نسمع أيضًا كلمة اللاديني؛ وهو الاسم الذي يفضل الكثير من الملاحدة أن يطلقوه على أنفسهم، على الرغم من أن لاديني تعني من لا يؤمن بالأديان، ولا تعني بالضرورة من ينكر وجود الإله، كما يمكن أن نسمع كلمة (Antitheist) والتي تعد ضد الدين؛ وتشير إلى الملحد الذي يكون له موقف عدائي من الله والدين وأي شخص متدين يؤمن بالله.
من هو الربوبي ومن هو اللاأدري؟
الربوي (Diest)؛ هو الشخص الذي يؤمن بوجود إله خالق للكون، إلا أنه ينكر الديانات، لأنه ينكر أن يكون هذا الإله قد تواصل مع البشر بهذه الطريقة.
اللاأدري (Agnostic)؛ هو الشخص الذي يؤمن بأن مسائل الألوهية والغيب لا يمكن إثباتها وإقامة الحجج عليها، كما أنه لا يمكن نفيها في المقابل، وهذا لأنها -على حد اعتقاده- فوق قدرة العقل على القطع فيها.
من هو الشخص المتشكك ومن هو العلماني؟
الشخص المتشكك (Skeptic) يشبه اللاأدري إلى حد ما، فهو يرى أن البراهين على وجود الله لا تكفي لإقناعه بوجوده، وفي نفس الوقت لا يمكن تجاهلها بالكلية، لكنه يبقى في مرحلة الشك.
أما العلماني (Secularist)؛ فهو الشخص الذي يدعو لأن تقام الحياة اعتمادًا على العلم المادي والعقل وحده، بعيدًا عن الدين تمامًا، وهذا مصطلح سياسي في المقام الأول، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد بينه وبين العقيدة الدينية علاقة، لأن كثيرًا من العلمانيين ملاحدة أو لا دينيون، لا سيما الغربيين منهم.
أسئلة الملحدين والرد عليها
من أشهر أسئلة الملحدين ما يأتي:
إذا كان الله موجودًا؛ فلماذا لا نراه؟
يقول الملحد إذا كان الله موجودًا؛ فلماذا لا نراه كالشمس والقمر والجبال والبحار وغيرها؟ ويمكن الرد على هذا السؤال بعدة أسئلة للملحد وهي: هل لك روح أو عقل؟ بالتأكيد سيجيب بنعم، فإذا كان الأمر هكذا فيجب أن نسأله: هل رأيت روحك أو عقلك من قبل؟ بالتأكيد سيجيب بـ لا، وبالتالي فإن الملحد حينها سيكون قد أقر بوجود ما لا تراه عينه، واعترف أن هناك أشياء موجودة على الرغم من أنه لا يشاهدها، وأنه قد اعترف بوجود الروح والعقل؛ لا لأنه يراهما بل لأنه يرى آثارهما، فإن كان الأمر كذلك فعليه أن يعترف بوجود الله لأن كل المخلوقات في هذا الكون من آثار قدته سبحانه وتعالى ودليل على علمه وحكمته حتى لو لم نراه.
إذا كان الله موجودًا؛ فلماذا لا يسمع الله الدعاء؟
لأن ليس كل الناس يستجاب لها الدعاء، إنما يتقبل الله من المتقين، ثم إن هناك شروطًا لإجابة الدعاء. وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “أيها الناس، إن الله طيب، لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم) المؤمنون: 51، وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) البقرة: 172، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟” رواه مسلم. فستجد الملحد يقول دعك ممن نبت لحمه من الحرام أو من العاصي الذي تغذى بالحرام، لأنه يتضح لماذا لا يستجيب الله له، لكن حدثني عن دعاء الصالحين المتقين! إذا كان الله موجودًا؛ فلماذا لا يستجيب لدعاء المتقين؟
يمكن الرد على هؤلاء بالرد الذي أورده ابن الجوزي؛ حيث قال: “اعلم أن الله عز وجل لا يرد دعاء المؤمن، غير أنه قد تكون المصلحة في تأخير الإجابة، وقد لا يكون ما سأله مصلحة في الجملة، فيعوضه عنه ما يصلحه، وربما أخر تعويضه إلى يوم القيامة، فينبغي للمؤمن أن لا يقطع المسألة لامتناع الإجابة، فإنه بالدعاء متعبد، وبالتسليم إلى ما يراه الحق له مصلحة مفوض”، ثم يمكننا أن نعرض عليه ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب لما قال لعامله: “اتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة”، وأن أحمد بن إسماعيل الكوراني حين شرح هذا الحديث قال: “فإن قلت: كم مظلوم يُقتل ظلمًا وقاتلُه سالم من الأذى، مع أنه يدعو عليه بأنواع من الدّعاء؟ قلت: إن الإجابة لا تنحصر فيما سأله. بل إنما يجيبه إلى ذلك. أو يصرف عنه السوء به. أو يدخر له ما هو خير له. وقال ابن عبد البر في التمهيد: فيه دليل على أنه لا بد من الإجابة على إحدى هذه الأوجه الثلاثة”.
ونقول للملحد أن الله يرى ما لا يراه البشر، حيث نص حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على: “ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل. قالوا: يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ربي فما استجاب لي”. رواه الترمذي وصححه الألباني
إذا كان الله عادلًا؛ فلماذا يسمح بوجود الأمراض والأوبئة والظلم والشرور؟
هذه السؤال الذي يطرحه الملحدين يقوم على أساس أن وجود الشر يتنافى مع صفة العدل الإلهي، حيث يقولون إن عدم وجود الرحمة لا ينفي وجود العدل، لكن وجود الظلم ينفي صفة الرحمة ولا تتحقق الرحمة إلا إذا تحقق العدل. ويمكن الرد على هذه الشبهة من خلال المثال الآتي: “طفل صغير أصيب بالسرطان فتعذب وتألم ثم مات، بينما هناك طفل آخر صحيح معافى يعيش وسط أسرته الغنية ويتمتع في النعيم طولًا وعرضًا، ألا يبدو هذا الأمر فيه ظلم للطفل الذي تعذب ومات؟ في ظاهر الأمر هذا ما يبدو بالفعل، لكن إذا نظرنا إلى هذا المثال وفق عقيدة المسلم وفي ضوء التصور الإسلامي فإن الشبهة ستسقط وتهدم من أساسها، لماذا؟ لأن الإيمان في الدين الإسلامي يقوم على ستة؛ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
وحين نتحدث عن المعاملات الدنيوية بين البشر فإننا نرى الظلم يقع بالتأكيد، لكنه ظلم يقع بين البشر، حيث ينتهي القصاص منه في المحكمة، وهذه المعاملات مجالها يكون الدنيا، لكن حين نتحدث عن الظلم الدائم من الناحية الوجودية فهو غير موجود، لأن المظلوم إذا لم يقتص من الظالم في محكمة الدنيا فسوف يقتص له الله سبحانه وتعالى في الدار الآخرة، وهي الدار التي يتحقق فيها العدل المطلق وينتهي فيها الظلم. أما من حيث المصائب والابتلاءات التي تنزل بالمسلم عن طريق القدر دون تدخل منه كالمرض وغيره، فقد أشارت النصوص الدينية بوضوح إلى أن هذا يكون جزاؤه ثوابًا من عند الله، أو يكون رفعة في الدرجات للصابرين على ذلك، حيث قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر: 10، وقد يكون تكفيرًا للذنوب، كما روي عن البخاري: “ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها”.
وهذا يعني أن كل ما يسلب من المسلم المؤمن الراضي في الدنيا المؤقتة من نعم، سوف يعوضه الله عنه في الدار الباقية، إذ وصف الله سبحانه وتعالى يوم الحساب بقوله: (لا ظلم اليوم) غافر: 17، وهذا العدل يشمل كل المخلوقات على حد السواء. وعليه فإن الطفل الذي أصيب بمرض السرطان وتعذب ثم مات، سينعم الله عليه بعوض في جنة النعيم لا يقاس أبدًا بالمقاييس البشرية، فهي حياة أبدية لا نهاية فيها للنعيم. ويمكن توضيح ذلك أكثر في الحديث الذي ورد في صحيح مسلم: “يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط”، وفي حديث آخر حسنه الألباني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ”.
الغيبيات مجرد أوهام لا حقيقة لها
يقول الملحدون إن الأمور الغيبية عبارة عن أوهام لا حقيقة لها لأنها لا تخضع إلى إدراكهم الحسي، ويقولون إن عقولهم لا تستسيغ الإيمان بشيء لا يدركونه بالحواس. لكننا يمكن أن نجيب عليهم بنفس الطريقة التي أجبنا بها على سؤال إنكار الله لأنهم لا يرونه، لأنه ليس كل شيء لا يُرى يعتبر غير موجود، فالكهرباء التي تسري في الأسلاك؛ هل يمكنكم رؤيتها أو سماع صوتها؟ بالتأكيد لا؟ إذن لماذا لا تنفون وجودها؟ والهواء الذي منحه الله لنا؛ لا يستطيع كائن حي الحياة من دونه، هل ترونه؟ بالتأكيد لا، إذن فإنكار وجوده محض مهاترة. لذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة البقرة:1-5
ويجيب القرطبي على هذا السؤال في ظل تفسير الآية السابقة بقوله: “الْغَيْبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، يُقَالُ مِنْهُ: غَابَتِ الشَّمْسُ تَغِيبُ، وَالْغِيبَةُ مَعْرُوفَةٌ. وَأَغَابَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُغِيبَةٌ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَوَقَعْنَا فِي غَيْبَةٍ وَغِيَابَةٍ، أَيْ هَبْطَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْغِيَابَةُ: الْأَجَمَةُ، وَهِيَ جِمَاعُ الشَّجَرِ يُغَابُ فِيهَا، وَيُسَمَّى الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ: الْغَيْبُ، لِأَنَّهُ غَابَ عَنِ الْبَصَرِ. الثَّالِثَةُ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ الْغَيْبِ هُنَا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْغَيْبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْغُيُوبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْغَيْبُ كُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَا تَهْتَدِي إِلَيْهِ الْعُقُولُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
ويستطرد: “وقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا تَتَعَارَضُ بَلْ يَقَعُ الْغَيْبُ عَلَى جَمِيعِهَا. قُلْتُ: وهذا هو الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ). قَالَ: صَدَقْتَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ البقرة: ٣.وقال: “الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ”، فَهُوَ سُبْحَانُهُ غَائِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، غَيْرُ مَرْئِيٍّ فِي هَذِهِ الدَّارِ، غير غائب بالنظر والاستدلال، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا قَادِرًا يُجَازِي عَلَى الْأَعْمَالِ، فَهُمْ يَخْشَوْنَهُ فِي سَرَائِرِهِمْ وَخَلْوَاتِهِمُ الَّتِي يَغِيبُونَ فِيهَا عَنِ النَّاسِ، لِعِلْمِهِمْ بِاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا تَتَّفِقُ الْآيُ وَلَا تَتَعَارَضُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: “بِالْغَيْبِ” أَيْ بِضَمَائِرِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ”.
لماذا يظهر في القرآن تناقضات؟
يقول الملحدون إن القرآن يوجد فيه الكثير من التناقض، وهذا قولهم بزعمهم، والقرآن كلام الله سبحانه وتعالى لا يوجد فيه شيء من التناقض على الإطلاق، وقد نزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين كان العرب وقتها في قمة بلاغتهم، وعلى الرغم من ذلك لم يستطيعوا أن يطعنوا فيه رغم رفضهم لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يطعنوا في القرآن من حيث الأسلوب والإحكام، بل إن المنصفين منهم كانوا يقولون إن هذا ليس بكلام بشر، فكيف يأتي شخص لا يفهم قواعد اللغة العربية ولا يمتلك أي فصاحة وينتقده؟
ولنأخذ مثالًا واحدًا على التناقض الذي يتهم به الملحدون القرآن الكريم؛ حيث يقولون إن القرآن يتناقض في مادة خلق الإنسان، وإنه يعطي معلومات مختلفة من آية لآية. فمثلًا ذكر عن مادة خلق الإنسان في السور المختلفة ما يأتي: من ماء مهين (المرسلات: 20)، من ماء (الأنبياء: 30)، من نطفة (يس: 77)، من طين (السجدة: 7)، من علق (العلق: 2)، من حمأ مسنون (الحجر: 26)ـ ولم يك شيئًا (مريم: 67)، فيقولون؛ كيف يكون ذلك كله صحيحًا فى نفس الوقت؟
ويمكننا الرد عليهم بأن القرآن غير متناقض على الإطلاق، لكن لكي نوضح ذلك يجب أن ننظر في المنهج العلمي الذي جاء به القرآن الكريم في العديد من الآيات عن خلق الإنسان، وهذا يستلزم بالضرورة جمع هذه الآيات والنظر فيها ككل؛ لتمييز خلق الله آدم -عليه السلام-، وخلق سلالة آدم التي تكاثرت بعد خلق حواء. فالله -سبحانه وتعالى- قد خلق الإنسان الأول (آدم) -عليه السلام- بعد أن لم يكن موجودًا، وهذا يعني أنه أصبح شيئًا بعد أن لم يكن شيئًا موجودًا، وهذا هو معنى الآية: (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئًا).
أما من حيث مراحل خلق الله سبحانه وتعالى للإنسان فكانت مراحل مرتبة ومختلفة فإن الآيات في القرآن الكريم تعبر عن مراحل مختلفة وتصور تكامل هذه المرحلة، وهذا يعني أنه ليس تناقض بل تكامل. يقول الله سبحانه وتعالى (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)، حيث بدأ الله خلق آدم بالتراب، ويقول: (الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين)، حين أضاف الماء للتراب فأصبح طينًا، وقال تعالى: (فاستفتهم أهم أشد خلقًا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب)، وذلك حين زالت قوة الماء عن الطين فأصبح لازبًا أي جامد.
وهذا ينطبق على باقي المراحل، ففي مرحلة اسوداد الطين وتغير لونه وبشاعة رائحته تكون مرحلة (الحمأ المسنون)، فالحمأ هو الطين الأسود المنتن والمسنون هو المتغير. فيقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (35) سورة الحجر: 26-35، وهذا يعني أن مراحل خلق الإنسان متتالية متتابعة تكاملية ليست متناقضة، وهذا هو السبب في اختلاف المصطلحات على مادة الخلق؛ التراب، الماء، الطين، الحمأ المسنون والصلصال.
إذا كان الله قدر عليَّ أعمالي، فلماذا يحاسبني؟
يقول ابن عثيمين -رحمه الله-: “أفعال العباد كلها من طاعات ومعاصٍ كلها مخلوقة لله، ولكن ليس ذلك حجَّة للعاصي على فعل المعصية”، وقد أسرد الأدلة على ذلك ويمكننا أن نلخصها فيما يأتي:
- أن الله -سبحانه وتعالى- أضاف عمل العبد إليه، وجعله كسبًا له بدليل قوله سبحانه: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ غافر: 17، ولو كان الإنسان غير مخير في الفعل وغير قادر عليه فلن ينسب له.
- أن الله -سبحانه وتعالى- قد أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا قدر ما يستطيع تحمله، فقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ البقرة: 286، وقوله أيضًا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ التغابن: 16، ولو لم يكن الإنسان مخيرًا لما كان باستطاعته أن يفعل أو لا يفعل.
- أن العاصي قبل إقدامه على المعصية لا يعرف ما هو مقدر له، لذا فإنه باستطاعته أن يقدم على المعصية أو يتركها، وعليه فكيف له أن يسلك طريق الضلال ويلقي بالحجة على القدر المجهول؟ أليس من المنطقي أن يسلك طريق الخير ويقول إن هذا هو ما قدر لي؟
المصادر
بارك الله فيكم