وأذّن في الناس بالحج
(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ 26 وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)). “سورة الحج”
في عالم حالك الظلمة ضاعت فيه معالم توحيد الله، وُلِد أبونا إبراهيم، وتكفل اللهُ هذا النبي و حمّله مهمة كبرى تتمثل في إعادة بناء دين التوحيد بعد عصور الأصنام و ظلم أصحابها، خاض مواجهات صعبة، واجه الموت حرقاً، ناقش الناس بمنطق العقل الذي يطالبنا بعضُ مَن اعوج فهم القرآن في نفسه بالتخلي عنه.
بعد أن استقرت المفاهيم في نفس إبراهيم و اختبر ربُه قوتَه و صبره و عزمه كلفه بعمارة مركز التوحيد على هذه الأرض فدله على واد غير ذي زرع و طلب إليه أن يسكن من ذريته فيه إيذاناً بانتهاء عصور الظلام الدامس، فمن تلك اللحظة لن يعدم العالم وجود جماعة بشرية تعلن التوحيد لله و ستصبح مكة مهوى الأفئدة على مر الزمان. (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ 35 رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 36 رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ 37) “سورة إبراهيم”
وبعد مخاض عسير تمكنت هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام التي أودعها في تلك الأرض مع رضيعها أن تتلمس طريق الحياة في الصحراء القاحلة، و منّ الله عليها بالماء وجمع البشر حول مائها فنشأت مدنية جديدة في الأرض المقدسة. أما أبونا إبراهيم فكان يتردد عليهم في زيارات متقطعة يطمئن فيها على حال المشروع الذي بدأه و يرسم من خلال زياراته الخطة للخطوة التالية.
وفي زيارة من الزيارات وضع حجر الأساس لمشروع الإيمان فبنى بيت الله على الأرض و نادى في الصحراء نداءً وصل صوته إلى أجيال غير التي عايشها و عرفها. (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 127 رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 128 رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 129 وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 130 إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ 131 وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132 أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 133) “سورة البقرة”
لقد كان نداء إبراهيم كلمة حق صدرت من فم نبي صادق تكفل الله بها وأوصلها للناس عبر مئات السنين، فهذا هو حال كلماتنا إن كانت صادقة ووافقت حقاً ودعت له، سيتكفل الله بها إلى أن يبصر الحق النور ولو بعد حين.
إن أذان إبراهيم بالحج يعلمنا ألا نيأس من ظهور صوت الحق في زماننا فالحق يحتاج لتضحيات كبرى بل ولربما تخوض أجيال طويلة الصراع دونه تدور حوله مقتربة ومبتعدة حتى تصفوا الأفكار في أذهانها ويصبحوا في حالة من الجاهزية التامة للحظة التي سيأذن الله لهم فيها بالنصر وعندها يكون التمكين.
ما يجب الوثوق به أن الله سينصر المؤمنين فلا يجب البحث في أمر بديهي ثبته القرآن، لكن البحث يكون حول أنفسنا هل نحن حقاً مشمولين بخطاب الله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ 47) “سورة الروم”.
هل نحن مؤمنين فعلاً؟ هل يكون المؤمن مكتمل الإيمان حين يغيّب عقله عن الأخذ بالأسباب؟ هل يؤمن بالله من لا يفعل كتابه في حياته؟ كثير من أهل العلم تحدثوا عن هجر كتاب الله بعدم التلاوة، لكن القلة منهم من تحدثت عن الهجر الأكبر لكتاب الله بتحويله لنصوص تتلى ويحفظها الحفاظ دون أن تعثر لها على أثر في الحياة الواقعية للبشر.
هذا هو إيمان إبراهيم الذي أعاد بناء أسس التوحيد التي تكفلها الله وأرسل رسوله محمد صلى الله عليه و سلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله مبلغاً لها، فما زلنا نحج ملبين النداء. ذهب إبراهيم عليه السلام بعد أن أدى مهمته في الأرض وانتهت مرحلة النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم لكن المنهج بقي موجوداً بيننا فنحن نحج لله في كل عام ونتساءل؛ متى سيحقق الحج فينا حركة حقيقية ونقلة نوعية ونهضةً كبرى؟
في الحج يا أخواني أيام قريش التقى رسول الله القبائل وعرض عليهم هذا الدين، فالحج مؤتمر لهذه الأمة يجب أن يكون اجتماعاً لعلمائها ورجالها المخلصين للبت في قضاياها المصيرية التي تواجه وجودها، فيه يتجرد الإنسان من قيم اللذة والمادية التي غزت حياته ليعود إلى بساطة الحيا ويتذكر ألا عيش إلا عيش الآخرة و يعيش قوله تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 77) “سورة القصص”
فيه معنى الهوية التي فقدنا، فنحن مسلمون قبل أي انتماء آخر نحمله، الحج تربية والحج حياة والحج تاريخ والحج واقع وفيه لو وعينا بناء للمستقبل. وإني لأتعجب ممن يحج مرات ومرات دونما أن يتحقق بتلك المعاني، فحجةٌ واحدةٌ مبرورةٌ تحقق نقلة نوعية في حياتك تكفيك وتغنيك لتعود كما ولدتك أمك وهي خير من تعدد الذهاب والمجيء دونما أثر حقيقي نراه في الحياة.
(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ 24 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ 25 وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ 26 وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ 27 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ 28 ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ 29 ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ 30) “سورة الحج”.
الكاتب: فداء عبد النافع حمدون