الأصول والأدلة الفطرية التي يقوم عليها الإيمان بالله
ربما حرمتنا بيئتنا ونشأتنا من تذوق جمال التعرف على الخالق وأضحى إيماننا إيمانًا منقوصًا، وصارت عبادتنا-تبعًا لهذا-عبادة يعتريها نقصان، وحُبُّنا لخالقنا حبٌّ يشوبه الجهلُ بعظمته سبحانه.
فلما كان الإيمان بوجود الله أشرف العلوم وأعلاها منزلة، ابتعث اللهُ الرُّسلَ بالأدلة والبراهين على وجوب وحدانيته وألوهيته، درءًا لكل شبهة، وتثبيتًا لكل من كاد يركن إلى باطل، ولِئَلَّا يكون للناس على الله حجة بعد ذلك، وأقام المؤمنون تبعًا لهذا الأدلة على أنَّ الإيمان بوجود الله ليس قضية عاطفية محضة، وليس إثباتنا لوجوده وكماله هو من باب سدِّ الفجوات كما يدعي الملحدون مُلوَّثي الفطرة، بل هو إيمانٌ قائم على أصولٍ وثوابتٍ ومقاصد.
فالفطرة تهدي إليه سبحانه، والضروريات المعرفية لا تستقيم إلَّا بإثبات وجوده وكماله، والنفس لا تستريح إلا بعلمها بوجودِ مُدبِّر لأمورها لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم ولا يَظلم مثقال ذرة، ويعلم السِّرَّ وأخفى. وتلك القوانين تَظلُّ نسبيةً تابعة لأهواء البشر، يضعها المنتصر على هواه إلًّا أن يكون الدين كله الله خاضعًا لقوانينه سبحانه، وتلك الأخلاق والفضائل والتضحيات لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء إله حكيم عليم مُريدٍ أودعها قلوبَ وفِطَرَ خلقه، فسبحانه متصف بالكمال المطلق، ذلك الكمال الذي يستحيل على المخلوق الإحاطة به.
الدلائل الفطرية
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “أصل العلم الإلهي فطري ضروري وأنه أشد رسوخًا في النفوس من مبدأ العلم الرياضي كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر وأما العلم الإلهي: فما يُتصوَّر أن تعرض عنه فطرة”[1]
ولكن مع كثرة الاعتراضات التي يوردها المُشكِّكون-الذين انحرفت فطرتهم-مع ضعف الجانب التعبدي؛ لم تبلغ نفوسُنا تمامَ صفائها فيما يتعلق بفطرية معرفة الله والعلم به، فصرنا نتفهم أن يورد أحدهم شبهة حول وجود الخالق ونتعلل له بأنَّه ربما لديه شكوك أفضت إلى هذه الشبهة، ولا نتصور وجود من يشكك في أنَّ الواحد نصف الاثنين، رغم أن العلم بوجود الخالق أقرب إلى الفطرة من تلك العلوم الضرورية التي أودعها سبحانه فينا.
ففي حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-أنه كان يقول قال رسول الله ﷺ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة واقرأوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله».
فالفطرة قوة مودعة في النفس يظهر مقتضاها متى توفرت شروطها وانتفت موانعها.
وليس أدلَّ على عمق المكنون الفطري في الاستدلال على خالقه من شعور الإنسان بوجود قوة ما، يلتجِأ إليها حينما تنقطع به السبل وتتقاذفه الشكوك، ويُحيط به الهلاك من كل جانب؛ فتُسارع نفسُه استحضارَ هذه القوة، والتضرع عسى أن تتداركه وينجو، وهو ما أرشدنا إليه الله في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[2]
ويعبر البريطانيون عن ذات المعنى قائلين: “There are no atheists in foxholes” [3] أي “لا يوجد ملحدون في الخنادق.” فحينما تشتد الحرب، ويعُمُّ الخوف يهرب الملحدون من تأثير إلحادهم المُخالف لفطرتهم إلى هذه القوة العميقة التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها. وهذه بعض الدلائل الفطرية على وجود الخالق:
-
المبادئ العقلية الأولية
ويُقصَد بها المعاني الحاصلة في النفس من دون توسط نظر أو استدلال عليها، كقولنا إن الجزء أصغر من الكل، فلا يحتاج مستوي الفطرة أن نبرهن له أن نصف الثمرة أصغر من الثمرة كاملة. ومن هنا نجد أنفسنا أما تساؤلين:
- مَن الذي أودع هذه المعاني بداخلنا؟
- ومِن أين اكتسبت هذه المعاني إطلاقها فصارت هي مُقدِّماتنا التي نعتمد عليها في التفسير والتدليل على الحقائق؟ فنقول: “بما أنَّ هذه الأداة مُعقَّدة التركيب، إذًا لا بد لها من صانع” فلم نحتج هنا للتدليل على أن الفعل مُعقَّد التركيب يحتاج لصانع، بل انتقلنا مباشرة من كون الفعل مُعقَّد إلى أنه لا بد له من صانع.
فمَن ذا الذي أودع هذه المعاني في نفوسنا، وأكسبها هذه القوة؟
-
النزعة الأخلاقية
لا يمكن لعاقل إنكار مقدرتنا البشرية على التفريق بين الخير والشر والعدل والظلم، والكرم والبخل، والصدق والكذب… وهو ما يطرح سؤالًا أكثر عمقًا من مجرد السؤال عن مودع هذه الفطرة بداخلنا والتي استطاعت التفريق بين المتناقضين وإدراكهما، بل تعدَّت مقدرتنا إلى تفضيل أحدهما على الآخر، وهو تفضيلٌ مُطلق متجاوز للوجود المادي والتفسيرات المادية المحضة، فمن أين اكتسبنا ذلك اليقين بتفضيل الخير على الشر؟ وتفضيل العدل الظلم؟ وتفضيل الكرم على البُخل؟
-
الجانب الغريزي
ومن العجب العُجاب أن يرى الإنسانُ في نفسه كل هذه الغرائز من حبِّ للبقاء وخوفٍ على النفس وشعور بتأنيب للضمير إذا ما اقترف إثمًا، وغيرها الكثير من الغرائز التي تحركه وتملي عليه الشروط وتوجهه في اتجاه ما، ثم يعمد إلى تفسير تلك الغرائز بمجرد كونها عملية أحدثها التطور لاستبقاء حياة الكائن الحي.
وإذا ما تجاوزنا تلك الخرافة القائلة بأن هذه الغرائز ما هي إلا عملية استبقاء للنوع من الانقراض لا تحتاج إلى خالق يودعها نفوسَنا، فهل يُعقل أن غريزة الأمومة وتضحية الآباء من أجل أبنائهم هي مجرد عملية تطورية للحفاظ على النوع من البقاء؟!
فإذا ما تنازلنا معهم وسلمنا بهذه الخزعبلات هل يمكنهم في ضوء تلك الرؤية تفسير وجود هذه الغرائز من حيث الأصل؟ ومن ذا الذي أنشأها؟
-
الشعور بالغائية
مِن غير المُتصوَّر أن يستطيع إنسان العيش من غير أن يسأل عن الغاية والهدف من وجوده، وخلقه، وإلى أين سيكون مصيره؟ وغيرها الكثير من الأسئلة الوجودية التي تحمل في طياتها سؤالًا عن القصد والإرادة.
ولكن تبقى كل تلك التساؤلات بلا قيمة ولا ثمن إذا ما نظر الإنسان إلى أنَّ هذه الحياة الدنيا هي نهاية المطاف، وأن مصيره إلى الموت بدون بعث ونشور، فما الذي يجبرنا على الكًدِّ والتعب، وما الذي يحملنا على تحمل المشاق في سبيل الغايات صعبة المنال؟ أيُعقَل أن تكون تلك السنوات التي نقضيها على وجه الأرض بلا قصد ولا غاية؟ أيُتصوَّر أن تنتهي الدنيا هكذا ويتساوى الظالم والمظلوم اللذان تواريا تحت التراب؟
كانت هذه بعض الدلائل التي تفرضها فطرتنا علينا وتهدينا بها إلى حتمية وجود خالق حكيم عليم مُريد، أودع فينا تلك الفطر للدلالة على وجوده وعظمته، واستحقاقه للتوحيد والربوبية والألوهية.
فإذا كانت معرفة الله أمرًا فطريًا حادثًا في النفس حاضرًا، وأقمنا الدلائل على ذلك، فلِمَ قد نحتاج إلى الدلائل العقلية؟
تابعوا الموضوع الثاني من السلسلة ففيه الإجابة.
المصادر:
[1] مجموع فتاوى ابن تيمية
[2] سورة يونس، الآية 22.
[3] There are no atheists in foxholes، ويكيبيديا.
د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث.
عبد الله العجيري، شموع النهار.