طوفان الأقصى والعدوان على غزة.. تأملات شخصية جدا

مِن نافلة القول التذكيرُ بحالة الذهول والدَّهشة التي استقْبلنا بها صباح يوم السابع مِن أكتوبر 2023، فالجميع كانوا مندهشين ومتفاجئين بالحدث، ثم انتهت لحظة الدهشة التي اتفق عليها الجميع لتعقبها حالة أخرى اختلف فيها الناس؛ بين مَن استقْبل الأمر بحالة من الفرح المقصود وغير المقصود المعلنِ وغيرِ المعلن؛ حين شعر المؤمنون والأحرار بنشْوةِ أنْ يروا المستضعفين المضطهدين لأعوام وهم يضربون عدوَّهم ومُضهِدهم بهذه القوة والعزْم… وحالةُ الفرح هذه ليست طبيعيَّةً وحسب بالنسبة لهم؛ بل هي واجبٌ أخلاقي أيضا.

وثمة فريق آخر من الصهيونيين ورُعاتِهم أغْضبهم الحدث وأرْعبهم وأحسُّوا بحالةٍ مِن الخزْي والإحْباط سيُترجمونها لاحقا في اطِّراحهم للقيم البشرية الأساسية.

وهناك فريق من عامة الناس الذين يُتابعون الحدث مِن بعيد ولا ينتمون للمحيط الثقافي ولا الجغرافي لأيٍّ من الطَّرفين؛ وأغْلب هؤلاء -ممن لم تخدعه البروباغندا الإسرائيلة- لا يستطيع الحكمَ على الحرب ولا تمييز الظالم والمعتدي من المظلوم والمضطهد.

لم تُهمل إسرائيل الناس لمناقشة صوابيَّة طوفان الأقصى وردود الأفعال عليه، وقطعت على الصحافة الغربية سؤالها التاريخي الذي كانت مستعدة لطرحه وتكراره حتى القرن المقبل: «دو يو كونديم هاماس؟»… بدأت إسرائيل -أو استأنفت على الأصح- عمليات التطهير العرقي وتصفية الفلسطينيين وتهجيرهم، وارتكبت الفظائع التي شاهدها العالم أجمع.

وسأكتفي هنا مِن التذكير بما حدث، وأنقل لك تجربتي الشخصية في متابعة هذا العدوان… ما المشاعر التي اختبرتُها والأفكار التي راودتْني، وسؤالي لنفسي: ما الذي قدمتُه وما الذي أستطيع تقديمه؟ وما الذي خرجتُ به مِن هذه التجربة؟

إبادة جماعية لا حرب!

الأليم في هذه المجزرة أنها ليست حربا بين خصمين متكافئيْن أو غيْر متكافئيْن، وإنما هي النار تُصبُّ على رؤوس العزَّل والأطفال والعجائز. ولا أشكِّك هنا في شجاعة المجاهدين وقدراتهم، وأومن أنهم في المواجهات البريَّة أشجع من العدوِّ وأقْدر على المناورة منه، وأومن -فوق ذلك- أن العناية الإلهية تكلؤهم وأنهم منصورون لا محالة، ولكن المشاهد التي تهز النفوس الحيَّة هي مشاهد القصة المتواصل للأطفال والنساء، ولا حيلةَ ولا منفذ!

الحزن على الأحياء ليس على الشهداء!

نرى الجثث والأشلاء والمنتشلينَ من تحت الركام، ولا نملك إلا أن نحزن عليهم؛ ولكنَّ شعورا آخر ينتابني حين أنظر إلى الرجل يحمل جثَّة ولدِه والطفلة تقف على جثة أمها. بقدرِ ما يؤلم الموقف ويستدعي التعاطف أشعر بنوعٍ من الخزْي وأقول لنفسي: هل لديَّ الحق في أن أحْزن إذا لم يحزن ذوو الشهيد؟ أعني: هم الذين يحملون جثث أطفالهم لديهم حالة عجيبة من الثبات والسكينة ولا يزيدهم الموقف إلا عزيمة على الجهاد، فلم لا يتحوَّل حزني أنا إلى جهادٍ مِن نوعٍ ما يساعدهم مِن قريبٍ أو بعيد. هل لدينا -نحن المتسمِّرين وراء الشاشات- الحق في رفاهيةِ أن نحزن؟

ما الذي قدَّمتُه أو يمكنني المساهمة به الآن؟

أتساءل ما الذي قدَّمتُه للقضية وسأقدمه، ويردُ إلى ذهني الجواب الكسول الذي يرضي الضمير: ليس بيدك حيلة؛ لستَ صانع قرار ولا صاحب نفوذ، وإنما حظُّك الدعم بالمال أو الدعاء وهو حظٌّ وافر… ولستُ راضيا إطلاقا عن هذا الجواب، فلديَّ أدوار كثيرة كان يمكنني بها التغيير أو التحسين؛ ربما لو شاركتُ -وغيْري- قبل هذا في صناعة الوعْي من أجل القضية لكان لدينا جيل يتحمَّل مسؤولياته التاريخية، ربما لو صوتُّ في الانتخابات الماضية لفلان لكان أفضل في ضغطه وقراراته مِن النائب الذي صوتُّ له، ربما لو تبرَّعتُ بضعفِ ما تبرعتُ به قبل هذا للقضية لكنتُ أعنتُ مجاهدا ونصرتُه… إلخ.

وبعد ذلك الحوار الذي يمكنك اعتباره ترَفا لا نستحقه (كما قلتُ في الحزن سابقا)، تساءلتُ ما الذي يمكنني تقديمه الآن، وكان ثمة شعور هائل بالعجز!

ليس في عجزي أنا عن التحرُّك وحسْب؛ بل في عجز مجتمعاتنا وأمَّتنا؛ هذا العجز العضوي الذي لا يسلم منه قطاع ولا مجال.

أوَّل ما يخطر في البال هو النزول إلى الشارع، ولأنه ليس هنالك شارع يؤدي إلى سفارة إسرائيلية بنواكشوط، قررنا تفريغ ذلك الغضب والاستنكار أمام السفارة الأمريكية، وندَّدنا واستنكرنا ورفعنا الشعارات… وحين عدتُ إلى البيت كان الوضع في غزة أسوأ!

جربتُ الانخراط في حملات التبرُّع، والدعم الإعلامي، ونشر الوعي… وما زال السؤال حاضرا: ما الذي قُدِّم؟

الإنسان الغربي.. هل يُؤمن حقًّا بقيَمه؟

هذا سؤال لا يُراد منه التعميم قطعا، ولكنني تفاجأتُ بمدى رسوخ الأيديولجية الصهيونية لدى المجتمع الغربي المسيحي؛ هناك التزام ديني وأخلاقي بدعم إسرائيل ولو كان ذلك على حساب قيم العدل والحريَّة التي تعلمناها على أيدي المفكرين الغربيين.

في البداية، كنتُ أظن أن القاعدة العريضة من الناس تخدعهم وسائل الإعلام وهم بعيدون عن المشهد، وكنتُ أفرح بتعليقٍ إيجابي هنا وهناك على مواقف الفلسطينيين، ولكن كلما تعمقتُ اتضح أن ثمة التزاما راسخا لدعم اليهود ولو كانوا محتلِّين وغاصبين!

بين الحين والآخر.. هكذا أتسلَّى

لا أقصد بالتسلية اللهو وتزجيةَ الوقت؛ بل أقصد السَّلوة؛ وما يتعزَّى به المحزون فيسْلو به. 

فزعتُ إلى كلامِ الله الذي كان يُسلِّي به عن نبيِّه، فوجدتُ فيه السلوة نفسها، قرأتُ سورة الأحزاب فرأيتُها واقعا متمثلًا في تكالب الأمم على غزة، ورأيتُ تخاذل المنافقين الذين يزعمون أن بيوتهم عورة وما هي بعورةٍ إن يُريدون إلا فرار، وقرأتُ سورة الأنفال فوجدتُ تفسيرا ومعنى لأن يسير المجاهد يحمل قنبلته بيديه حتى يلامس الدبابة أختَ الميركافا فيدمِّرها ويرْجع سالِما!

ولأنَّ علاقتي بالشعر علاقة وجود رجعتُ إلى محمود درويش ورأيتُ «تساقط الأقنعة»:

«سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ 
سقط القناعُ 
ولا أَحدْ إلاَّك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيانِ، 
فاجعل كُلَّ متراسٍ بَلَدْ
لا.. لا أَحَدْ 
سقط القناعُ 
عَرَبٌ أَطاعوا رُومَهم 
عَرَبٌ وباعوا رُوْحَهُم 
عَرَبٌ… وضاعوا
سَقَطَ القناعُ»!

وقوله:

«لا تكتبِ التاريخَ شعراً، فالسلاحُ هُوَ المؤرِّخ. والمؤرّخ لا يُصَابُ برعشة الحُمَّى إذا سَمَّى ضحاياه ولا يُصْغي إلى سرديّة الجيتار. والتاريخ يوميّاتُ أَسِلحَةٍ مُدَوَّنةٌ على أَجسادنا: (إنَّ الذكيَّ العبقريَّ هو القويُّ)».

ورجعتُ إلى الشاعر العراقي مظفر النواب فقرأتُ قصيدته (عبد الله الإرهابي) فوجدتُ فيها مديحا لشخصية المقاوم ومديحا للثورة والثوَّار، ووجدتُ فيها شتائم مظفر النواب وهجائياته للحكام والقادة؛ شتائم يبدو أنها لم تنتهِ صلاحيتها بعْد!

«رشَّاشك يعقد قمته منفردا ونعالك في
قمتهم
اصفعهم عبدَ الله بأرض نعالك يخرجْ تاريخ عقاربْ
إن تسحبْ سحَّاب السروال عليهم نزلت للأرض سراويلهمُ
وقرار يفتح فخذيه وجلْسات مغلقة وعجائبْ
افتح عبد الله مسدسك الحربي
افتتح الجلسة فيهم أعداءً وأقاربْ»!

ما الذي خرجتُ به من هذه التجربة؟

تكشَّفت أمامي الكثير من الحقائق، وأعدتُ النظر في ميزان القوَّة الحقيقي، وترسَّخت قناعتي بمحدوديَّة المهنية والحياد في وسائل الإعلام الكبرى، وسقطت الأقنعة التي كانت تغطي وجوها مِن بني جلدتنا الموجودين بين ظهرانينا وقلوبهم مع العدوِّ خوفا منه وطمعا فيه.

وشهِدتُ -لا شكَّ- الكثير من القصص الأليمة التي ستبقى محفورة في الذاكرة، وأعلم أن ثمة آخرين لم نعرفهم؛ الله يعرفهم.

ولكن قصةَ يوسف أخذتْ مِن نفسي موقعا: قصة يوسف ليست أحسن القصص فحسب، بل أشدُّها تأثيرا في النفوس.

إذا لم تكن سمعتَ بيوسف فإليك أماراتِه ووصْفَه:

«يوسف عمره 7 سنين، شعره كيرْلي، أبيضاني وحلو»!

بشار كباد

مهتمٌّ بقضايا اللغة العربية وآدابها، وبالعلوم الشرعية والمعارف الإنسانية. ومهمومٌ بقضايا النهضة والتمكين.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كنت ولا زلت أشعر بما شعرت به وقد خرجت في بلدي مظاهرة لعدد قليل على خوف من فرعون اسرائيل الثانية
    أقترح عدم الاستشهاد بشعر مظفر النواب فهو كافر ملحد وله قصيدة او اكثر تستهزيء برب العالمين سبحانه وتعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى