الله أم الوطن؟ سؤالات الإنعام والوحدة والاعتصام
يعالج هذا البحث مسمّى الوطنيّة ومكانته القيميّة في سلّم العقيدة ويُحاكمه إلى الرؤية الشرعيّة المنهجيّة الصحيحة.
وقد تقدّم البسط للمنطلقات المنهجيّة المستقيمة واللّازمة لطرح سؤالات الانتماء للوطن، ووجاهة العمل له من رسالة الإنسان في الحياة، وكذلك سؤال الشّرف والكرامة وصحّة الاعتبار بالوطن في تحصيلها. وقد تمّ ذلك في المقال السّابق. ويلزم انطلاقا من هذه المقدّمات كذلك أن نتناول بالمناقشة قضيّتين في صلب موضوع الوطنيّة إن لم نقل أنّهما القضيّتان الأهمّ في هذا الباب.
أوّلا، يُبرّر كثير من الإسلاميين أو المحسوبين على التّيّارات الإسلاميّة، مفهوم الوطنيّة بأدلّة يريدون بها أسلمته وشرعنته. ويتمحور جلّ ما يسوقون من تقريرات وحجج حول مشروعيّة الوطن في بابين كبيرين هما: فضل الوطن على أبنائه وضرورته لتحقيق الوحدة واجتماع الكلمة.
ولا زلنا نرى من العاملين للإسلام من يرفع لافتة الوطنيّة مبتهجا جنبا إلى جنب مع لافتة الإسلام، بل وفي مناسبات كثيرة تراهم يرفعونها أعلى من لافتة الإسلام التي يجعلونها ذيلا مكمّلا لجمال مشهد خدمة الوطن البهيج. فلابدّ إذًا من استثارة السّؤالات الجوهريّة حول حقيقة الإنعام وصحّة نسبته للوطن وما يساق من الوحيين استدلالا في هذا الباب، وحول جدوى الاعتصام بحبل الوطن في إقامة الدّين وحقّانيّته.
فأوّلا، من صاحب النّعمة والفضل الحقيقيّين على الإنسان؟ الله أم الوطن؟
وثانيا، ما الذي يوحّدنا؟ وبأيّهما نعتصم بحبل الله أم بالوطن المشترك؟
1-بمنطق الإنعام
إنعام الله عزّ وجلّ لا يماري فيه إلّا كافر. بل إنّ كثيرا من المشركين لَيعترفون به كما كان حال مشركي العرب زمن النبوّة. يقول عزّ وجلّ: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ). فجمعت هذه الآية صفات الرّبوبيّة من مُلك ورزق وخلق وتدبير… والرّبّ بها هو المُنعم المطلق. وكلّ صاحب نعمة في الكون، فإنّ نِعمته من خلق الله وهي رزق لصاحب النّعمة أوّلا ومن ثَمّ لمن تعدّت إليه. واللّه بتدبيره هو جاعل أسباب الانتفاع بها ولولاه ما انتفع مخلوق بنعمة قطّ بل تستحيل عليه نقمة. فتأمّل مثلا نعمة الطّعام والشّراب لولا ضبطها بتدبير الله بالجوع والعطش، والشبع والارتواء -وهي من الحسّ الباطن المُركّب في الإنسان- لصارت وبالا على صاحبها فإمّا أن يموت جوعا أو أن يهلك من الإسراف. والله فوق هذا كلّه هو مالك النّعمة ومن سخّره لها في الدنيا، فلو شاء ذهب بأحدهما أو كليهما ولو شاء أبقاهما.
فالله بالمُلخّص هو أصل كلّ نعمة ولا يعلو فوق إنعامه شيء لأنّ كلّ إنعام هو في حقيقته منه وحده. فهو أحقّ بالشّكر وهو أحقّ بالطّاعة وإخلاص العبادة والولاء والانقياد.
وبعد هذا البيان الذي يوضّح منزلة الإنعام الإلهي في مقابل كلّ إنعام بما في ذلك ما يُنسبُ إلى الوطن، فإنّ كثيرا من الوطنيّين المُقرّين به قولا، يركنون إلى تشبيه مُجحف لتبرير الولاء المغالي الذي يصرفونه للوطن، وهو تشبيههم للوطن بالأمّ. وبأنّه الحضن الجامع لأبناءه وبأنّه يحميهم من أطماع الحاقدين، ويؤمن لهم العيش الكريم، ويصون كرامتهم، ويدافع عنها… وبأنّه رغيف الخبز، والسقف، والشعور بالإنتماء والدفء، والإحساس بالكرامة… وغيره من الكلام الشّاعريّ المُعبّر في الحقيقة عن خواء في القلب وتصحّر روحانيّ يُراد ملؤه بالتّغزّل بما يُسمّى بالوطن.
وبغضّ النّظر عن قيام هذه العبارات واقعا على الأرض من عدمه -والأمثلة أكثر من أن تُحصى على أوطانٍ تحوّلت إلى جحيم مستعر تحت أقدام أبناءها ولك أن تسأل المسلمين الروهينغا أو في إفريقيا الوُسطى عن الحضن الدّافئ والكرامة والسّقف.. بل سلهم عن رغيف الخبز..- بغضّ النظر عن هذا كلّه دعنا لوهلة نأخذ هذه المقارنة بين الأمّ والوطن على محمل الجدّ ونناقشها.
الله ورسوله عليه الصّلاة والسّلام بيّنا حقّ الأمّ -الوالدة تحديدا- ومكانتها وواجب البرّ نحوها وأكّدا عليه -وليس هذا مقام عرض الأدلّة على ذلك وهي أشهر من أن يُعرّف بها- ومع ذلك لا تجد في الوحيين أيّ صدًى لذكر البرّ الواجب نحو الوطن بل ولا نعرف أدلّة لصحّة تقديم الولاء للوطن على رابطة الدّين (كما هي حقيقة الوطنيّة التي يفهمها النّاس اليوم) وحتّى الأدلّة المزعومة على مشروعيّة حبّ الوطن فلا تدلّ على أكثر من الإقرار للألفة والتعلّق الفطريّ بدار الإنسان وبلده التي عاش فيها زمنا طويلا، هذا وإن دلّت عليه أصلا…
من ذلك ما احتجّوا به من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عندما خرج من مكّة مكرها: (والله إنّك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أنّي أخرجت منك ما خرجت). هل هذا نصّ في حبّ الوطن؟ أم نصّ في فضل بلد الله الحرام؟ هل ههنا تنصيص على حبّ الرسول لمكّة كمهاجر مُغترب يفارق وطنه الحبيب إلى قلبه، أم قال: أحبّ أرض الله إلى الله؟ ثمّ أليس في عطف ذكر الخيريّة لهذه الأرض مؤَكَّدًا توضيحا لأنّ هذا نصّ في فضل مكّة على غيرها من البلاد وتعليل للحبّ النّبويّ لها ولكلّ النصوص المُلتبسة التي تدلّ على محبّة النبيّ عليه الصلاة والسلام لهذه البلاد كقوله: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)، بل وإرشاد لنا أن نتأسّى به في حبّ مكّة نفسها وإن لم تكن وطننا؟
وبالمثل تجد غير هذا الدليل ممّا احتجّوا به في هذا الباب، متشابها في دلالته على المطلوب ويساق سوق المتغافل عن حقيقة الوطنيّة التي يفهمها النّاس ويعتقدونها واقعا، الّتي صارت بعيدة عن مُجرّد الألفة والتّعلّق الفطريّ. ولو صدقوا في معالجة الواقع بدل ليّ أعناق النّصوص لتطويعها للسّائد الغالب لكان خيرا لهم. ولو أنّهم ردّوا المحكم إلى متشابهه لاجتنبوا طريق الزّائغة قلوبهم في هذا الباب. فمحكمٌ قطعا أنّ الولاء للإسلام والمسلمين وأنّ رابطة الدّين فوق كلّ رابطة.. ومحكمٌ كذلك تفضيل بعض البلاد على غيرها تفضيلا ربّانيّا قائما على حُرمة البقاع ومشاهد العبوديّة والإيمان فيها، لا على أساس العصبيّة للأوطان
لم يكن هذا سوى استطراد لتبيين أنّ مقارنة الوطن بالأمّ لا تتوافق مع وزن كلّ من القضيّتين في الوحي ودرجة وضوحها. ولو كان الوطن بمنزلة الأمّ من الإنسان ما كان للقرآن أن يُغفله ولا يُبيّنه البيان الشّافي وقد شهد الله بكمال الدّين وأنّه ما فرّط سُبحانه في الكتاب من شيء. بل وما كان الله ليأمر بمصاحبة الأمّ بالمعروف رغم مجاهدتها ابنها أن يشرك بالله، ثمّ يأمر بالخروج من البلاد الكافر أهلُها (وإن كانت موطنك).
تأمّل قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ). فمن عظيم فضل الأمّ على الإنسان أن حملته وأرضعته من جسدها فأوهنته وأذهبت من قوّته لتبني جسد مولودها وعقله وتقيمه حتّى يبلغ أشُدّه، ثمّ تساءل أين هو إنعام الوطن الأصمّ الأبكم؟ ثمّ تأمّل مع ذلك كيف قدّم الشّكر لله مع ذلك على شُكر الأمّ لأنّه أصل كلّ نعمة ومصدرها.
قد يعترض مُعترض أنّ الوطن ليس بالأصمّ ولا الأبكم، بل إنّه يُحبّنا ويُفترض بنا أن نبادله الحُبَّ، مستدلا بحديث (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) عن جبل أُحُدٍ. فيُردّ عليه من وجوه:
أوّلها أنّ هذا نصّ في فضل جبل أحد ولا يشمل كلّ وطن. فنُلحقه بما ذكرنا سابقا من تفضيل بعض الأماكن والبلاد بشهودها مشاهد الإيمان والعبوديّة لله.
ثانيا، هذا الحديث يدخل أيضا في شمائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو دالّ على حبّ الجمادات له -كدلالة حنين الجذع إليه- سواءً بسواء كما بيّنه أهل العلم. وما اتّصال الضمير الدّال على الجماعة إلّا دليل على حبّ الجبل لأصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم أيضا لأنّهم أصحابه وأحبّاءه وأنصاره، فيستحقّون أن تشملهم المحبّة معه وهم يُؤيّدونه في رسالته.
وثالثا، الجبل مخلوق من مخلوقات الله سخّره الله للإنسان وهو مفطور على حبّ المسلمين لإسلامهم، لا لأنّهم أبناء الوطن! هو يحبّهم في الله لا للشّراكة في الوطن. المؤمن هو متناغم مع هذه الأرض -العابدة لله- التي هي لله وتستوي فيها جبال الأرض كلّها إلا جبلا شرّفه الله وخصّه أو بارك فيه بمشهد من مشاهد التوحيد وإعلاء هذا الدين. وليس أدلّ على ذلك من قوله تعالى عن إهلاك آل فرعون (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) عن سعيد بن جبير قال : أتى ابن عباس رجل فقال : يا أبا عباس أرأيت قول الله : ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) فهل تبكي السماء والأرض على أحد ؟ قال : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه ، وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه بكى عليه ، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض.
وأخيرا، فإنّ هذا الاعتراض ينطوي على اعتراف صريح بأنّ الوطن هو مجموعة من السهول والجبال والهضاب والمشاهد الطبيعيّة… من قال بذلك وتأمّل فيه لحظة سيستحي من هذا القول. أ ففي سبيل الجبال والسّهول يقاتل الإنسان ويضحي بنفسه؟ أم في سبيل الهضاب والصحاري يعمل ويكِدّ ويثابر؟
ومن النّاس من يجعل إنعام الوطن هو في إنعام بُناته وكبار رجالاته على عامّة من عاش وانتمى إليه.
والرّدّ هو أنّ فضل صاحب الفضل لا يخرج عن كونه قام بواجب أو بخيرٍ فأتمّه فيُشكرُ الجهد ويُثنى عليه، ويُدعى النّاس إلى مثله من باب الأمر بالمعروف والدّعوة إلى الخير والإصلاح. وأمّا الفاعل فأمره إلى الله يحاسبه بحسب نيّته. فلو أنّه لم يعمله خالصا لوجه اللهِ مُمتثلا أمره مُبتغيا أجره لكان حابطا عند الله لا قيمة له (كأن يعمله كافرٌ لم يدخل في الإسلام). وقد سبق بيان الغاية الكبرى في الكون وفي سبيل أيّ هدف يُبذل العمل.
ولا وجاهة للقول بالوطنيّة لأنّه عاش فيما مضى رجل مُصلح عمل صالحًا في هذه البلاد، وذلك وفاءً له وحفاظا على المكاسب الوطنيّة العظيمة التي ضحّى في سبيلها. فإنّ المكاسب إمّا مكاسب حقّ فيحافظ النّاس عليها طاعة لله وإمّا مكاسب باطل فينبغي أن يُسعى في هدمها ولا كرامة لأحد، إذ الحقّ أحقّ أن يُتّبع.
ولو تسنّى للوطنيّين أن يطّلعوا على أبطال الوطن الذين ضحّوا في سبيله لا في سبيل الله وعبوديّته، لوجدوهم مشغولين في قبورهم بما أنساهم الوطن والوطنيّة وكلّ ما يمُتّ إليه بصلة. ولو نطقوا فأخلصوا لهم النّصح لقالوا لهم: دعكم من الوطنيّة واعملوا لله قبل أن تندموا يوم لا ينفع النّدم.
2- بمنطق الوحدة والاعتصام
إلى هذا الحدّ من البحث، يُفترض بالقارئ اللّبيب أن يقول في نفسه: ثبت أنّنا للّه وحده ننتمي على الحقيقة، وإليه المصير، وله نعمل ونجتهد ونُطيع، وفي ذلك وحده شرفنا ومجدنا، والله وحده هو المُنعم المستحقّ للشّكر والامتنان… فـهل يُعقل أن نعتصم بغير حبله وأن نلوذ بغير شريعته وأن نتوحّد على غير عبوديّته؟!
من اعتصم بغير حبله فقد اعتصم بحبل واه مُهترئ هزيل سينقطع به. ذلك بأنّ الله هو المُدبّر الضّارّ النّافع وحده. وهو – بحكمته وعدله – لا يعصم إلّا من أطاعه ولا ينصر إلّا من وعده على إيمانه. ولذلك دعانا دعوة صريحة إلى الاعتصام بالحبل الوحيد الذي يُوحّدنا وحدة حقيقيّة، فقال عزّ وجلّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
والمتأمّل في هذه الآية يجد أنّ في قوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) حصرا لاحتمالات الفّرقة والاجتماع في احتمالين لا ثالث لهما: إمّا اعتصام بحبل الله، وإمّا فُرقة! إي والله! وإنّها لحقيقة واقعة لا تخفى إلّا على غافل. ولا زلت أعجب من غفلة بعض المسلمين عنها وهي قائمة على وجه الدّهر ساطعة كالشمس في وضح النّهار. فاليوم هذه القوميّات الكثيرة والدويلات الوطنيّة المشرذَمَةُ والمُشرذِمة لصفّ المسلمين هل يُرجى يوما من ورائها وحدة؟ انظر كم عدد الفروق العصبيّة الّتي يُعمل بها لتحديد الانتماءات والولاءات: الرقعة الجغرافيّة، اللّغة، اللهجة، التّاريخ، المصالح الاقتصاديّة الضّيّقة، العادات والتّقاليد، الرّموز الوطنيّة،… وستستبين لك فُرقة الأوطان والمصالح الوطنيّة الضيّقة في مقابل وحدة العبوديّة والاتجاه بالقصد والطلب لله الواحد وتحقيق المصالح الأخرويّة النّافعة للبشر جميعا على السّواء. بل وداخل الوطن الواحد تجد أبناءه في انقسام دائم شِيَعًا متناحرة متصارعة. إن لم تتقاتل دمويّا على مصالحها المادّيّة فإنّها تتنازع فاشلةً: فيحلّ بعضها اليوم ما عقده البعض بالأمس، وينقض بعضها ما غزل بعض، ويهدم بعضها ما بنى بعض، ويُهدر بعضها ما أنفق بعض، والحبل على الجرّار… بل حتّى ما يُسمّى بالدّول الديمقراطيّة المستقرّة العريقة في ديمقراطيّتها، قد ترى القانون فيها يُقرّه البرلمان لخمس سنين أو أقلّ هي مُدّة حكمه بعد جهد جهيد ومفاوضات حثيثة وصراعات سياسيّة مريرة، ثمّ يُنتخب برلمان جديد وتصعد قوّة سياسيّة أخرى فتشرع في الهدم والنّقض وإلغاء القديم… وأموال الشعوب المسكينة في هذا كله تُنفق على رواتب البرلمانيّين وتُهدر على الأطر والآليّات التنفيذيّة ولا تُحصّل إلّا عبثا مُستمرّا يبعث على السّخرية تفنى فيه الأعمار وهي لا تتقدّم قيد أنملة إلّا بالشّاقّ الوعر من الاختلاف والفُرقة والصّراعات.
ثمّ أهمّ وأظهر من ذلك، يُخبرنا الله جلّ وعلا في الآية أنّ تأليف القلوب بين الأعداء السّابقين هو من عمله ولا يتمّ إلّا بقدرته وإنعامه (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا). فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرّحمن يُقلّبها كيف شاء. وجرت سُنّته وحكمته أن يُطيّب قلوب الصّالحين ويجمعها في الدّنيا والآخرة. بدليل الآية الآمرة بالاعتصام وبدليل قوله عزّ وجلّ: (إنّما المؤمنون إخوة) فدلّ ذلك على حصول الأخوّة بينهم قدرا إذا آمنوا، ومثله حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وصف المؤمنين بأنّهم بُنيان مرصوص يشدّ بعضه بعضا. فذلك مع كونه حثّا لهم على إصلاح ذات بينهم والتّعاون والتّكاتف ولا يكون ذلك إلّا بالإيمان لأنّه إنّما وُصف به المؤمنون دون غيرهم، هو أيضا وصفٌ لحال المؤمنين واقعا.
وإنّ الدعوة إلى الوحدة الّتي نسمعها على المنابر وغيرها إذا خلت من بيان شرط الإيمان وطاعة الله التي هي سبيل تحقّقها الوحيد وأنّها لا تكون إلّا بالاعتصام بحبل الله فإذا أغفلت ذكر الطريق إلى تحقيقها، فهي لا تعدو كونها دعوات ضبابيّة لا فائدة منها على المُتلقّين لها، ولا تحيلهم على عمل واضح يُقبلون عليه ويجتهدون فيه… بل قد يسعون بها إلى التّوحّد حول أيّ شيء وإن كان الوطن وإن تنافرت العقائد وتباعدت الغايات والقيم. وهذا سعي ضالّ في ذاته، كما أنّه لا يوصل إلى مطلوب الوحدة أصلا كما بيّنّا. وكم نرى ذلك حاصلا واقعا إذ تسمع من يعترض على الدّعوة إلى إقامة شرع الله والحكم بدينه بأنّها دعوة تُفرّق. يظنّ أنّ ما به وحده يحصل الاجتماع [وهو طاعة الله] هو سبب فُرقة النّاس!
ولعلّ البعض لا يزال يحتاج إلى قنديل أخير يستضيء به في وضح النّهار الأبلج. فنُخبره بأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حذّر باللفظ في نصّ صريح من الانخراط في أيّ جماعة حاكمة عاملة لغير الإسلام ولو أن يعضّ الرّجل على أصل شجرة معتزلا حتى يأتيه الموت وهو كذلك. ولا أحسب هذا الحديث يصف حالا أدقّ من حال الدّول الوطنيّة اليوم وضرورة اعتزال الفئام التّي تُديرها وتسهر على بقائها واستمرارها.
يقول صلّى الله عليه وسلّم لحذيفة لما قال: ((يا رسول الله كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، قال حذيفة: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر، فقال حذيفة: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا – يعني من العرب – قلت: يا رسول الله فما تأمرنا عند ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))
فالأمر هنا باعتزال الفرق المذكورة هو – كما بيّنه لنا شيخنا عمر محمود وكما يظهر لنا – يتنزّل على الفرق الحاكمة، أي الفرق السياسيّة ويدلّ على ذلك أمور:
أوّلها ذكر الإمام. فالنّبيّ أمره أوّلا بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، فلمّا سأل حذيفة: قال فإن لم يكن لهم جماعة ولا أمام. ومعلوم أنّ الجماعة قد تكون بإمام وقد تُطلق على الجماعة من أبدان قوم متفرّقين أو متفرّقين من حيث الطّاعة لكنّهم على عقيدة واحدة. فأهل السنّة مثلا جماعة ولكن لا إمام لهم موحّدا. فليس ذكر الإمام هنا عفوا زائدا بل هو دقيق في توضيح نوع الجماعة المقصودة.
ثانيا، عُلم من حديث الطّائفة المنصورة المتواتر المشهور أنّه لا يخلو زمان من طائفة “على الحقّ” فلا يكون لسؤال حذيفة: “فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟” هنا معنى لو كان المقصود هو الجماعة بالمعنى العامّ. فهو إمّا علم بهذا قبل سؤاله: فيكون سؤاله عن أمر غير ممكن واقعا وهو قبيح! ويكون جواب النّبيّ له عن أمر غير ممكن لغوا لا طائل منه وهو أقبح. أمّا إن كان لا يعلم (أو علم ونسيه عند سؤاله) بعدم خلوّ زمان من طائفة من النّاس على الحقّ فالمنتظر من النّبيّ صلى الله عليه وسلّم المُبيّن عن الله أن يجيبه بعدم الإمكان لا أن يحيله على أمر يذهب معه اعتقاد حذيفة إلى الإمكان – وفي ذلك مفاسد لا تخفى – منها عدم بحث حذيفة عن الطّائفة المنصورة وكذلك احتمال تيئيسه من نُصرة الله له في حال لم ير ممّن حوله أحدا على الحقّ والحال أنّ الطّائفة المنصورة منصورة أبد الدّهر بثباتها على الحقّ.
ثالثا، الأمر باللّزوم وبالاعتزال لا يكون لها معنى في هذا الحديث إلّا أن يكون اعتزالا أو لزوما تنظيميّا سياسيّا تنفيذيّا لا فكريّا عقديّا. لأنّه لو لم يكن كذلك لكان أمر النّبيّ بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم أمرا صريحا باعتقاد ما يعتقده المبتدعة إذا لم يبق غيرهم على الإسلام أو إذا لم يعرف المسلم غيرهم، وهذا غير ممكن. هل يُعقل أن يأمر النّبيّ المسلمين بأن يصيروا مُعتزلة في زمان المأمون؟!
حاشاه عليه الصّلاة والسّلام، إذ هذا لا يخفى على أحد مفسدته العظيمة على الدين. وكذلك سؤال حذيفة يكون سؤالا معلوم الجواب: فأهل الحقّ لا يُشترط اجتماعهم في بلد واحد وتحت إمرة إمام واحد كما بيّنه أهل العلم، بل قد يكونون مبثوثين في الأمصار كلٌّ يعمل من موقعه فُرادى وجماعات. فإن لم يكن لهم جماعة تنظيميّا فالمسلم مأمور في كلّ الأحوال بلزوم الحقّ اعتقادا وعملا ويدخل بذلك في جملتهم.
فبالمُحصّلة يكون أمر النبيّ باعتزال تلك الفرق هو بترك العمل معها ومفاصلتها تنظيميّا وحركيّا: فلا يشتغل المسلم عريفا ولا جنديّا ولا شُرطيّا ولا قاضيا ولا سجّانا ولا يعاونهم في شيء البتّة على ما هم فيه من الحكم بغير ما أنزل الله ولا على الدّعوة إلى ما وصفه النبيّ به من أنّه دعوة على أبواب جهنّم من أجابهم إليها قذفوه فيها: من ذلك التّحاكم إلى غير شرع الله والولاء الوطنيّ أو القوميّ الملحد والتسوية بين الكفّار والمؤمنين وغيره من دعوات الكفر التي تنادي بها الأنظمة الوطنيّة الحديثة.
في الختام
معالجة قضيّة الوطنيّة ومركزيّة الله والقصد إليه يُفترض به أن يكون بحثا محسوما من البداية.
الله أم الوطن؟ ألا يكفي السّؤال وحده في الحسم والإفحام؟ وهل يثقل مع اسم الله شيء؟ أم هل يقوم بغيره شيء؟ وهل يُعقل أن يقصد إلى غيره شيء؟ أم هل يُتصوّر أن يستغني عنه أو يُحتاج معه إلى شيء؟ سبحانه!
ولكن الواقع يشهد بمشكلتين تدعوان بإلحاح إلى ضرورة الخوض في هذا الموضوع بصراحة وتحبير ما يلزم من السطور لعلاجها:
أوّلها، الفهم السائد لمفهوم الوطنيّة ينطوي على إعادة صياغة جذريّة لمنظومة الولاء والبراء وتقديم الوطن على الدّين بشكل مُشين. وكان سكوت طرف من المنتسبين للعلم والدّعوة، وتلبيس آخرين بسوء قصد أو بغفلة عن تصوّر الواقع تصوّرا صحيحا، مساهما في تثبيت علمنة نظام العلاقات في المجتمعات الإسلاميّة. ولم يعصم الله من هذا الوباء إلّا القليل (نخصّ بالذكر منهم غالبيّة المجتمع الأفغانيّ) فكان من أشدّ أسباب الهزيمة والتّمزّق في الأمّة. فكان لا بدّ من بيان.
ثانيا، علوّ زعيق هؤلاء الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزّت قلوبهم! وإذا ذُكرت الوطنيّة إذا هم يستبشرون! يتكلّمون وكأنّ دعوى الوطنيّة العلمانيّة دعوى حقّ مقدّسة لا تقبل الطعن والتّشكيك. فكان لا بدّ من ردّ يوقظ الغافل و من كلام يُحاصر القلوب المُشمئزة ويعزلها عن كلّ منيب يحتاج إلى تذكير. فإنّ من أهداف هذا المقال كسر صنم الوطنيّة في نفوس غافلة سلّمت له، وجعل من يرفعه -وقحا نابذا وراء ظهره الشرع الذي به وحده يقوم النّاس بالقسط- جعله يستحيي منه ويتلعثم إذا ما دعا إليه بعد أن كان ينادي به نداء الواثق.
نسأل الله الإخلاص في القول والعمل والله أعلم.