نظرة في الفكر القومي العربي

أُطلق مصطلح الجاهلية على الفترة التي سبقت الإسلام، وذلك لمّا كانت الأرض برمّتها تعاني من جهل بخالقها ودينها، وكان العرب من بين تلك الشعوب التي تخبّطت في المجال العقدي، أمّا من الناحية الاجتماعية فلم يكونوا أزيد من قبائل يغزو بعضُها البعض، فتقتات من السلب إلى جانب الرعي والتجارة، وما زالوا كذلك حتى البعثة المحمدية، حيث أنار الإسلام قلوبَهم، وصاروا أمة بعد أن كانوا قبائل متناحرة، وجاءت الآيات والأحاديث لتعزّز رابطتهم الوليدة، رابطة الإخوّة الإسلامية، التي حلت محل رابطة الدم، وأسّسوا دولتهم المنبثقة من ثقافتهم بعد التبعية والقبليّة، وترأس النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الدولة، وبعد موته خلفه أبو بكر الصديق ليبدأ به عصر الخلاقة الراشدة، إلا أنه لم يدم طويلًا حتى انتقل الحكم إلى الشام متمثلًا بالدولة الأموية، ثم إلى بغداد متمثلًا بالعباسية، ومع ضعف الدولة العباسية بدأت الدوليات تتشكل هنا وهناك، ثم انتقلت الخلافة للعثمانيين، وشهد تاريخ معركة “مرج دابق” بين العثمانيين والمماليك عام 1516 م أول دخول العثمانيين إلى البلدان العربية، والعرب إلى جانب غيرهم من الأعراق والأجناس عاشوا تحت ظل تلك الدول، وشكّلوا مع الأتراك العنصريَن الأساسيين في الدولة العثمانية.

أوروبا في العصور الوسطى

أما عن الحال في أوروبا، فقد كانت تعيش أسوء أزمانها في العصور الوسطى العصور المظلمة كما أسموها وهي الفترة التي تمتدّ من القرن الخامس الهجري إلى الحادي عشر، حيث كان مستوى الثقافة والتعليم معدومًا، وكانت سلطة الإقطاع هي النافذة، وساد الظلم، وعمّ الفساد، وحين تزايدت مساوئ الإقطاعيين، اتجه الناس إلى الكنيسة، ومنحوها ولائهم الكامل، فمارست عليهم سلطتها الدينية والدنيويّة، إلّا أن انتشار الفساد في الكنائس والأديرة قد مهّد لحالات تمرد على تعاليم البابا، وعاشت أوروبا في هذه المرحلة حروبًا دينيةً طويلةً، أدت إلى بزوغ عصر النهضة في ربوع أوروبا، بعد أن تقلّصت صلاحية رجال الدّين، وأصبح عملهم يختصّ بالأمور الدينية فقط.

ومع بداية الثورة الفرنسية عام 1789 م بدأ عصر القوميات في أوروبا، وتكوّنت العديد من النظريات القومية، كان منها الألمانية التي تنصّ على أنّ اللغة والتاريخ هما عاملي تكوين الأمة. والفرنسية التي تعطي العوامل الجغرافية دورًا كبيرًا في نشوء الأمم. أمّا النظرية الستالينية فتعتبر أنّ الأمة تأتي حصيلة عدة عوامل هي: الجماعة المستقرة على أرض محدودة، وذات اقتصاد مشترك، ولغة واحدة، وذات تراث ثقافي مشترك.

نهاية الرجل المريض

وبالعودة إلى الأوضاع في الدولة العثمانية فإنها لم تعد تستطيع مواكبة الانفتاح الحضاري لدى خصومها الغربيين بعد الثورة الصناعية، وصار البَين واسعًا، واتّسع الخرق على الراقع، وأصبحت الدولة مترهّلة، حتى سميت بالرجل المريض، ومن هنا رأى البعض بضرورة تغيير الواقع، فاختلفت السبل في ذلك، إلّا أن التيار الأبرز كانوا دعاة القوميات، حيث رأوا في النموذج الغربي مثالًا يحتذى به، وربطوا النهضة الغربية بإقصائها للدّين، فعملوا على تطبيق الواقع الغربي بحذافيره في بيئتهم، وتبنّوا القومية الغربية أساسًا للتغيير.

بداية نشوء القومية العربيّة

انطلقت الدعوة إلى القومية العربية في القرن التاسع عشر من عند مسيحيي بلاد الشام. فاهتمت المدارس البروتستانتية والعائلات المسيحية في منتصف القرن التاسع عشر باللغة العربية، والأدب العربي. ثم أصبحت الدعوة إلى القومية العربية أكثر تبلورًا عندما دعت بعض الشخصيات والأحزاب التركية إلى الطورانية (1) وأبرزها “حزب الاتحاد والترقي” الذي دعا إلى تتريك الخلافة العثمانية، فكان رد فعل العرب بروز تيارات تدعو إلى القومية العربية، ونشأت عدة جمعيات منها: جمعية العربية الفتاة، والجمعية القحطانية…

كانت مطالب العرب تتمحور حول الخدمة العسكرية للشباب العربي، واللامركزية في الشؤون الإدارية وبعض الشؤون الأخرى، فعقد القوميون العرب لذلك مؤتمرًا في باريس عام 1913 م، ولم يتطرق هذا المؤتمر للانفصال عن الخلافة العثمانية. إلا أنّ الانفصال كان مطلبًا من مطالب الدول الكبرى، حيث أرادوا تقسيم الخلافة العثمانية، والاستيلاء على أراضيها.

ولأجل ذاك الهدف كانت تلك الدول تغذّي كلًا من القوميتين التركية والعربية، واستغلت هذه الدول قيام الحرب العالمية الأولى 1914 م ووقوف الأتراك إلى جانب ألمانيا لتحرّض العرب على التمرّد، ووقفت وراء ثورة الشريف حسين بما يسمى بالثورة العربية الكبرى عام 1916م فتم طرد الجيوش العثمانية من فلسطين وسوريا عام 1917 م وتقاسمت انكلترا وفرنسا البلدان العربية وقامت دول ذات أيديولوجيا قومية عربية أثناء الانتداب وبعده.

أبرز منظري الفكر القومي العربي

1. ساطع الحصري: يأتي اسم المفكر والتربوي السوري ساطع الحصري (1879-1968) في مقدمة رواد الفكر القومي العربي، من مؤلفاته “حول القومية العربية”، و”آراء وأحاديث في القومية العربية”، و”آراء وأحاديث في الوطنية القومية”، و”دفاع عن العروبة”، و”العروبة أولًا”. وكغيره من القوميين، تأثر الحصري بفلسفة المثاليين الألمان، وفي مقدمتهم الفيلسوفان: فيختة ونيتشة.

2. محمد عزة دروزة: (1887-1984) كاتب ومؤرخ فلسطيني برز فكر دروزة القومي بشكل أساسي من خلال كتاباته في اللغة، عبر كُتُب عدّة له كـ: “تاريخ الجنس العربي”، و”العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي”. إلى أن تبلورت آراؤه مع كتاب “الوحدة العربية” الصادر عام 1946.

3. قسطنطين زريق: (1909-2000) في أواخر العشرينيات أسهم بتنظيم “جماعة القوميين العرب”، والتي خرجت منها لاحقًا تنظيمات قومية، مثل “حزب فلسطين العربي”، و”عصبة العمل القومي”، وانتهاء بتأسيس “حركة القوميين العرب” عام 1948. من كتبه “الكتاب الأحمر” والذي اعتبر بمثابة “الميثاق” للقومية العربية، و “الوعي القومي”.

4. ميشيل عفلق: (1910-1989) ويعتبر كتابه “في سبيل البعث” خلاصة النتاج الفكري لعفلق. وفي عام 1941 م شارك عفلق بتشكيل تنظيم سياسي قومي باسم “الإحياء العربي”، وفي عام 1947م كان عفلق من القائمين على عقد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي، وجرى انتخابه عميدًا للحزب. وفي عام 1952 م اندمج الحزب مع الحزب الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني ليصبح باسم “حزب البعث العربي الاشتراكي”.

ومن الأسماء البارزة أيضًا ياسين الحافظ ونديم البيطار.

تحليل مضمون القومية العربية

ساطع الحصري أبرز منظري فكر القومية العربية.

وإذا ما أردنا تحليلًا لمضمون القومية العربية، فلا بد من الاستشهاد بكتابات ساطع الحصري أبرز مفكري القومية العربية وأقدمهم ورائدهم، الذي اعتبر أنّ القرن التاسع عشر هو عصر القوميات في أوروبا، والقرن العشرين هو عصر القوميات في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، واعتمد النظرية الألمانية في تنظيره للقومية العربية، والتي تعتبر بدورها أنّ اللغة والتاريخ هما عاملي نشوء الأمة، في حين أنّ النظريات الأخرى من مثل النظرية الفرنسية متمثلة بالحزب القومي السوري الاجتماعي، والوفد المصري. ومن مثل النظرية الستالينية متمثلة بالحزب الشيوعي، اندثرت، واستقرت القومية العربية على ما نظّر له ساطع الحصري الذي قال:

“إن أسّ الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة والتاريخ، لأن الوحدة في هذين الميدانيَن هي التي تؤدي إلى وحدة المشارع والمنازع، وحدة الآلام والآمال، وحدة الثقافة، وبكل ذلك تجعل الناس يشعرون بأنهم أبناء أمة واحدة، متميزين عن الأمم الأخرى.”

ولكن لا الدين ولا السياسة، ولا الحياة الاقتصادية تدخل في مقومات الأمة الأساسية. كما أن الرقعة الجغرافية أيضًا لا يمكن أن تعتبر من المقومات الأساسية، وإذا أردنا أن نكوّن عمل كل من اللغة والتاريخ قلنا: اللغة تكون روح الأمة وحياتها، والتاريخ يكون ذاكرة الأمة وشعورها.”

ويرى الحصري أنّ الرابطة الدينية لا تكفي وحدها لتكوين القومية فيقول:

الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية، كما أن تأثيرها في تكوين السياسة لا يبقى متغلبًا على تأثير اللغة والتاريخ. إن هذا التأثير يشتد ويتراخى، يتقوى ويتلاشى، حسب تطور علاقة الدين باللغة، ويبقى أمرًا ثانويًا في تكوين القوميات بالنسبة إلى اللغة والتاريخ.

طرْح الحصري هنا يبيّن مدى تبنيه للنظريات القومية الغربية، وتطبيقه لها بشكل حرفي، فالأمم الأوروبية تشكلت بعد ثورتها على الكنيسة، وحصول الفصام بين رجال الدولة ورجال الدين، فالحصري أراد تفسير ثقافة الأمة الإسلامية بعنصري اللغة والتاريخ بعيدًا عن الدين.

وزعم الحصري أن الدّين الإسلامي لا يقوى على تشكيل أمة مستندًا على بعض أحداث النزاع بين الأتراك والعرب في القرن التاسع عشر، ومشكلات للشعوبية (2) مع الدول الإسلامية.

نظّر الحُصَريّ للّغة والتاريخ كعاملين لنشوء الأمة ولكنه لم يبيّن كيف كوّنا الوحدة الثقافية، ولا كيف شكّلا الوحدة النفسية من عواطف ومشاعر وآلام، ولا كيف أدّيا إلى تمازج الأجناس وقبولها التعايش مع بعضها البعض، ولا كيف توصّلا إلى وحدة العادات والتقاليد.. إلخ

أهداف القوميين العرب وإنجازاتهم

وبعد فهم مضمون القومية العربية نتعرف على إنجازاتها في الوطن العربي، متمثلة بقيادات الدول في الوطن العربي، إذ أنهم تبنوا القومية العربية كأيديولوجيا لهم، وهم من طبّق رؤيتها وتصوراتها وأفكارها وتخطيطاتها..

كانت مصر بين الحربين العالميتين تدين بالقومية المصرية بعد ثورة سعد زغلول عام 1919 م، لكن الانقلاب الذي قام به جمال عبد الناصر في مصر عام 1952 م نقل مصر من إطار القومية المصرية إلى إطار القومية العربية، واستطاعت مصر بقيادة عبد الناصر أن تؤثر في معظم الدول العربية وتجعلها تحمل أيديولوجيا القومية العربية، فقامت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 م تطبيقًا للمبدأ الوحدوي في أيديولوجيا القومية العربية، ثم وقع انقلاب عبد الله السلال في اليمن عام 1961 م ونقل اليمن من الإمامة الدينية إلى القومية العربية، وانتقلت الجزائر من الاستعمار إلى القومية العربية بقيادة أحمد بن بلّة وهواري بومدين بعد الاستقلال عام 1962 م، أما ليبيا والسودان فانتقلتا إلى القومية العربية بعد انقلاب معمر القذافي وجعفر النميري 1969 م، وانتقلت العراق وسوريا بعد انقلاب 1963 م إلى شق آخر منها وهي القومية العربية البعثية …إلخ .

طبقت هذه الدول وغيرها أيديولوجيتها في المجال الاجتماعي والاقتصادي والتربوي والإعلامي والفكري.. وتبنّت العديد من الأهداف، منها:

  1. إقامة الوحدة بين الأقطار العربية.
  2. إيجاد رابطة جديدة تجمع بين أبناء العروبة.
  3. تحقيق مجتمع حديث.
  4. منع إسرائيل من القيام ومن التوسع.
  5. إقامة مجتمع مستقل ومزدهر اقتصاديًا.. إلخ.

ففي مجال الوحدة أقامت سوريا ومصر اتحادًا عرف بالجمهورية العربية المتحدة عام 1958 م إلا أنه لم يستمر طويلًا حتى فشل وبرزت الرابطة القطرية والعرقية في العديد من البلدان بعد هذا المحاولة.

فشلت الدول القومية من منع قيام إسرائيل عام 1948 م حيث كانت سوريا والعراق والأردن تتبنى الفكر القومي آنذاك، إلا أن الفشل الأكبر كان في نكسة 1967 م حيث احتل العدو الصهيوني الجولان من سوريا، وسيناء من مصر، والضفة الغربية من الأردن، وحين وقوع النكسة كانت معظم الدول العربية تتبنّى القومية العربية.

أما عن الوحدة الثقافية فمن منطلق رؤية القوميين بأن الدّين هو سبب التخلف، ومعوّق أمام التقدم الحضاري، عملوا على إقصاءه من الحياة السياسية وعزله في المسجد. وازداد الوضع سوءًا حين امتزج الفكر القومي مع الماركسي الشيوعي، فانتشر الإلحاد وزادت الكتابات التي تشكك بالغيبيات.

ومن الأمور التي لوحظت بُعيد انتشار الفكر القومي في الأقطار العربية ازدياد قلق الأقليات العرقية داخل تلك الأقطار، التي أصبحت أكثر تصريحًا ومطالبةً بحقوقها وسعيًا للاعتراف بوجودها المستقل ولغاتها وعرقيتها وثقافتها وحقوقها التعليمية.

أما مجالي الاقتصاد والتعليم فلم يلحظا أيّ تقدم، بل على العكس من ذلك فإن التقارير تشير إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والتعليمية، وقد أشارت “المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلومأنّ الأمية في الوطن العربي بلغت 40%، وفي تقرير “التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة والجامعة العربية عام 2002 م” أشار أنّ نسبة البطالة بلغت 15% وهي أعلى نسبة في العالم.

أدركت الشعوب هذا القصور الذي خلّفه الفكر القومي العربي، فتراجعت شعبيته، وتهيّأت الظروف لولادة حقبة جديدة سميّت بـ “الصحوة الإسلامية” التي بدأت منذ عام 1970 م تقريبًا واستمرت حتى يومنا الحاضر.

المصادر

  1. الطورانية: هي حركة سياسية قومية ظهرت بين الأتراك العثمانيين أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هدفت إلى توحيد أبناء العرق التركي الذين ينتمون إلى لغة واحدة وثقافة واحدة.
  2. الشعوبية: هي حركة اجتماعية قومية ظهرت بوادرها في العصر الأموي، إلا أنها ظهرت للعيان في بدايات العصر العباسي. وهي حركة من يرون أن لا فضل للعرب على غيرهم من العجم. وقد تصل إلى حد تفضيل العجم على العرب والانتقاص منهم.
  3. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. (عبد الرحمن الكواكبي)
  4. ما هي القومية ؟ (ساطع الحصري)
  5. آراء وأحاديث في الوطنية والقومية. (ساطع الحصري)
  6. محاضرات في نشوء القومية العربية. (ساطع الحصري)
  7. إشكالية النهضة بين الفكر القومي العربي والصحوة الإسلامية. (الدكتور غازي التوبة)
  8. الفكر العلمي العربي نشأته وتطوره. (الدكتور جورج صليبا)

أحمد الحسين

مهتمٌ بالأدب والفكر، وطالبٌ للعلم الشرعي والكوني.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. ما شاء الله، بارك الله بقلمك أخي أحمد.. أسأل الله أن يفتح عليك وننتظر مقالاتك الجديدة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى