الله أم الوطن؟ سؤالات الانتماء والغاية والشّرف
يعالج هذا البحث مسمّى الوطنيّة ومكانته القيميّة في سلّم العقيدة ويُحاكمه إلى الرؤية الشرعيّة المنهجيّة الصحيحة.
وقد تقدّم البسط للمنطلقات المنهجيّة المستقيمة واللّازمة لأن نطرح الآن سؤالات الانتماء للوطن، ووجاهة العمل له من رسالة الإنسان في الحياة، وكذلك سؤال الشّرف والكرامة وصحّة الاعتبار بالوطن في تحصيلها:
أوّلا، إلى أيّهما الإنتماء الحقّ؟ وبأيّ منهما يرتبط مصير الإنسان على الحقيقة؟ اللّه أم الوطن؟
ثانيا، لماذا خلق الإنسان؟ وما الغاية والمعنى من وجوده؟ أ لعبادة الله أم لبناء الوطن وعمارته؟
ثالثا، الفضل والشّرف، أهو في خدمة الوطن أم العبوديّة لله؟ هل يترقّى الإنسان في مراتب الفضل بوطنيّته أم بعبوديّته وتقواه لربّه؟
بمنطق الانتماء والمصير
في تعليمنا الصّبر على المصائب يعلّمنا الله في القرآن مقولة حقٍّ نقولها بألسنتنا، ولا شكّ أنّه يطالبنا من باب أولى أن نعتقدها بقلوبنا على الدّوام. إذ هي بمثابة التذكير عند المصيبة بحقيقة قائمة مُستعلية على الظّروف الّتي قيلت فيها.
يقول عزّ وجلّ: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)
فإنّا لله، أي نحن مملوكون له، […] فليس لنا من أموالنا وأنفسنا شيء.
فنحن في المقام الأوّل ننتمي إلى اللّه لأنّه هو الذي أوجدنا وهو الذي يُبقي علينا وهو الذي يُسيّر شؤوننا ويُدبّر أمورنا وليس للوطن شيء من ذلك. بل الغالب على الأوطان أن يولد فيها أو ينتمي الإنسان إليها بالاتفاق فلا المواطن مُختار وطنه (وإن كان ثمّة مجال ضيق للاختيار للبعض في حدود الممكن في نظام عالميّ يُكبّل حركتك ويقيّد حريّة تنقّلك) ولا الوطن -بلا شكّ- يختار مواطنيه (إلّا أن تنتقي طائفة من مواطنيه بالهوى من تقبل لجوءه وتوطينه لمصالح يرونها)
بل كوننا مملوكين لله منتمين إليه هو ما جعله الله تصبيرا للمؤمن عند المصيبة أن لا ملجأ من الله إلّا إليه. فلأنّه مُصرّف أمورنا نسارع إلى العودة إلى أصل الإنتماء إليه طلبا للإجارة في المصائب والخلف في المفقود أو الفائت من مصالح الدنيا. ولا يكون ذلك للوطن، فإنّ الإنسان إذا لحقته المصائب في وطن ولم يجد مفرّا منها إلّا بالفرار منه والانقلاب إلى غيره لما تأخّر، يسارع في الخروج منه، وهو موقف العاقل لقوله عزّ وجلّ مُشجّعا على البحث عن السّعة في الأرض: “وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً “ وإنّ هذا لدليل على أصالة وحقّانية الانتماء لله عزّ وجلّ في مقابل ضعف الإنتماء لغيره.
فإن قيل لا تعارض بين الإنتماء لله والانتماء للوطن؟
أن يقول الإنسان أنّه من بلاد كذا أو أنّه من قبيلة كذا أو قوم كذا قاصدا التعريف فهذا لايماري أحد في أنّه لا بأس به. فقد عُرٍف من أصحاب الرّسول صلّى الله عليه وسلّم كسلمان الفارسي وصهيب الرّومي وغيرهم من حبشيّ وقرشيّ … وممّا يشهد بكونه تعريفا لا انتماء هذا الأثر المعروف عن سلمان الفارسيّ الذي يكشف أنّه فارسيّ بالتعريف ولكنّه إسلاميّ الهوّيّة على الحقيقة:
عن قتادة: كان بين سعد بن أبي وقاص وبين سلمان شيء ، فقال : انتسب يا سلمان ، قال : ما أعرف لي أبا في الإسلام ، ولكني سلمان ابن الإسلام ، فنمى ذلك إلى عمر ، فلقي سعدا ، فقال : انتسب يا سعد ، فقال : أنشدك بالله يا أمير المؤمنين ، قال : وكأنه عرف ، فأبى أن يدعه حتى انتسب . ثم قال : لقد علمت قريش أن الخطاب كان أعزهم في الجاهلية ، وأنا عمر ابن الإسلام أخو سلمان ابن الإسلام ، أما – والله – لولا شيء ، لعاقبتك ، أوما علمت أن رجلا انتمى إلى تسعة آباء في الجاهلية فكان عاشرهم في النار ؟
وتأمّل كيف بيّن عمر رضي الله عنه بأوضح عبارة أحقّيّة الإنتماء للإسلام وبطلان الإنتماء للآباء الكفرة ناهيك عن الوطن القوميّ اللّادينيّ.
بل وبعد زمان الصّحابة استمرّ المسلمون على عادة التعريف بالبلاد (من ذلك البخاريّ والنيسابوريّ والعراقيّ و غيرها …). وكذلك اليوم لو قام أحد فقال مُعرّفا بنفسه أنا مُسلم أمريكيّ أو برازيليّ أو سودانيّ فليس في ذلك إشكال. لكن لنتبيّن ما يكشف عن انحراف عقديّ حتى يتميّز ما يجوز عمّا نُنكره في باب الإنتماء للوطن دون الحاجة لكثرة الاستدراكات:
خلاصة القول الجامعة هي في أنّ الانتساب للوطن متى ما أعاد صياغة العلاقة مع الله ونظام العلاقات مع الخلق ومتى ما تسبّب في اختلال ترتيب الحلال والحرام وفق منظومة غير المنظومة الشّرعيّة فتلك من آيات الضلال عن الصّراط المستقيم.
فمن ذلك في باب الإخلال بالعلاقة بالله، أن يُجعل الوطن ندّا لله وأن يجعل له ما هو مُستحقٌّ لله أصالة من التعظيم والحبّ والقداسة: ومن أمثلته أن يقول الوطنيّ بقُدُسيّة الوطن وحُرمة تُرابه بما لم يأت به وحي ولا شرع، ومنه أن يقف وقفة المُتعبّد الخاشع لخرقة ترمُز إليه. ومنه المُفاخرة والمرح به وبالانتساب إليه سواء اعتقد شرفا يلحقه منه (وهذا ضلال فوق الضلال الأوّل سنفرد لمناقشة كونه ضلالا فقرة فيما يأتي عند الحديث عن الكرامة والشّرف) أو لم يعتقد، ومنه أن يبلغ به الحبّ للوطن أن يلزمه على حساب دينه وآخرته فيُحرّم على نفسه الخروج منه وفاء وحُبّا -يجعله لله ندّا- وإن غلب عليه الكُفر وصار مُقامه فيه فتنة له أو وإن قام للإسلام دولة وتعيّنت الهجرة إلى أرضها… وهذا موجود عند كثير من وطنيّي هذا الزمان المخابيل. يُقدّمون حقّ الوطن على الدين وعلى حقّ الله، تعظيما وحبّا، فيجعلونه دينهم ويعصون الأمر الصّريح لله بالهجرة والخروج من القرى الظالم أهلها وعمل الأنبياء عليهم السلام بذلك.
ومن ذلك في باب الإخلال في نظام العلاقات مع الخلق، أن يعيد صياغته ليكون الولاء فيه للوطن وأبناءه لا لله ولدينه وللمُسلمين. ومن مظاهره الأوضح: أن يقول الرّجل الولاء للوطن، وأن يقول مصلحة الوطن فوق الجميع و لا يستثني أو أن يعادي في الوطن ويوالي فيه غير ملتفت إلى دين من يواليهم ومن يعاديهم. كما نسمع من علمانيّي هذا الزّمان وإن انتسبوا كذبا إلى الإسلام: يقولون: لا تزجّوا بوطننا في صراعات لا علاقة لنا بها! ما لنا والمظلومين من المسلمين؟ المصلحة الوطنيّة فوق كلّ اعتبار. ومن ذلك ثورتهم وهياجهم سخطة لرمز من رموز الجاهليّة الوطنية! بينما قد يُنتقص من النبيّ صلى الله عليه وسلّم أو قد يُسبّ بعض من صحابته على الملأ منهم ولا يطرف لأحدهم جفن ولا تتحرّك منه شعرة!
أمّا في باب التشريع، فأنت ترى الوطنيّين قد صاروا عبيدا للوطن ينسبون لكلّ ما يدور في فلكه الكمالات ويُسارعون في تقديم فروض الطاعة التي يفرضها الانتماء إليه وتحريم ما يعارضها. فاللّباس الوطنيّ مفخرة لا تمتدّ إليها يد المحاسبة الشرعيّة وإن قصُر وشفّ وأسفرت منه الرّأس، حلالا لأبناء الوطن! أمّا لباس الإخوة الأفغان أو الشّيشان أو نقاب أمّهات المؤمنين فمحرّم أو مكروه في أخفّ الأحوال لتعارضه والهوّيّة الوطنيّة. وقل بالمثل في التراث الفنّيّ الوطنيّ ومنه العزف والغناء على وجه الخصوص.
أمّا النّصف الثاني من الاسترجاع: (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فيقبله من آمن باليوم الآخر. وهو من المسلمات الواضحات عنده. وفي مقابله، فإنّ التاريخ يُثبت أن الدّول فانية والأوطان إلى زوال، لكن الموت والبعث والقيامة ثابتة وهي مصير البشريّة المُشترك الذي لا مفرّ منه.
فإن استحضرت هذه الحقيقة، التي يُنسيها الشيطان من شاء إغواءه بالوطنيّة إذا ما احتجّ عليك بأنّ الانتماء للوطن والولاء له، فيه وجاهة تُبرّرها وحدة المصير بين أبناءه، فإن استحضرتها علمت أيّ المصيرين ألصق بفلاح الإنسان ونجاته، المصير الإلهي المحتوم أم المصير الوطنيّ الّذي لا يعدو حلقة صغيرة لا قيمة لها في سيرورة الاقتراب من الوعد الحقّ.
وهو مع ذلك ليس حتّى بالضرورة مصيرا مُشتركا بين أبناء الوطن. فالقرآن زاخر بأمثلة أقوام استأصلها الرّبّ عن بكرة أبيها ولم يبال بها لمّا كفرت إلّا بقليل من عباده الذين قدّموا مرضاة ربّهم على الوفاء للقوم والوطن الجاهليّين.
بل حتى من أهلكهم الله مع الظالمين وقد كانوا مُستضعفين بينهم فإنّهم يُبعثون على نيّاتهم ويفترق مصيرهم يوم الحساب عن باقي المُنغمسين في حمأة الوطن المشترك حتّى النّخاع. كما بيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم قالت قلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم قال يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نيّاتهم.
وهذه بلا شكّ ليست دعوة إلى ترك الإصلاح في القوم، بل الأقربون أولى بالدّعوة والإصلاح، وهم أسمع وأفقه لدعوتك من غيرهم لأنّك تدعوهم بلسانهم ولفهمك لأعرافهم وأخلاقهم ونفسيّاتهم بحكم طول المساكنة والمخالطة. ولكنّ الاحتجاج هنا على من جعل الوطن غاية لا محطّة من محطّات الدعوة والإصلاح. فإنّ معركة الإسلام أوسع من حدوده ولا تتوقّف عند شعب أو بلد.
وهذه الدّعوة من باب أولى دليل على أنّ الانتماء الوطنيّ لا يُقدّم بحال على الانتماء الحقّ لله ولدينه وهو بيت القصيد.
بمنطق الغاية والمعنى
سؤال الغاية سؤال فطريّ يُلحّ على الإنسان في لحظات هدوء عاصفة الإلهاء الصّاخبة. وهو سؤال موحش مثَبّط بحقّ لمن لا يملك عليه الجواب الصّحيح الشافي.
لذلك لا يدع القرآن جواب هذا السؤال ساحة مفتوحة للتّكهنات والخرص، وإنّما أعلن الجواب صريحا مُبينا:
(وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون). و”ما … إلّا…” هذه أغلقت الباب على ما سوى العبادة لله أن يدخل في الغاية الّتي خُلق الإنسان لأجلها. أي بعبارة أكثر مباشرة:
لم يخلقنا الله لعمارة الوطن ولا لبنائه، لم يخلقنا لإقامة سلام دائم فيه والانغماس في الرّخاء والرّفاهية في رحابه. لم يخلقنا إلّا لعبادته.
فإن لم نقدر على عبادته وحوربنا في هذا المطلب فيه تركناه هجرة إلى حيث نُقيم هذا المطلب الأوحد أحرارا. وإن اقتضى أمر العبادة فيه أن نوقظ أتون حرب مستعرة بين أبناءه كما خاض النبيّ صلّى الله عليه وسلم حربه النّبيلة مع أبناء عمومته وقومه، فعلنا ذلك دون تباك على استقرار الوطن وأمنه ورخائه.
محاولة درء التعارض بين غائيّة العبادة وغائيّة العمل للوطن ترتطم بأمثلة واضحة من الوحيين لا تُعبّر إلّا عن ثانويّة البناء الوطنيّ ووسيليّته في سلّم الغايات:
من ذلك مثلا ما يسوقه القرآن من نماذج لأقوام عمّرت أوطانها وبنت امبراطوريّات ضخمة ومتقدّمة، حتّى قال منهم ناسٌ في سكرة الكبر وخيلاء العلوّ: (من أشدّ منّا قوّة). وهي عبارة صريحة التباهي القوميّ بالتّفوّق على الأقوام الأخرى، تُضاهي ما نسمع من عبارات التباهي الوطنيّ من الوطنيّين المعاصرين، عزفا على وتر الوطنيّة الذي أضحى يُطرب سوادا عريضا من المغرورين بقيمة زائفة… ولكن هل كان سعي هذه الأمم في بناء صرح الوطن -بلا عبادة ولا إيمان- سعيا مشكورا عند الله؟ هل تحقّق في نظر الخالق المطلوب الإلاهيّ بتحقيق التّرف والرّفاهيّة. كلّا! لم يبال الله بما تحقّق من إنجازات حضاريّة البتّة لمّا كفروا بل دمّر القُرى الظالمة وأزالها ولم يُبق منها إلّا أطلالا يسيرة للاعتبار. بل إنّ الله عزّ وجلّ يجعل من الازدهار والرّخاء استدراجا إذا كان في غير اتخاذ الأسباب والوسائل لتحقيق هدف العبوديّة الأعظم.
يقول عزّ وجلّ: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) فصار ما بذلوه في سبيل الوطن من جهد وبناء هباء منثورا. ما سيكون موقف الأبطال الوطنيين الذين اتّخذت لهم الأصنام تمجيدا لتضحياتهم الوطنيّة إذا ما توضّحت لهم عبثيّتها في ميزان الحقّ؟ (ولا حاجة أن نواصل الاستدراك في أنّ المقصود طبعا من اتّخذوا الوطن غاية وأغفلوا العبوديّة).
ولمّا بعث الله نبيّه صلى الله عليه وسلّم في العرب كانوا قبائل رُحّلًا، أشتاتا، بلا وطن، ولا يقارَنُون في بناء وعمارة بضع مُدن بدائيّة كانت لهم بحضارات عُظمى كالرّوم وفارس. فماذا قال الله لنبيّه؟ اجمعهم على العروبة وحبّ والوطن وسر بهم في ركب الحضارة لبناء قوّة عظمى كالرّوم وفارس؟! لا بل قال لنا رسول الله،هؤلاء -أصحاب الأوطان التّي بنوها وعمروها: الله مقتهم جميعا إلّا بقايا من أهل الكتاب كانوا لا يزالون على توحيد الله.
لن يتفاجأ من فقه عن الله وعرف مركزيّة الآخرة بهذا الكلام. أفيتّخذنا الله لنبني ونعمُر وطنا زائلا في دُنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة؟ أم يتّخذنا لطلب أسباب التمكين لعبادته في الأرض في دنيا جعل لنا ما عليها ليبلونا ويختبرنا أيّنا أحسن عملا وأحرصُ على العبادة له؟ عقلا بالنّظر والتّفكّر في حكمة الله وحقيقة الدُّنيا: ما الصحيح؟
بمنطق الأفضليّة والشّرف
روى الترمذي (3270) عَنْ ابْنِ عُمَرَ : ” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا ، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ، قَالَ اللَّهُ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) صححه الألباني في “صحيح الترمذي” .
وروى أحمد (22978) عَنْ أَبِي نَضْرَةَ : ” حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، أَبَلَّغْتُ ؟ ) قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “. صححه الألباني في “الصحيحة”
في كلام الله وحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما هو صريح في هذه الأدلّة بيان شاف حول المعيار في تحديد الأكرم والأشرف بين النّاس. أيهم أفضل عراقيّ مُسلم أم ليبيّ مسلم أم صينيّ مسلم أم أفغانيّ مسلم أم تشاديّ مسلم؟ يتفاضلون بالبرّ والتّقوى لا بالانتماء الوطنيّ! والتّقوى في هذه النّصوص كلمة مركزيّة تتكرّر في تحديد الأكرم. ويرجع إليها وصف البِرِّ في (برّ تقيّ كريم على الله) لقوله تعالى: “لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ” فبيّن اللّه جملة من الأعمال (قلبيّة وجوارحيّةً) ثمّ ختمها بقوله وأولئك -أي الذين يقومون بهذه الأعمال- هم المُتّقون. وكذلك لقوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ) فبيّن سُبحانه أنّ البرّ هو نفس التّقوى.
والتقوى هي فعل ما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه. ويدخل في ذلك من باب أولى من امتثل أمر الله بالإسلام فدخل فيه. وتفضيل المؤمن على الكافر في الوحيين أوضح من أن نذهب نحشد عليه الأدلّة ولا تكاد تخلو منه سورة من القرآن.
فإذا كان الأمر كذلك، فنُسائل الآن دعاة الوطنيّة -وإن زعموا إقرارهم بهذا المعيار الصّادق في الأفضليّة-:
لماذا نسمح لهذا بالدخول والإقامة والعمل والبيع والشراء والتعليم ونجعل له جواز سفر وحقوقا وندافع عنه ونعمل على فكّ أسره من السّجون إذا كان ابن الوطن ولا نبالي به إذا لم يكن من أبناء هذا الوطن؟! هل من القسط التفريق في المعاملة بين المُتماثلات؟ أم هو الظلم؟
قد يقول قائل جميع البشر سواسية في الحقوق والأوطان هي أُطر إداريّة لتنظيم تسيير شؤون النّاس وتحقيق مصالحهم وليست مبنيّة على مُفاضلة؟
بئس الجدال عن الظّلم. كيف نمنع هذا من حقّه الحرّ الأصيل بعُذر أنّه يتبع لإدارة (وطنيّة) أخرى فنُكبّل تنقّله ونُعطّل ضربه في الأرض للتّكسب والتّعلّم؟ بل كيف لا ننصره بل ننصر عليه لأنّه خرج على الإدارة (الوطنيّة) الّتي يتبع لها؟ إنّ هذا الاعتراض لواه.
وما يزيده وهنا على وهن أن تجد من العلامات ما يكشف بلا مواربة منطق التفضيل الوطنيّ الواقع حقيقةً في الدّول الوطنيّة المعاصرة. وإلّا فلِم إذن يتّخذون الراية الوطنيّة والنّشيد الوطنيّ ويُرضعون الوليد مع الحليب حُبّ الوطن وتفضيله على غيره بل والتضحية والموت في سبيله؟ ولم يحاربون ويحاكمون من يختار العمل لصالح وطن على حساب وطن بتُهم الخيانة والعمالة ويوقعون به أشدّ العقوبات؟ بل ولم أصلا تتناحر الأوطان ذوات الدين الواحد وتتحارب؟
أمّا قول قائلهم التفضيل على أساس الدّين نوع من أنواع العُنصريّة وظُلم للأقلّيات، فيحقّ فيه مَثَلُ (رمتني بدائها وانسلّت).
أوّلا، لدين الله نظام وقوانين في إدارة شؤون العباد على اختلاف أديانهم كما للدّول الوطنيّة الحديثة نُظمها. وهو نظام من لدن حكيم خبير عادل وليس في النّاس من هو أرحم بالعبيد ولا أعلم بهم من خالقهم. فدعوى الظلم مردودة والنّصوص في تفضيل أهل الإسلام ودينهم الحقّ قاطعة، وهي من الله وليست بأهواء المسلمين. فمن اتهم الله بالظلم فقد خرج من الإسلام.
وكيف لا يكون المسلمون أفضل من الكُفّار وهم الوحيدون الذين قبلوا الدين الحقّ الذي أمرهم الله بالتّديّن به؟ (إن الدين عند الله الإسلام)، (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)
وكيف لا يكون المسلم أفضل من الكافر وهو الوحيد الذي يُصدّق رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا يرميه بكذب ولا جنون ولا سحر؟ هذا الرّسول الذي ما أرسله الله إلّا رحمة للعالمين؟ كيف نُسوّي بين الجاحد لهذه الرّحمة وبين القابل لها بصدر رحب مُمتنّ؟ هل يستوي الكريم واللّئيم؟ مالكم كيف تحكمون؟
وكيف نُسوّي بين من اهتدى إلى الحقّ المُطلق (نعم القرآن جاء بالحقّ المطلق) ومن عمي عنه وضلّ الطريق في الدّروب المُظلمة؟ ألا ينبغي أن نضع علامات تحذيرية وننير بأنوار التفضيل الصّراط المُستقيم الوحيد وسالكيه. (اِهدنا الصّراط المستقيم صراطَ الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين) ها هنا في أمّ الكتاب تفضيل صريح على أساس الدّين في دعاء مفروض علينا أن نقول به في كُلّ صلاة!
وكيف نُسوّي بين السّائر بقدميه إلى العذاب الأبديّ في النّار وبين السّائر في طريق الوصول إلى الوطن الحقيقيّ للإنسان… الوطن الذي أخرجه منه عدوّه إبليس الحاقد إلى منفاه في هذه الأرض-: جنّةُ الخلد الّتي جعلها الله للمؤمنين. التسوية بين هذا وذاك غشّ وخيانة ورمي لورود الزّور أمام الكَفرة الجاهلين الغافلين. أفلا تعقلون؟
ثانيا، تعريف العنصريّة بالمنطق الأعرج لدعاة الدّولة الوطنيّة العلمانيّة الحديثة يقول بأنّ منها التّمييز على أساس الدّين!
وإن تعجب فعجب لرجل مسكين وطنه باكستان أو اليمن -لم يختر وطنه، بل وجد رأسه سقطت من رحم أمّه فيه وهو رضيع لا يعلم شيئا- لا يستطيع بجواز سفره أن يسافر إلى أيّ مكان ولا يلتحق بأيّ جامعة إلّا بشقّ الأنفس وذهاب الأموال و الأعمار في الجري بين مكاتب وسفارات هذا الوطن. وقد يكون من أعْلم النّاس وأكثرهم مثابرة واجتهادا وأحرصهم على الخير وأنفعهم للنّاس.
بينما تجد صعلوكا مُجرما وُلد في أمريكا يجوب الأرض منطلقا يعربد فيها أينما شاء!
أهذه عُنصريّة؟ أم التّمييز على أساس الدّين الذي يُمكن للإنسان أن يختاره ويغيّره في لحظة فيحضى بالتفضيل المستحقّ؟ هل يملك أن يُغيّر الإنسان وطنه؟ فلماذا إذن لا يُعدّ التمييز على أساس الوطن عنصريّة؟ وأين العنصريّة في التمييز على أساس ما يُحقّق مصلحة الإنسان والنّاس أجمعين – علما وأنّ كلّ أحد يملك تغييره؟ لا عجب: هذا منطق الحميّة -حميّة الجاهليّة- الأعوج.