فوق الوقاحة: عندما ينتقم اليهود من النازيين.. بهولوكوست فلسطيني!

في 2005م صدر كتاب: (ما يفوق الوقاحة: إساءة استخدام اللاسامية وتشويه التاريخ)، استنكر فيه مؤلفه نورمان ج. فنكلستاين، أحد أبناء الناجين من المحرقة النازية الألمانية، استخدام الصهيونية للهولوكوست بطريقة ابتزازية، وكيف أنه في سلوك شديد الغرابة، أصبح الفلسطينيون والعرب عموما، من المذنبين بصفة مباشرة في ارتكاب الهولوكوست، وكذلك أولادهم إلى يوم الدين!

وقبل أيام، في 24 أكتوبر 2023م نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقالا في ذات السياق بعنوان: «يجب على إسرائيل أن تتوقف عن استخدام الهولوكوست كسلاح»، كتبه د. (راز سيجال) وهو أستاذ مشارك في دراسات المحرقة والإبادة في جامعة ستوكتون، وأستاذ في دراسة الإبادة الحديثة، انتقد فيه الإبادة الجماعية، واستخدام الهولوكوست بطريقة خطيرة، لتبرير العنف الجماعي الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وعرض كيف يستخدم السياسيون الإسرائيليون ذكرى الهولوكوست لتبرير العنف ضد الفلسطينيين، وانتقد المقال الرئيس الأمريكي جو بايدن وقادة إسرائيل لمقارنة المجازر التي تعرض لها اليهود خلال الهولوكوست بالهجوم الذي شنته حماس على المدنيين الإسرائيليين في 7 أكتوبر 2023م، وتصويرهم إسرائيل كضحية تواجه النازية، فهو يرى أن السياق مختلف تماما.

كما انتقد المقال قادة العالم لتشويه الحقائق، بعدم وضع الصراع في سياق العنف الاستعماري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين منذ نكبة 1948م، ويرى أنه بدون هذا السياق التاريخي، لا يمكننا تفسير كيف وصلنا إلى هنا.

وهنا ترجمة المقال الجيد:

يقول الكاتب: بدأ الرئيس جو بايدن تصريحاته في إسرائيل بالقول: «ارتكبت حماس أعمالا وحشية تذكرنا بأسوأ ما ارتكبه داعش، فقد أطلقت الشر المطلق على العالم، وهذا ما لا يمكن تبريره أو الاعتذار عنه، هذه الوحشية التي شهدناها ستكون مؤلمة في أي مكان في العالم، ولكنها تؤلم أكثر هنا في إسرائيل، أصبح 7 أكتوبر 2023م الذي وافق يوم عطلة يهودية مقدسة، هو اليوم الأكثر دموية للشعب اليهودي منذ الهولوكوست (المحرقة) فلقد أعاد ذلك اليوم ذكريات مؤلمة، وجروحا تركتها آلاف السنين من معاداة السامية وإبادة الشعب اليهودي، كان العالم يشاهد آنذاك، وكان يعلم، ولم يفعل العالم شيئا، لن نقف مكتوفي الأيدي دون فعل أي شيء مرة أخرى، لا اليوم، ولا غدا، ولا بقية الحياة».

بهذا، عزز الرئيس الأمريكي جو بايدن السياق الخطابي الذي عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (نفتالي بينت) بعبارات صريحة للغاية، في مقابلة أجرتها معه سكاي نيوز في 12 أكتوبر 2023 حين قال بوضوح: «نحن نحارب النازية».

كيف يتم تصوير إسرائيل، الدولة القوية في المنطقة، التي لديها حلفاء أقوياء في العالم، ولديها جيش قوي، وهي التي تشن هجوما انتقاميا ضد الفلسطينيين، الواقعين تحت حكم إسرائيل واحتلالها العسكري وحصارها لهم، وكأنهم حفنة من اليهود العاجزين في صراع ضد النازية؟!

ومع ذلك، السياق الذي وقع فيه هجوم حماس على الإسرائيليين مختلف تماما عن سياق الهجوم على اليهود خلال المحرقة، وبدون استحضار السياق التاريخي للاستعمار الإسرائيلي منذ نكبة 1948م لا يمكننا شرح كيف وصلنا إلى هنا، ولا تخيّل أي مستقبل مختلف عما نحن فيه، وبدلا من ذلك، قدم لنا بايدن صورة مجردة لـ«الشر الخالص».

لقد كثرت استخدامات الساسة الإسرائيليين لذاكرة الهولوكوست، فعلى سبيل المثال:

 في عام 1982م، وخلال هجوم إسرائيل على لبنان، قارن رئيس الوزراء الإسرائيلي (مناحم بيجن) بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في بيروت وأدولف هتلر في مخبئه في برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية.

 وبعد ذلك بثلاثة عقود، في أكتوبر 2015م أخذ بنجامين نتانياهو «سلاح الهولوكوست» إلى مستوى جديد، عندما أكد في خطاب له أمام المؤتمر الصهيوني العالمي في القدس أن مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، هو الذي زرع فكرة قتل اليهود في ذهن هتلر! وفي مؤتمره الصحفي المشترك مع المستشار الألماني (أولاف شولز) وصف نتانياهو حماس بأنها «النازية الجديدة»!

وقال وزير الدفاع الإسرائيلي (يوآف جالانت): «غزة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل، سنقضي على كل شيء!» أما (نيسيم فاتوري) عضو البرلمان الإسرائيلي من حزب الليكود الحاكم، فدعا إلى «محو قطاع غزة من وجه الأرض»! 

وهناك العديد من التعبيرات المشابهة من قبل الساسة الإسرائيليين وكبار ضباط الجيش في الأسابيع القليلة الماضية، هذه الخطابات الصريحة تثير وتحرك خيال «محاربة النازية» وذلك لأن صورة النازية هي صورة «الشر المطلق» وهو ما يعني أنه لا توجد أي قوانين أو قيود في محاربته، فدائما ما يرى مرتكبو الإبادة الجماعية ضحاياهم كأشخاص شريرين، وأنفسهم كأشخاص صالحين، وهذه بالفعل كانت رؤية النازية لليهود.

بالتالي فكلمات الرئيس الأمريكي جو بايدن، تشكل استخداما نموذجيا لسلاح الهولوكوست، ليس من أجل التضامن مع الشعب غير القادر على مواجهة عنف الإبادة الجماعية فحسب، ولكن لدعم وتبرير الهجوم العنيف للغاية من قبل دولة إسرائيل القوية، وفي ذات الوقت، تشويها للحقيقة، هذه الحقيقة التي نراها أمام أعيننا منذ بدء العنف المتصاعد في إسرائيل في 7 أكتوبر 2023م إذ تجاوز عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في غزة 7400 شخصا، ثلثهم من الأطفال، مع أكثر من 20 ألف جريح، وأكثر من مليون نازح.

ومؤخرا صعَّدت إسرائيل من حدة العنف ضد الفلسطينيين القابعين تحت احتلالها في الضفة الغربية، فقتلت أكثر من 95 شخصا وكثفت عمليات الطرد، وذلك رغم أن حماس ليس لديها أي سلطة في الضفة الغربية، لكن الحقائق التي يمكن للجميع رؤيتها، لا تعني الكثير بالنسبة للإسرائيليين الذين يقاتلون -في أذهانهم- النازيين! 

ومع ذلك، فإن تاريخ الهولوكوست يقدم دروسا من المهم فهمها في ظل إراقة الدماء الحالية: 

أولا، يذكرنا بضرورة التركيز على سماع أصوات وآراء أولئك الذين يواجهون عنف الدولة والإبادة الجماعية، والأمر الأكثر إلحاحا للفلسطينيين في غزة الآن، هو وقف إطلاق النار، وإنهاء حملة القصف الإسرائيلية، وهذا أيضا ما يرغب فيه -على الأقل- بعض الناجين من هجوم حماس، وأفراد أسر ضحايا المدنيين الإسرائيليين المقتولين أو المحتجزين في غزة. 

الأولوية العليا الآن يجب أن تكون وقف العنف المتصاعد، وإنقاذ الأرواح، والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين بالإضافة إلى مئات المدنيين الفلسطينيين الأسرى، بما في ذلك 160 طفلا، الذين تحتجزهم إسرائيل بشكل غير قانوني، دون توجيه اتهامات أو محاكمة.

يذكرنا تاريخ الهولوكوست أيضا بأهمية المساءلة، رغم أن المساءلة بعد الهولوكوست ظلت محدودة، وفي حالة هجوم إسرائيل الحالي على غزة، يجب أن تبدأ المساءلة مما هو واضح جدا: التحريض على الإبادة الجماعية، والذي يُعَاقَب عليه بموجب المادة 3 من اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية. 

وعلى الرغم من أن النقاش حول الإبادة الجماعية في الهجوم الإسرائيلي الحالي على غزة سوف يستمر لسنوات عديدة بلا شك، وربما أيضا في المحاكم الدولية، لكن جرائم الحرب الإسرائيلية وانتهاكاتها للقانون الإنساني الدولي، هي أمور لا جدال فيها.

سيكون من المهم أيضًا أن تتم محاكمة مرتكبي جرائم الحرب الإسرائيليين والمسؤولين عن انتهاكات القانون الإنساني الدولي خلال سنوات الحصار العديدة على غزة، بما في ذلك الجرائم المرتكبة في الهجوم الحالي، كما يجب أيضا محاسبة الفلسطينيين الذين ارتكبوا الفظائع في 7 أكتوبر 2023م لأجل المطالبة بالحقيقة والعدالة.

فالحقيقة، ربما هي القيمة الأكثر أهمية وارتباطا بدراسة الهولوكوست، ولا يمكن تحقيق العدالة، لا في المدى القصير أو البعيد، دون التعامل بصدق مع كيفية وصولنا إلى هنا، وهذا يعني: المعرفة والاعتراف الكامل بتاريخ طويل من العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين منذ نكبة 1948م.

العالم يراقب بالفعل، كما قال رئيس الولايات المتحدة (جو بايدن) وعلى الرغم من استخدام بايدن لسلاح الهولوكوست لتشويه الحقائق الماثلة أمام أعيننا، فقد أعلن أكثر من 800 عالم في القانون الدولي، ودراسات الصراع، ودراسات المحرقة، والإبادة الجماعية في بيان في 15 أكتوبر 2023م ما يلي: (رابط البيان)

«نحن مضطرون إلى دق ناقوس الخطر بشأن إمكانية ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية من قبل القوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، نحن لا نفعل ذلك باستخفاف، لأننا ندرك ثقل هذه الجريمة، لكن خطورة الوضع الحالي يتطلب منا هذا الموقف»، ووقع على البيان علماء شكلت أعمالهم مجال دراسات المحرقة والإبادة الجماعية.

إنه لأمر مهم أن يرفض المزيد والمزيد من علماء دراسات المحرقة والإبادة الجماعية، السماح بالاستمرار في استخدام الهولوكوست كسلاح بطريقة خطيرة، من أجل تشويه الحقائق التاريخية للهولوكوست، وتبرير العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، هذه الوقفة الجريئة تعطي بعض الأمل في هذه الأيام المظلمة، لأنها تدعم النضال من أجل مستقبل مختلف، خارج الدولة الاستيطانية الإسرائيلية، مستقبل يجب أن يقوم على المساواة والعدالة والحرية والكرامة لجميع الناس الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.

حسن قطامش

خبير إعلامي.. كاتب مستقل الفكر.. منحاز للحق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى