فلسطين حتى لا تكون أندلس أخرى
في سنة 897 هجرية/ 1492 ميلادية، استيقظ العالم على خبر سقوط آخر معقل من معاقل حكم المسلمين للجزيرة الإيبيرية؛ التي دام حكمهم لها قرابة 800 سنة. ساد في هذه الفترة من الحكم الإسلامي للمنطقة عدل الإسلام الذي تمثل في حكم المسلمين لكل الطوائف والمعتقدات الدينية على حد سواء، فترة اتسمت بالعطاء والإنتاج الفكري والعلمي؛ حتى أضحت جزيرة إيبيرية أو الأندلس منارة العلم يحج إليها العربي والأعجمي، المسلم والنصراني. في وقت كانت أوروبا تعيش في ظلمات من الجهل وغيّ الحكم. فترة عاش فيها اليهود أزهى أيامهم عدلًا في التاريخ تحت راية تحترم الإنسان والإنسانية، تعطي لكل ذي حق حقه، بغض النظر عن عرقه ومعتقده، فيما عاش إخوانهم في نفس الفترة أحلك أيامهم تعذيبًا على يد الكنيسة الأوروبية.
هذه هي الأندلس، والنكبة التي يبكي على أطلالها المسلمون كلما لمحتها أعينهم أو سمعتها آذانهم. فيا ترى هل الأندلس هي النكبة الأولى والأخيرة التي تجرع المسلمون مرارتها، أم في قلوبهم وأفئدتهم غصة أشد من غصتهم الأولى قوةً وأثرًا؟
تعتبر نكبة سقوط الأندلس، أمام النكبة الفلسطينية التي سقط معها حكم المسلمين للأراضي المقدسة لصالح الصهاينة؛ سقطة هيّنة، أي هيّنة لأنها قضية عقدية ليست كأي قضية، وحتى لا تكون فلسطين أندلس أخرى؛ سوف نحاول استخلاص الأسباب التي أدت إلى سقوط الأندلس من خلال الإجابة عن الإشكاليات التالية: لماذا سقطت الأندلس؟ وما القاسم المشترك بين القضيتين؟ وكيف ننصر القضية الفلسطينية؟
لماذا سقطت الأندلس؟
بدأت قصة سقوط الفردوس الأندلسي في عز سيطرة المسلمين على الأراضي الإيبيرية، وذلك نابع من أكبر خطأ عسكري ارتكبه القائد المغوار طارق بن زياد، وموسى بن نصير، خطأ أدى المسلمين ثمنه غاليًا، بأن خرجوا منها كما دخلوا لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ويا ليت هذا كان! فحتى الدخول لم يكن كالخروج؛ لأن الدخول بالعدل لا يضاهيه الدخول بالظلم. وخبث العدو الغاصب للأرض تركه يتفنن في تعذيبه المسلمين قبيل حكمه لهم، وبهذا كان تعامله مع المسلمين نقيض تعامل المسلمين مع أهل الجزيرة حين فتحهم لها.
إن تخاذل المسلمين وبعدهم عن نبع الحق ومشكاة الوحي، وسكونهم للأرض وملذاتها وشهواتها، من الأسباب القوية التي يغفل عنها كل من يبحث في السبب وراء سقوط الجزيرة الإيبيرية. فلو بحث الباحث في الأسباب العملية التي أدت إلى سقوط الدول المسلمة سوف يلمس قاسمًا مشتركًا بينها؛ ألا وهو البعد عن الدين. فقد وضع الله -سبحانه وتعالى- لخلقه قوانين وسن لهم تشريعات منذ بعثة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لهذه الحياة، سننًا وقوانين من التزم بها حاز النصر والتمكين من لدنه، ومن حاد عنها رفع الله يده عنه وسلط عليه عدوه حتى يستأصل جذوره من آخر معاقله.
عَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ. وَلَيَنْزَعنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».
ولا يخفى أن من الأسباب التي أدت إلى السقوط استغراق الأمة في حبها للدنيا والسكون إلى ملذاتها، كما قال -جل وعلا-: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. (القصص 50)
كما أنه من الأسباب إسناد الحكم إلى غير أهله. روى البخاري في صحيحه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:
إذا ضُيِّعَتِ الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة.
ولهذا قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما أو ولاء أو عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب، أو طريقة، أو جنس، كالعربية والفارسية، والتركية، والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينها، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى عنه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال 27-28]».
إضافة إلى التنازع في الأمر: كان هذا في عهد ملوك الطوائف الذين خربوا البلاد بجشعهم وتنازعهم على السلطة والحكم حتى تقسمت البلاد الإسلامية إلى دويلات مضحكة، تفرق شمل المسلمين في عهدهم وتسلط عليهم عدوهم حتى كان الحاكم منهم يدفع للحاكم الصليبي الذهب لينصره على عدوه المسلم.
ومنها كثرة المعاصي والذنوب، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ».
القاسم المشترك بين القضيتين؟
في عام 92 هـ، وبعدها بثلاثة أعوام فتح المسلمون الجزيرة الايبيرية شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا، على يد القائد المسلم الأمازيغي طارق بن زياد، والقائد المسلم العربي موسى بن نصير. فتح أقصى ما يقال عنه إنه بداية قصة جميلة سوف تكتب فيما بعد بقلم من ذهب، قصة يكتب عليها العربي والغربي، قصةُ حزنٍ وفرح، قصة أسميتها الأندلس من المهد إلى اللحد. ولم تكن لتكتب هذه القصة لولا البقعة الجغرافية الصغيرة -التي لا تكاد ترى بالعين المجردة في الخرائط الدلالية- التي تركها طارق وموسى في يد أعدائهم وأي الأعداء هم، فقد ذكرت المصادر التاريخية أن هذه الفرقة التي تمت تسميتها باسم قائدها بلاي پلاجيوس، سميت البقعة الجغرافية التي تحصن فيها هو وجنوده باسمه فيما بعد. تذكر المصادر التاريخية أن عدد الفرقة العسكرية التي تحصنت بذلك المكان كان عددهم حوالي 30 شخصًا، منهم عشرة فرسان والباقي من النساء والأطفال.
لم يتركهم طارق بن زياد في بادئ الأمر من غير أن يلحق بهم؛ فقد أرسل إليهم قائدًا من جنوده في سرية ليستأصل شأفتهم. فما كان من هذه الفرقة التي تعد بأصابع اليد سوى الاختباء والتحصن في مغارة تسمى “كوفادونجا“. حاصرهم المسلمون لشهور، لكن شدة البرد القارسة في تلك الأراضي الباردة قادتهم إلى فض الحصار عن هذه العصبة. وفي كل سقوط للمسلمين سبب ولعل السبب الأول في سقوطهم هذه المرة، قولة شهيرة قالها قائد المسلمين حينما أراد فك الحصار: (ثلاثون عِلْجًا ما عسى أن يجيء منهم).
غادر وجنده مستهزأ بهم ومن قلتهم، فرحًا بعودته إلى أهله، وهو لا يدري عظم الخطأ العسكري الذي فعله. وكأن الله أغشى بصره عن الآية الكريمة التي يقول فيها الحق -سبحانه وتعالى-: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
كانت من هذه العصبة الصغيرة التي ضحك واستهزأ من صغرها القائد المسلم، بداية النهاية للحكم الإسلامي للمنطقة. من ثم بدأ سقوط الفردوس الأندلسي، في تلك اللحظة بدأت نهاية حكم المسلمين للأندلس، من تلك النقطة بدأ المؤرخون الكتابة حول قصة الأندلس من المهد إلى اللحد.
لم ننقل هذه الأحداث التاريخية هكذا عبثًا، ولم نقل إنها قاسم مشترك مع القضية الفلسطينية انطلاقًا من خيال أو حلم يراودنا؛ إنما لتشابه القصص وتقاطع أحداثها.
ففي الأراضي الفلسطينية المقدسة، بدأت نهاية القصة الصهيونية التي خطت خطوطًا من الظلم والقهر والقتل بدم الشهداء والأبرياء الذين تم تهجيرهم وطردهم من وطنهم؛ لتحل محلهم دولة مزيفة أسمت نفسها “إسرائيل” الوطن الأبدي للصهاينة المظلومين -على حد قولهم-. في 1948 بدأت النكبة الفلسطينية، ومعها تم احتلال معظم الأراضي الفلسطينية. هناك بزغ نجم سوف يظل إلى اليوم النور الذي يؤكد الوجود الفلسطيني في تلك الأراضي، غزة النجم الذي استعصى على الصهاينة والذي يضيء في زمن يسوده الظلام، نجم ترك إسحاق رابين رئيس وزراء “إسرائيل” يتمنى الأماني في يقظته ونومه. كان يقول (أتمنى أن أصحو ذات صباح وأجد غزة وقد ابتلعها البحر). هذه المدينة الصغيرة التي تعيش حصارًا -أرضيًا، وجويًا، وبحريًا-؛ هي القشة التي أفقدت الصهاينة الراحة أو الهدوء، واستعصت عليهم بالرغم من كل محاولاتهم؛ هل تكون قصتها كقصة البقعة التي مهدت طريق القوط للاستيلاء على الجزيرة الإيبيرية.
كيف ننصر القضية الفلسطينية؟
أولًا: فهم القضية الفلسطينية وفهم أبعادها وقيمتها المركزية طريق نحو نصرة هذه القضية. فلا يمكن أن ننصر قضية أو شخصًا أو دولة أو قيمة، إن لم ندرس أبعادها وجوانبها وجذورها، فالذي يتبع القضية بالعاطفة سوف يغير رأيه كلما تأثر بقول منمق سواء أصاب جادة الصواب أو جانب الصواب.
ثانيًا: نصر القضية يبدأ من اتباع الإسلام قولًا وعملًا. فإذا كان النصر يهم المسلم فحريٌّ به أن ينصر أمر الله. ومن ذلك تقويم النفس واتباع شرع الله واجتناب نواهيه طريق نحو النصر، قال تعالى: (وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ).
ثالثًا: تعزيز الهوية. لا نصر للمسلمين من غير العودة للفهم الصحيح للتراث الإسلامي والعمل به، ولا نصر إن لم ينشغل المسلم باللغة العربية التي كلما حاد عنها جانب الطريق المستقيم، ولا نصر إن لم يقرأ التاريخ ويفهمه ويعتبر به في سيره لنصرة قضيته، ولا نصر إن لم نقم للقرآن الكريم مركزية في الحياة العملية.
رابعًا: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). (رواه مسلم). فالذي يقوى على الكتابة يكتب فهذا من النصرة، والذي وهبه الله حسن الكلام والمناظر يناظر وينافح عن القضية فهذا من النصرة، فمن لم يستطع لا يروم إلى الباطل ويعقد قلبه ويجمعه على الحق، واعلم أن هذا من النصرة.
خامسًا: عند ابن خلدون نظرية اسمها الاستماتة والاستبصار، يقول ابن خلدون فيما معناه النهوض الحضاري الذي يسعى إليه المسلمون، يقتضي استماتة منهم في تنفيذ فكرة أو قضية معينة، وألا يعوقهم دونها عائق، وأن يكونوا مستعدين للموت في سبيل تحقيقها؛ واستبصارًا أي يكون لديهم وعي بهذا المشروع الذي يريدون أن يموتوا في سبيله، والوعي به يتجلى في بعد نظرهم ورؤيتهم واستعدادهم لما يصادفهم في مستقبلهم.