لقاء تبيان مع الشيخ البشير عصام المراكشي.. نناقش الإلحاد والعلمنة واللغة ووضع الإسلام في بلاد المغرب
ضيف تبيان اليوم، أحد أبرز أعلام المغرب، الشيخ البشير بن محمد عصام المراكشي. الذي أمضى دراسته الأكاديمية الأولى بمدينة مراكش، ثم انتقل إلى الرباط حيث حصل على شهادة مهندس الدولة في الاتصالات. لكنَّ طموحه لم يتوقف عند الهندسة فالتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، بشعبة الدراسات الإسلامية، وحصل على الإجازة في (حقيقة الإيمان من خلال تفسير فخر الدين الرازي – عرض وتحليل)، كما حصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في (المنهج الإسلامي في دراسة روايات السيرة النبوية)، وتوّج هذه الجهود بحصوله على الدكتوراه في الفقه وأصوله، حيث تناولت رسالته (المصالح والمفاسد في المذهب المالكي وتطبيقاتها المعاصرة).
وقد درس الشيخ على يد العديد من المشايخ وكبار أهل العلم وحصل على إجازات حديثية كثيرة عن جمع من العلماء وأصحاب السند. وقد نُشرت له العديد من المؤلفات والبحوث من بينها: “ليطمئن قلبي؛ رحلة في مَرابع الإيمان”، و”تكوين الملكة اللغوية” و”فيء الخمائل؛ مقالات في الأدب وعشق العربية”.
يتميز الشيخ البشير بحضور إعلاميّ عبر صفحاته على الشبكات الاجتماعية وقناته في اليوتيوب؛ مما يعكس درجة اهتمامه وعنايته بقضايا الأمة المعاصرة ووعيه بأهمية التفاعل المباشر مع هموم الأمة لتحقيق التأثير الأفضل في ساحة الدعوة والعلم وصناعة الوعي.
تبيان: تواجه أمتنا في اللحظة الراهنة نوعَيْن من الإلحاد؛ إلحاد صريح يُعبَّر عنه بالخروج من الدين، وإلحاد ضمنيّ يتمثل في النكوص أو الارتداد عن الإسلام فعليًّا دون تصريح الذي يبدو أشدَّ خطورةً. وفي ظلّ اهتمام ضيفنا الكريم بالنوعيَن فسنحاول استيضاح الأمر منه في كلٍّ .. مبدئيًّا ما أسباب الإلحاد الصريح في وجهة نظرك؟ ولماذا يشيع خاصَّةً بين طبقات الشباب؟ وماذا عن بعض طُرُق مكافحته؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، شكر الله للقائمين على مركز تبيان حسن تواصلهم، وكريم احتفائهم.
الإيمان بوجود الله هو الأصل، والإلحادُ مرض طارئ مخالف للأصل، فمن المشروع إذن البحث في أسبابه. والحق أنه لا يمكن التعامل مع الظواهر الكبرى بنماذج تفسيرية اختزالية، بل لا بد من النماذج المركبة التي تجمع عددًا من المؤثرات والأسباب.
ولا يخرج الإلحاد عن هذا المعنى، فإنه لا يمكن حصره في سبب منفرد، بل هي ظاهرة أوجدتها منظومة مركبة من الأسباب، منها:
أسباب معرفية: سواء أكانت من قبيل الشبهات الفلسفية، أو كانت من قبيل الشبهات العلمية المرتبطة ببعض نظريات العلم الحديث كالداروينية مثلًا.
وأسباب حضارية: مدارها على التطور الحضاري الغربي الحديث، الذي ارتبط بتاريخ طويل من الصراع مع الكنيسة خصوصًا، ومع الدين عمومًا. فرسخ في الوعي الغربي أن الدين حاجز أمام جميع أشكال التقدم العلمي والتطور السياسي والحقوقي والحضاري، وأن الإلحاد والتخلص من الدين هو الوسيلة المثلى لمواصلة الحضارة الغربية الحديثة رحلتها في مسار تحرير الإنسان وتحقيق رفاهيته.
وأسباب غير علمية: وتشمل الأزمات النفسية بسبب وقوع الابتلاءات الخاصة، والتي تجعل لدى بعض الناس قابلية للإلحاد، بسبب الجهل بطبيعة العلاقة بين الرب والعبد، وبمعاني الابتلاء والحكمة من وجود الشرور في الكون. وتشمل أيضًا الضغط الإلحادي في التعليم والإعلام والفن والأدب، والذي تمارسه “لوبيات” إلحادية ترفض أن يكون للدين موطئ قدم من جديد في ساحة التأثير المجتمعي.
لكن دلّ التتبع على أن أغلب الملحدين في بيئتنا عندهم مشكلة نفسية متمثلة في العجز عن الملاءَمة بين ممارسة التدين في مراتبه العالية والتعامل مع مُخرَجات الحضارة المادية الشهوانية المعاصرة. وبسبب عدم فهم مراتب الأعمال وما يتيحه الإسلام من إمكانات للتعامل مع ضعف النفس البشرية، فإن الكثيرين يختارون التضحية بالتدين عبر رفض المنظومة الدينية بأكملها، لتسلم لهم تلبية الشهوات المتاحة بيسر كبير في هذا العصر.
وإذا علمنا هذه الأسباب المختلفة، فإن من الخطأ -في مجال مقاومة الإلحاد– الاكتفاء بمناقشة الشبهات الإلحادية في ميدان الفلسفة أو العلوم الكونية؛ بل لا بد من التركيز أيضًا على طرائق التأثير النفسي والعلمي المختلفة، خاصة الموعظة الحسنة والدعوة الحكيمة وبث العلم الشرعي، إلى جانب مقاومة الفلسفات المادية التي تهوّن من شأن الحقائق الدينية المتجاوِزة للمادة، وتمهد الطريق في النفوس لمعاني النسبية في الحقائق الكبرى.
تبيان: نأتي الآن للشقّ الأعمق وهو الإلحاد المُستتر وراء مذاهب وشعارات يُروَّج لها أو مناهج علميَّة -كما يصرِّح مُدَّعُوها-. وهنا نتوجَّه إليكم بعدد من الأسئلة يتناول الأمر: ما هو التعريف المنضبط للعلمانيَّة -لكونها أظهر ما في هذا النوع- الذي تودُّ أن توضح به الصورة في ظلّ الكثير من التعريفات المُتضاربة؟
لا شك أن تعريف العلمانية يطرح إشكالات متعددة، ويقع فيه تجاذب كبير بين الفلاسفة والمفكرين، ليس كله علميًا محضًا، بل فيه قدر كبير من العوامل الذاتية.
ولذلك نجد العلمانيين العرب مثلًا يتجنبون عند تعريف العلمانية، إثارة معاني اللادينية ومحاربة الدين التي توجد في تعريفات كثيرة متداولة في الغرب. كما يميلون في الغالب إلى حصر العلمانية في جانب السياسة، ليسلموا من النقد والاعتراض، بسبب تشبث أغلب الناس بالدين في مناحي الحياة الأخرى، خاصة في مجال القيم والأخلاق والنظام المجتمعي.
وقد أدى ذلك إلى محاولات بائسة للتلفيق النظري بين حقيقة العلمانية والدين الإسلامي، عبر تعريفات متسمة بكثير من الاضطراب والتذبذب.
يمكننا أن نقول باختصار إن العلمانية هي: “نزع القيم الدينية الإسلامية عن الممارسة السياسية خصوصًا، وعن مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة عمومًا”. بعبارة أخرى: حين تكون الممارسة السياسية خصوصًا غير خاضعة لمرجعية دينية عليا، تستلهم منها أصولها وتوجهاتها، فإنها تكون ممارسة علمانية.
كثير من الناس عندنا يسوّون بين العلمانية ومحاربة الشعائر الدينية، ولا يصفون بوصف “العلماني” إلا من يحارب التدين في المجتمع والأفراد؛ وهم في هذه التسوية مستندون إلى التصور الفرنسي للعلمانية، والذي هو تصور يتجاوز الحياد في التعامل مع الأديان، إلى محاولة تقزيم الأديان وحصرها في أضيق الممارسات الفردية “المتسترة المحتشمة”.
والحق أنه لا يلزم لوصف السياسة بالعلمانية أن تكون محاربة للدين، بل يكفي أن لا تكون خاضعة لمرجعية الدين. ومن المقطوع به في الإسلام: وجوب التسليم لحكم الله، في جميع مناحي الحياة؛ والعلمانية -مهما عرفتها به- تعني التمرد على حكم الله، والكفر بمرجعية الشريعة في حياة الناس!
تبيان: عبَّرتُم في كتابكم “العَلمنة من الداخل” عن قضيَّة من أخطر الظواهر في مجتمعنا الإسلاميّ بقولكم: “المَرجعيَّة العلمانيَّة بين الرفض النظريّ والتبنِّي العمليّ” فماذا تقصدون بهذا التعبير؟ وكيف غيَّرتْ هذه الفكرة مجتمعاتنا العربيَّة الإسلاميَّة؟
المقصود بـ”الرفض النظري” أن جميع علماء الشريعة، ومُنظري الحركات الإسلامية، مطبقون على رفض العلمانية، وعلى كونها مناقضة للإسلام. بل هذا الرفض موجود حتى عند كثير من المشايخ الرسميين، والإعلاميين البارزين، بل في جزء كبير من طبقة السياسيين، ولا يكاد يجهر بالمصالحة مع العلمانية أو الدعوة إليها إلا أفذاذ من المفكرين والسياسيين.
ولكن بالمقابل: هنالك “التبني العملي”، الذي يستند إلى ضبابية مفهوم العلمانية، واستغلاقها على أذهان الكثيرين، مع اللعب على الالتباس الذي أشرتُ إليه من قبل، والذي يسوي بين العلمانية ومعنى محاربة الدين.
ولذلك فالناظر إلى الممارسة السياسية للحركات الإسلامية المشاركة في العمل السياسي البرلماني مثلًا، يجد التزامًا واضحًا بأصول العلمانية الحاكمة، تجاوز منذ زمن الخضوع تحت ضغط الإكراه، إلى التبني المفاهيمي الشامل لمجالات مختلفة، كالاقتصاد وقضايا المجتمع والفن والثقافة وغيرها.
والحق أن المتأمل لحالة بعض أبناء التيار الإسلامي يندهش من حجم التغلغل العميق للمزاج العلماني، رغم استمرار بعض المظاهر الإسلامية الظاهرة. وقد ذكرتُ في كتابي “العلمنة من الداخل” نماذج من هذا الاختراق العلماني في مستويات ثلاثة: معرفي وتلفيقي وأخلاقي.
تبيان: في ظلّ محاولات كثيرة لأسلمة العلمانيَّة؛ هل ترون أنَّها نجحت؟ وكيف نستطيع مواجهة تلك الظاهرة؟ ثم ما هي الضوابط التي تنصحون بها -في ظلّ تصريحكم الواضح بتسرُّب العلمانيَّة للداخل الإسلاميّ والمؤسسات الإسلاميَّة- للتعامُل والوثوق في تلك المُؤسسات الإسلاميَّة، خاصةً الرسميَّة أو التي امتلكتْ شعبيَّة؟ أيْ كيف يفرِّق المُسلم المعاصر بين الإسلام الصحيح والسلوكيَّات الإسلاميَّة المُعلمَنَة؟
الإسلام: دين الله الحق. والعلمانية: دين الإنسانية الجديد. وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فإما الإسلام وإما العلمانية؛ والجمع بينهما لا يمكن إلا بتحريف الإسلام ونقض أصوله الكبرى.
علينا أن نميز في هذا المقام بين الخضوع الاضطراري للعلمانية المكتسحة، وبين التبني الاختياري لمفاهيمها، بحيث ينشأ صغارنا على تقبلها من حيث هي، بغض النظر عن الظروف والأحوال. نحن نذكر دائمًا بوجوب التفريق بين حال السعة وحال الضرورة، كما أن التدرج العملي لا يعني تحريف المفاهيم التأصيلية.
إن تسرب العلمانية اليوم إلى كل مفاصل المجتمعات والدول كبير جدًا، ولست أنكر أن الصمودَ أمامها صعب جدًا في ظروفنا الراهنة، ولكن ذلك لا يبيح لنا أن نقتل الأمل في مستقبل مشرق، يعود فيه للشريعة رونقها ومرجعيتها. فلنترك المشعل متوهجًا لعل غيرنا يتمكنون مما عجزنا عنه اليوم!
تبيان: اهتممتُم بموضوع النسويَّة وخصَّصتم لها جهودًا؛ كان منها ترجمتكم لكتاب “جناية النسوية على المرأة والمجتمع”، وحلقاتكم عن النسوية على اليوتيوب، لماذا التركيز على النسوية؟ وكيف ترون خطورتها على مجتمعنا؟ وكيف يواجهها الأفراد المُسلمون العاديُّون ويكتشفونها من زخرف القول الذي تأتيهم به؟
يختزل الكثيرون النسوية في قضية الدفاع عن حقوق المرأة، والحق أن هذا المفهوم متجاوَز في الأدبيات العصرية. النسوية ليست حركة حقوقية، ولا فكرة فلسفية تجريدية، بل هي “إيديولوجيا شمولية”، تسعى إلى فرض رؤيتها على المجتمع كله، لتصبح شبكة القراءة الوحيدة الممكنة في الفكر والثقافة، وتعمل على تكييف الواقع الاجتماعي -ولو بقوة القانون- ليلائم مقتضيات الوعي الذي تفرضه – وإن كان زائفًا.
النسوية تتمدد في جميع المجالات، من الاقتصاد والسياسة والفن والثقافة والتعليم والإعلام واللغة؛ وعلى جميع المستويات، من الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والتجمعات الدولية. ثم هي تستعمل أساليب الأنظمة الشمولية، فتحتكر الخطاب الثقافي والسياسي، وترفض النقد والمعارضة، وتضطهد المخالِف بل تُشيطنه (فالذي ينتقد الأنثوية هو بالضرورة “ذكوري ماضوي رجعي متخلف معادٍ للمرأة”، ومن ينتقد زواج المثليين مثلًا عدوّ للحرية؛ كما أن من ينتقد الصهيونية معاد للسامية، ومن كان ينتقد الشيوعية معاد لحقوق العمال والفقراء ..!).
لقد أصبحت النسوية من أبرز المذاهب الفكرية المؤسِّسة للحضارة الغربية الحديثة. وقد بلغ تأثيرها الفكري إلى درجة تغيير صورة المجتمع الغربي، وتدمير العلاقات التقليدية داخل الأسرة، وتغيير لغة الخطاب الإعلامي والسياسي، بل إلى تغيير القوانين والأعراف السياسية الحاكمة في الغرب. ثم لا تزال تغيّر جلدها مرارًا، من نسوية تطالب بحقوق المرأة، إلى نسوية تطالب بالمساواة التامة مع الرجل، إلى نسوية جديدة تلغي الرجل وتشَيطنه وتدمر الأسرة وتضع يدها في يد الأقليات الجنسية، التي يراد لها أن تكون مستقبل الإنسان الحديث.
تبيان: نأتي الآن لفرع من أهمّ فروع تجريف الإسلام من منابعه؛ وهي قضيَّة التفسيرات المعاصرة للأصول الإسلاميَّة. كيف نشرح هذا للمُسلم الذي يريد الحذر منها؟ وكيف هي خطورتها في ظلّ تناميها؟ وبماذا تنصح في هذا الشأن؟
القضية لا تخرج عن إطار تعظيم الحضارة الغربية والانبهار بها، كما يقع لكل مغلوب مع غالبه! المحرك الأساس لهذه المحاولات هو محاولة إرضاء الغرب، وإرضاء عوام الناس المفتونين بحضارته، والذين يتعرضون ليل نهار للقصف الإعلامي الغربي الذي يعيد تشكيل وعيهم.
فالأمر في حقيقته ليس “تفسيرًا” معاصرًا للأصول الإسلامية، إذ ليس فيه من المنهجية العلمية أي شيء انضباطًا واطرادًا؛ بل لا يعدو أن يكون محاولة “تطويع وإخضاع”، تُسلط على هذه الأصول ليمكن قبولها بالمعايير الغربية، التي صارت تسمى “قيمًا كونية”، كما تسمى المفاهيم المشْكِلة بغير اسمها.
الحل في نظري: أن ينَسَّب التفوق الحضاري الغربي (أي: يجعل أكثر نسبية)، لتقليل معدل الانبهار الذي يمنع العقول المسلمة من الإبداع الثقافي خارج الأسوار التي حددها الغربيون لنا. وهذا التنسيب يمر بالضرورة عبر النقد المعتدل للحضارة الغربية الحديثة، لإبراز مكامن الخلل العميق فيها، والتي تتستر وراء التفوق العلمي والتقني والتنظيمي الهائل.
تبيان: ضيفَنا الكريم، يسمع المُسلم المعاصر الكثير من النقاشات حول الشكّ في توثيق السنة النبويَّة، لدرجة أنَّ كثيرًا من الشباب بدأ يقتنع ويردد هذه المضامين. من يقف برأيكم خلف هذه الدعوات المضللة ومن المستفيد منها؟ وكيف نوضِّح هذا الأمر باختصار لشبابنا المُسلم؟ وكيف نردُّ بالأدلَّة الواضحة في هذه القضيَّة؟
دون مبالغة: لم يعرف التاريخ الإنساني منهجًا علميًا رصينًا لحفظ الرواية الشفهية، كالمنهج الذي وضعه علماء الحديث. المشكلة الحقيقية: أن التأكد من صحة هذا المنهج ومن تفوقه العلمي الضخم، لا يكون إلا بعد دراسته بشكل تفصيلي؛ وأكثر شبابنا اليوم لا يعرفون من هذا المنهج إلا شذرات متناثرة، يتلقفونها من المجالس الوعظية. والنتيجة: أن بإمكان أي لص من لصوص الفكر -كما أسميهم- أن يشككهم بأدنى مجهود، كما يمكن تشكيك الجاهل في أية حقيقة علمية؛ فالهدم سهل جدًا، والبناء يتطلب جهدًا ووقتًا.
من أعظم أسباب هذا الجهل: أن الكثير من العلماء تركوا مواقعهم في تدريس العلم الشرعي، وتذليله لطلابه؛ وأن كثيرًا من التيارات الإسلامية العاملة تنكرت للعمل الشرعي وأهملته في برامجها، لصالح الفكر والتدافع السياسي. ونتيجة ذلك كله: أفواج من الشباب المتدينين، ذوي المعرفة السطحية بعلوم الشريعة، والمعرّضين لشتى أنواع تزييف الوعي و”غسل الدماغ”.
بعد رجّة الربيع العربي، آن الأوان لاستعادة العاملين مواقعهم، ورجوعهم لثغورهم التي تعرضت للكثير من الاستهزاء والاستهانة في العقد الأخير.
تبيان: نريد أنْ نلقي نظرة على وضع الإسلام في بلاد المغرب العربيّ؛ وما هي أهمُّ المُعيقات التي تقف في طريقه؟ وهل هي المعيقات العموميَّة نفسها أمْ أنَّ للمغرب خصوصيَّةً في ذلك الأمر؟ كيف ترون إقبال الشباب المغربي والتزامه بالإسلام في السنوات الأخيرة؟
لست من المضخّمين للخصوصيات الإقليمية والوطنية، مع اعترافي بوجودها. أنا من المؤمنين بمفهوم الأمة الواحدة، ومن الساعين لتنزيله في الواقع. وانطلاقًا من ذلك: فإنني أسلط الضوء في جميع تحليلاتي على مواطن الاتفاق الكثيرة، ولا أكاد ألتفت لمجالات الاختلاف إلا عند الحاجة الملحة.
مشكلات الإسلام في العالم اليوم واحدة، والتحديات واحدة، ونقائص العاملين واحدة، والثغرات في أدبياتهم واحدة أيضًا.
لكن من أهم خصوصيات المغرب: المسألة اللغوية، بشقيها: الاستعماري الخارجي (هيمنة الفرنسية، ورفضها التنازل عن مواقعها الاستراتيجية في هياكل الدولة والمجتمع)، والمحلي الداخلي (الاستغلال العلماني المعادي للدين للقضية اللغوية والثقافية الأمازيغية).
تبيان: كيف تؤثر بعض النعرات التي تتشدَّق وتتعلق بقِيَم حضاريَّة قديمة، وبحضارات وأعراق توارت قرونًا بفعل الوجود الإسلاميّ على ملفّ الإلحاد والعلمانيَّة وعلى ملفّ التميُّز عن بقيَّة المُسلمين في بلاد الغرب الإسلاميّ؟
لا أشك في أن القضية ليست ثقافية ولا لغوية، ولكنها في لبها صراع ضد الإسلام، خرج من باب الماركسية واليسار قبل عقود، ودخل من نافذة الشعوبيات العصرية.
أنا أمازيغي أبًّا عن جد، وقد أدركت الناس في قبائلنا الأمازيغية يلتزمون بتعاليم الإسلام التزامًا عميقًا متجذرًا لا يعرف التذبذب، ويحبون العربية وأهلها لأنها لغة القرآن والسنة، ولا يعرفون شيئًا من هذه العصبيات المخترعة. ولا يزال الأمازيغ في غالبيتهم الساحقة، يعيشون مع العرب في وئام تام. لكن المشكلة في وجود أقلية شعوبية، قليلة العدد جدًا، ولكنها ذات صوت مرتفع جدًا؛ ثم هي تستقوي بالمستعمر القديم، وتخدم خططه وبرامجه التفكيكية لمجتمعاتنا.
تبيان: ما هو تأثير البلاد الغربيَّة المُتصلة اتصالاً مُباشرًا بدول المغرب العربيّ وأبناء المغرب العربيّ -من خلال الاشتراك في اللغة (نقصد هنا الفرنسيَّة) والمصالح بين الدول- على تصدير المشهد العلمانيّ، وتعضيد حُجج الإلحاد هناك؟
ليس تأثيرًا مباشرًا بالضرورة، ولكن عن طريق الثقافة واللغة. المسؤول المغربي الفرنكفوني، يفكر ولا بد من داخل البوتقة الفرنسية، فمعلوماته وتحليلاته، بل مشكلاته وحلوله، هي نفسها المتداولة في فرنسا. ولذلك فإنه يفزع عند الحاجة إلى فرنسا أولًا، ويراعي مصالح فرنسا قبل غيرها، ويستمع إلى نصائحها في السياسة والاقتصاد والمجتمع، ويطبق مناهجها في التعليم والصحة والإعلام..
المشكلة الكبرى: أن فرنسا دولة آيلة إلى الانحطاط الحضاري الشامل، واللغة الفرنسية في تدهور مستمر في جميع المؤشرات العلمية والتقنية. فارتباط المغرب بها كابح حضاري خطير جدًا.
أما من الناحية الدينية، فالتأثير الفرنسي عبر المثقفين والمفكرين والأدباء والإعلاميين المتفرنسين، كبير، ويحتاج إلى جهود ضخمة لتحجيمه.
تبيان: نعرف اهتمامكم البالغ باللغة العربيَّة؛ فماذا عن اللغة العربيَّة في بلاد المغرب العربيّ؟ وماذا عن صراع الوجود للغة العربيَّة هناك؟ وبعد مرور عقود من ذهاب الاحتلال المُباشر هل ترى المشهد مُختلفًا إسلاميًّا ولُغويًّ؟
من الصحيح أن الاستعمار الفرنسي خلف ندوبًا لغوية خطيرة في بلاد المغرب الكبير، ومن الصحيح أيضًا أن الفرنسية لا تزال أعظم مزاحم للعربية، في التعليم والإعلام خصوصًا، وفي جميع مناحي الحياة عمومًا.
ولكن من الصحيح أيضًا أن لدى المغاربة قدرة عجيبة على تعلم اللغات (لا أعرف لها تفسيرًا مقنعًا)، تجعلهم إلى جانب معرفتهم باللغة الفرنسية وبعض اللغات الأجنبية الأخرى كالإنجليزية والإسبانية، لا يقلّون في معرفتهم باللغة العربية الفصحى عن غيرهم من أبناء الدول “العربية” الأخرى، خلافًا لبعض الأحكام الجاهزة عند بعض المتتبعين.
الصراع الحقيقي اليوم هو ضد اللهجات العامية، التي انتقلت من المجال الشفهي إلى المجال الكتابي، خاصة في مواقع التواصل. وهذا تحدّ يشترك فيه عموم الناس في المشرق والمغرب، بل قد تكون حدته في المشرق أكبر.
تبيان: كيف ترى تقصير المُسلمين العرب عمومًا في شأن اللغة العربيَّة؟ وما خطورة ذلك على المستقبل؟ وبماذا تنصح؟
لا شك في أهمية اللغة العربية في حفظ الهوية الحضارية للأمة، وفي ربط حاضرها بالمَعين الأصلي لدين الإسلام. ولا يختلف عالمان بأصول الاستنباط الأصولي، أن أساس هذا الاستنباط وركنَه الركين، هو المعرفة العميقة باللسان العربي، سواء أكان ذلك من جهة القواعد والمعلومات، أو من جهة الذوق والملَكات.
ولا يخفى على المتأمّل الفطن، ما تعرفه الحالة اللغوية والعلمية للأمة، من تشتت لغوي مدمر، وبُعد خطير عن اللسان العربي الأول، وعجز مرَضيّ عند كثير ممن يُقتدى بهم، من خاصة أهل الإسلام وخيارِ نخبتهم، عن التعبير العربي الفصيح عن المعاني المختلفة. أما مَن هم دونهم من عامة المسلمين، فالخلل أخطر وأعمق!
هنالك إشكالات كبيرة في تدريس اللغة العربية، سواء بالطريقة الأكاديمية أو التقليدية. وقد بسطتُ القول في هذه الإشكالات وطرق معالجتها في كتابي “تكوين الملكة اللغوية”، وركزت على أن دراسة العربية يجب أن تخرج من الإطار الضيق لعلوم العربية، إلى تكوين المهارات اللغوية، عبر القراءة والممارسة.
تبيان: نعرف اهتمامكم بقضيَّة القراءة عمومًا؛ فكيف نقنع العربيّ المُسلم بضرورة هذه القضيَّة وأنَّها تكاد تكون من فروض العين في ظلّ هذه الظروف؟ وماذا تقترح على جمهور القُرَّاء العرب من منهجيَّات القراءة؟ أو كيف يبدأ المُسلم المعاصر الذي يريد بناء وعي حقيقيّ في عملية قراءة سليمة؟
لي سلسلة مرئية على اليوتيوب عنوانها “أسمار من وحي القراءة” تطرقت فيها إلى هذه القضية، ويصعب تلخيص مقاصدها هنا.
باختصار: لقد كانت شعوبنا في الحقبة الحديثة متخلفة في مضمار القراءة، لكن الأمر تجاوز كل الخطوط الحمراء في هذين العقدين الأخيرين، بسبب الفورة التكنولوجية الحديثة، وانتشار ثقافة الوجبات القرائية الخفيفة في مواقع التواصل، مع غلبة ثقافة الصورة. الأمر صار ينذر بدمار شامل لوعي الناس، وتسطيح له على مخرجات التفاهة المهيمنة.
الأساس في نظري: هو اكتساب عادة القراءة على الرغم من كثرة المثبطات؛ وهو أمر يأتي بكثير من الجهد والعناء، لكن ثمرته تكون عظيمة جدًا.
تبيان: نرى كثيرًا من الشباب المُسلمين الواعين يُقدمون على قراءة كُتُب المُخالفين وكتب الشبهات، فتؤثر على كثير منهم بالسلب؛ فهل تنصح الشاب المُسلم بقراءة هذه الكتب؟ وكيف يقرأها إذا قرأها؟
هذه الكتب لا تُقرأ إلا بعد الرسوخ التام، علميًا وعقديًا. أما المبتدئ فحقه أن يتقن معتقده الصحيح، ويتعرف إلى أصول العلم وفروعه أولًا، قبل أن ينتقل إلى الخلافات العالية.
وما رأيت أحدًا عكَس الترتيب، إلا انقلب بالحيرة والشك والاضطراب.
وإذا كان العلم الصحيح في ذاته، قد يكون فتنة بالعَرَض -بتعبير الشاطبي- حين يُلقى على من لا يتحمله، ولا يقدر على فهمه؛ فكيف بالجهالات والشبهات؟!
تبيان: هل من كلمة أخيرة توجهها لجمهورنا؟
قد تبدو الخلافات كبيرة بين العلماء والدعاة والعاملين لدين الله، ولكن دائرة المتفق عليه أكبر بكثير. لكن تسليط الضوء على الخلافيات، يعمي الناس عن هذه الحقيقة.
من الخلل العظيم إذًا: الانشغال بتتبع الخلافيات، عن العمل الجاد المثمر في دائرة الاتفاقيات؛ ففي المتفق عليه مجال رحب للعمل لدين الله، ولكن الكثيرين يضيقون على أنفسهم بالتعصب والتحزب.
تبيان: ما هي أمنية الشيخ البشير أو أمنياته التي يتمنى أن تتحقق؟
هي أكبر من أن تحيط بها الحروف أو تجمعها الكلمات!
أسأل الله تعالى أن يرد الأمة الإسلامية إلى سابق مجدها، ويلهمها تحكيم شرع رب العالمين. والحمد لله رب العالمين.
نشكر لكم شيخنا الفاضل تلبية هذه الدعوة. ونسأل الله أن يتقبل منكم وينفع بجهودكم ويبارك فيها ويعينكم على سد الثغر وصناعة وعي إسلامي يليق بهذه الأمة.