دروس الهيبة

الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
ليس بالقدوة وحدها ولا بالقوة وحدها يتحقق للإسلام الظهور وللمسلمين النصر والتمكين، لا يتحقق ظهور ولا نصر ولا تمكين إلا باجتماع القدوة والقوة؛ فبالقوة تفتح البلاد وبالقدوة تفتح قلوب العباد، وبدون هذين الفتحين لا يتحقق المراد، هذا بُعد من أبعاد المسألة سهل الإدراك، وثَم بُعد آخر جدير بالتأمل وهو كذلك لا يُدرك إلا بنوع من التأمل.

وهو أنه باجتماع القدوة والقوة تتحقق الهيبة، تلك التي نستدعي لها في مقالنا هذا الدلائل والشواهد والأمثلة والعوائد؛ بغرض استلهام دروسها، واستنبات غراسها، وإنها (أي الهيبة) لجديرة بالاهتمام والاحتفاء، وإننا (أي أمة الإسلام) لنجفل عنها كما تجفل من الأسد الظباء!!

وليست الهيبة مرادفة للرهبة كما قد يتصورها من لا ذوق لهم ولا معرفة؛ لأنه قد توجد الرهبة ولا توجد الهيبة، والصحيح الذي تنضبط به الصورة هو أن الرهبة الخالصة من شوائب الغشم والعدوان والبغي مكون من مكوناتها، ينضاف إليه مكونات أخرى أبرزها الفضل والمنة، وباجتماع الرهبة المستمدة من القوة والمنة المستمدة من القدوة تتحقق الهيبة؛ لذلك اشترطوا في مؤسسة أهل الحل والعقد شرطين أساسيين: الشوكة والمنة.

والمعنى المقابل للهيبة (شرعًا لا وضعًا) هو الوهن؛ لذلك فسره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث بأنه: “حب الدنيا وكراهية الموت” وذلك بعد أن وضعه في مقابل الهيبة في قوله: “ينزع الله المهابة من قلوب أعدائكم ويلقي في قلوبكم الوهن”؛ فحب الدنيا يفقد المسلمين القدوة، وكراهية الموت يفقدهم القوة؛ وبفقدانهما تزول الهيبة ويحل الوهن الذي هو شيء أكبر من الضعف.

ولا ريب أن الأمة الإسلامية في عهدها الأول تحققت لها هذه الهيبة، وكانت سمتًا ظاهرًا لها، وسمة بارزة من سماتها؛ مما حدا بكثير من البلدان إلى الدخول في الإسلام دون حاجة إلى فتح، فيقال فتحت بالقرآن لا بالسنان، والحقيقة أن البلاد لا تفتح بالقرآن وإنما تفتح البلاد بالهيبة ثم تفتح قلوب العباد بالدعوة، وكلاهما من أثر القرآن، ومن هدايات القرآن، ولا يشترط لتحقق أثر الهيبة إمضاء الجهاد في كل البقاع واستغراقه لجميع الأصقاع؛ لأن مدها يسبق خطوها وريحها يمتد من حولها.

وفي حياتنا المعاصرة درسان بارزان من دروس الهيبة، الأول في مصر؛ حيث لم يكن للثورة رغم جلالها وزخمها، ولا للدولة التي أوجدتها الثورة رغم عمق شرعيتها، لم يكن لهذه ولا تلك الهيبة المطلوبة كشرط لازم للنجاح والبقاء ومقوم ثابت للاستقرار والاستمرار؛ لأنهما (أي الثورة والدولة) افتقدا الشوكة، ولم تكتمل بهما المنة، فجميع الأجهزة التي تعد من أدوات السلطة الخشنة كالجيش والشرطة والمخابرات وغيرها لم يكن للثورة ولا للدولة نصيب منها؛ لأنها حكر على النظام، أعني النظام الذي قامت عليه الثورة ولم يسقط بقيامها ولا بقيام الدولة التي أوجدتها الثورة، ولم تمتلك الثورة ولا الدولة بديلًا عن تلك الأجهزة العميلة الدخيلة.

وأما المنة فلم تتم ولم تكتمل، وما تحقق منها لم يجد من ينشره ويظهره؛ فسهل طمسه وتشويهه، ثم جحده وشيطنته، هذا مع كون المنة كانت ضعيفة عرجاء وهزيلة عضباء؛ حيث امتطى ظهر الثورة وصوليون عرجوا بها بعد الأيام الأولى الصافية إلى منعرجات ومنعطفات لا تخلو من دخن، وحيث لم يكن الأداء في الدولة رغم سلامة مقاصد القائمين بها على النحو الذي يوافق منهج القرآن في تلك المرحلة؛ فانتفت القدوة مع انتفاء القوة؛ فأنى توجد الهيبة؟ وكيف يكون للناس من الهلاك خلاص؟

وأما الدرس الثاني من دروس الهيبة فقد رآه المسلمون (أعني الشعوب المسلمة) في تحرك تركيا ولا سيما في الفترة الاخيرة؛ فمن المواقف القوية تجاه قضية فلسطين والقدس وصفقة القرن، إلى التدخل في الخليج بما يردع الجناة المتآمرين المحاصرين لقطر ظلمًا وعدوانًا، إلى التدخل في شمال العراق وشمال سوريا؛ بما يؤمن أمن البلاد ويسحب شريط الحدود الجيوسياسية إلى مدى يكفي بنسبة كبيرة لتحقيق الأمن للأصل، إلى شرق المتوسط وبسط السيادة على جزء كبير يعد حقًا جغرافيًا وتاريخيًا للأتراك، ثم في الاخير يأتي التدخل المشروع في ليبيا، ذلك التدخل الذي أربك حسابات الثورة المضادة.

إنهما درسان متقابلان؛ فهما شديدا الحضور والأهمية.

فهل نستطيع أن نستلهم هذين الدرسين؛ لنكتب مشروعنا ونمضي في تنفيذه متوكلين على رب العالمين؟

الكاتب: د. عطية عدلان.

كلمة حق

تقارير ومقالات يتم إعادة نشرها من مجلة كلمة حق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى