العهد الأموي
انتهى عهد الصحابة وتولى الخلافة الأمويين بعد ما يقرب أكثر من 20 سنة على فتح الفاروق عمر -رضي الله عنه- القدس، وازدهار بلاد الشام ومصر على يد الصحابة في العلم والثقافة والبناء والحضارة والإقتصاد. كانت فترة العهد الأموي من 40 إلى 132هـ، بدأ “عبد الملك بن مروان” ببناء المسجد الأقصى بناءً كاملاً، وجعل فوق قبة الصخرة ذلك البناء العظيم، لكنه توفي قبل إتمام البناء وتسلم من بعده ابنه “الوليد بن عبد الملك” وأكمل البناء، وكذلك استمرت أيضاً الحضارة في بلاد الشام بالتقدم إلى أوسع ازدهارها.
تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة بعد أخيه الوليد، وشرع ببناء المدن وازدهارها وكان منها مدينة الرملة، وارتفع في عهده شأن القدس وفلسطين في نظر المسلمين والعالم، ارتفعت المباني والحضارة والعمران، ولعل المتأمل هنا في تاريخ اليهود أنهم لم يكن لهم حضارة في القدس، فما كان عهدهم بالأرض المقدسة سوى هجرات مؤقتة كانت تنتهي بإجلائهم وطردهم أو قتلهم وتشريدهم مما كسبته أيديهم من مكر وفتن وظلم وفجور وحقد وخيانة، فضلاً عن كونهم دعاة حرب، وإذا أمعنا في تاريخهم فلن نجد لهم بناءً واحداً ولا حضارة، ونجد في كل مرة هدم للقدس والمقدسات بسبب مكرهم واستكبارهم وغدرهم، على عكس ما عاشه المسلمين على مر العصور والقرون فلم تهدم أي مباني لهم على طول الأيام وتتابعها، وهذا التاريخ مدون بأحرف غربية ويهودية قبل أن تكون عربية وإسلامية، دليلاً على حقيقة هذه الأمة والوقائع الناصعة البياض في جبينها.
في أواخر الحكم الأموي في عام 129هـ، أصاب المسجد الأقصى زلزالاً صدع بعض أركانه، فسارع المسلمون إلى ترميم ما أصابه من ضرر لكنه كان ترميماً مؤقتاً وبسيطاً.
العهد العباسي 132هـ – 750م
انتهى في هذا العام عهد الأمويين فسيطر العباسيون على الحكم، وبعد أربع سنوات من بدء الخلافة العباسية بدأ ترميم المسجد الأقصى بالكامل من أثر ذلك الزلزال بأمر من المنصور الخليفة العباسي الثاني، ولكن كانت في تلك الفترة الزلازل مستمرة على المنطقة، وأصاب المسجد زلزالاً آخر بعد عشرين سنة، فقام الخليفة “المهدي بن أبي جعفر المنصور” ببناء كامل وتوسعة كبيرة للمسجد والعمران فيه، ونهضت الحضارة العباسية وانتشرت بشكل سريع.
ما زلنا في عهد الحكم العباسي، وصلنا إلى الخليفة هارون الرشيد -رحمه الله- الذي ظهر التسامح في عهده، ففي عام 169هـ أصدر قراراً بالسماح للإمبراطور الروماني “شرلمان” في بيزنطة بترميم كنائس القدس، وسمح أيضاً بإرسال البنائين والأموال لبناء كنائسهم كما يريدون، ثم أصدر قراراً يقضي بفرض الحماية لكل مسيحي زائر للأماكن المقدسة المسيحية في القدس بتوفير الأمان له وحمايته حتى عودته سالماً، ولكن هل قدم المسيحين مقابل هذه الرحمة والإحسان إحساناً مثله! وهل عرفوا معنى رد الجميل؟! الوقائع والأحداث تشهد بغير ذلك مما قدمه النصارى مقابل هذا الإحسان.
بين الخلافة العباسية الصورية وقيام الدولة الطولونية
في عام 247 هـ، حدث تحول خطير في أرض الخلافة في بغداد، وذلك عندما قتل الخليفة “المتوكل” على يد قادة الجيش التركي، وقد كان أن الأتراك وفدوا إلى العراق بأعداد كبيرة، وشئياً فشيئاً زاد إعتماد العباسيين على الأتراك بدلاً من العرب خوفاً على حكمهم من الزوال، وجعلوا منهم قادة جيوش من الأتراك والأعاجم وغيرهم، فما كان من الأتراك إلا أن توغلوا في جهاز الدولة بكل جوانبه، إلى أن تمكنوا من تملك زعائم الأمور، فسيطروا على الجيوش وقتلوا الخليفة وسيطروا سيطرة فعلية على الخلافة وبقي الخليفة بشكل صوري في كرسي الخلافة. فهنا “أحمد بن طولون” أعجمي الأصل كان من المجاهدين الأبطال وتعلم العربية والإسلامية، كان أن تم تعينه والياً على مصر، ولكن في عام 254هـ حدث خلاف بينه وبين أخو المعتمد الخليفة العباسي آنذاك، فكانت نتيجة الخلاف أنه استقل بحكم مصر وأعلن عصيانه للخلافة العباسية، لم يعلن الإستقلال رسمياً لكنه استقل بشؤونها دون الرجوع إلى الخلافة. ولما استحكم الخلاف بينهم، كان من أمر والي مصر ” أحمد بن طولون” أن جهز جيشاً للسيطرة على بلاد الشام، وكان الضعف قد بدأ بمد نفوذه في هيكل الدولة العباسية مما أدى إلى تمكن والي مصر من الإنشقاق عن الدولة العباسية والخلافة والبدء باحتلال الأراضي، تحرك “أحمد بن طولون” إلى أنطاكية شمالاً ففتحها، وسيطر على حماة وحلب وحمص، ثم مد نفوذه إلى القدس وفلسطين، وقامت بينه وبين الدولة العباسية عدة حروب، واشتعلت نار الحروب في جسم الدولة العباسية، وكانت الدولة الطولونية أول حركة استقلال عن الخلافة ومهدت لكثير من الحروب والتمزقات.
بعد ذلك استمرت حروب وصراعات بينهم إلى أن توفى “أحمد بن طولون” ثم الخليفة العباسي “المعتمد”، وتولى بعدهم أبنائهم وتم بينهم الصلح وتحسين العلاقات ثم تزوج الخليفة بإبنة “خمارويه ابن أحمد بن طولون”، وفي تلك الأثناء كان هناك من يعمل خفياً ويخفي تحت كل هذا الهدوء بركان الثورات والتمزق بعد ما آلت إليه الدولة العباسية من ضعف، إنهم القرامطة وهم متمردون من بعض فرق الشيعة ويعد القرامطة من أشد غلاة الشيعة الذين أحدثوا خلافات كثيرة في الدولة الإسلامية، فنشأت دولة القرامطة وكانوا من أعداء العباسيين، وصاروا يهاجمون العراق من مقرهم بالجزيرة -بما يسمى اليوم البحرين-، واستمر الضعف في الدولة العباسية وتوسع القرامطة إلى أن سيطروا على شرق الجزيرة ومصر وتوجهوا غرباً نحو الشام وأسسوا لهم مركزا للدعوة في الرملة في فلسطين.
كان كل ذلك وأكثر نتيجة خطأ فادح من العباسيين وخوفهم على حكمهم وتمسكهم بالخلافة بدل أن يتم منهم الإهتمام بشؤون الدولة الإسلامية نفسها. وكان أن أغار عليها من أغار من أعداء الإسلام وحفر من تحتها أنفاقاً ليوقع كيانها في الوقت المناسب، تماماً كما حدث لنا من تفريطنا بالدين وتمسكنا بالشكليات، فَها نحن نحصد ثمار خيبتنا وغبائنا وإستسلامنا والتفريط بمجد الأمة وحضارة الخلفاء الراشدين والتابعين من بعدهم.
الفاطميون في مقاليد الحكم
استمر الضعف في الأمة الإسلامية والتشتت والتفرق، واستمر كذلك التآمر عليها والكيد لها من الفرق الشيعية، سيطرت الدولة الفاطمية على مصر في هذه الأثناء وهي أيضاً إحدى الفرق الشيعية، ثم سيطرت على الشام ثم الحجاز، وبقي الوضع على هذا الحال، حيث ظهرت فرق كثيرة من الشيعة كلها تتآمر على أهل السنة وتطمع بالحكم وقامت كثير من المعارك بينهم وبين العباسيين للسيطرة على حكم البلاد والتي كانت خلافتهم صورية والأتراك هم المسيطرون، وقامت أيضاً معارك وحروب بين طوائف شيعية، وظهرت بينهم أحياناً مصالح مشتركة، كان من أخطر الفرق الشيعية على الإسلام وأهله ما يسمى بالقرامطة، كان ذلك من إفسادهم وبغيهم في الأرض وهم من وصلوا إلى الكعبة وانتهكوا الحرمات وأخذوا الحجر الأسود إلى الأحساء وبقي هناك على أصح الروايات اثنين وعشرين سنة.
أثناء سيطرة الفاطميون على مصر والحجاز والعراق وبلاد الشام كانت الدولة العباسية ضعفت وانتهت، انتهت الدولة العباسية التي تشتت أركانها وتقسمت إلى دويلات كثيرة، كل ذلك مهد لظهور أطماع الغرب الأوروبي في الدول العربية وبداية غزوهم إلى بلاد الشرق الأوسط، وكأنه شد انتباههم صوت المعارك والحروب والضعف والتشتت الذي ساد المنطقة، فما كان منهم إلا أن طمعوا بتلك الوجبة الدسمة الشهية وانتهزوا الفرصة فور حدوثها دون تضييع وقت، وكان في كل تلك الأحداث مازال الإهتمام بالقدس وعمارتها وأهميتها قائماً، حتى أن بعضهم كانوا يأخذون من يموت من حكامهم ليدفنوه في القدس.
وفي عهد “الحاكم بأمر الله الفاطمي” حدث زلزالاً هز الأقصى الشريف وسقطت أجزاء من قبة الصخرة، فرممها ولده بعد ست سنوات وزينها، والجدير بالذكر أنه في ظل حكم “الحاكم بأمر الله” والذي سمي بالمجنون لكثرة ما فرض من قوانين مجنونة على البشر فأرهقهم وأفسد فيهم، أنه هدم كنسية القيامة فكان بذلك قد أشعل أول فتيل للكراهية بين المسلمين والمسيحين بعد كل التسامح الإسلامي الطويل والأمان الذي ساد بينهم، وقد هز هذا الحدث النصارى في الغرب وعرفوا أن مقدساتهم انتهكت وكان ذلك من مقدمات الحروب الصليبية.
بدأت الدولة الفاطمية تتدهور وتضعف وانقسمت بعد وفاة الحاكم الفاطمي “المستنصر بالله”، الذي حدث بعده خلاف بين أبناءه على الحكم وحدثت حروب واشتدت بينهم، وفي تلك الأثناء أيضاً كانت الدولة الأموية والخلافة الإسلامية لم تزل قائمة في الأندلس وضعفت في هذا العام 472هـ – 1036م وسقطت الخلافة في الأندلس وتمزقت إلى 22 دويلة.
السلاجقة الأتراك
في نفس فترة سقوط الدولة الأموية في الأندلس كان السلاجقة من الأصل التركي قد سيطروا على تركيا، وكان لهم دور رئيسي في الحركات التي مزقت الأمة الإسلامية من الشرق والغرب وفككت وحدتها، وفي عام 445هـ، حدث انقسام في أوروبا وبعد هذا الإنشقاق المسيحي، ظهر رجل كان يحكم ولاية تقع شمال الأندلس يسمى “فرناندو الأول”، تمكن من الاستقلال بهذه الولاية عن حكم المسلمين، وما لبث أن أعلن في أوروبا حروباً مقدسة لاسترداد الأندلس قبل وصولها إلى المشرق العربي، وسيطر الأتراك في تلك الأثناء على الشام وفلسطين.
حركة الإصلاح الديني
لا بد لنا من وقفة ربما خارج إطار حديثنا، لكن لا ينبغي لنا أن نغفل عنها، وهي تعريف بأحد وزراء السلطان واسمه “نظام الملك”، وهو وزير مؤمن مجاهد يحترم العلماء ويشجع العلم، وقد أهمل التاريخ الإسلامي ذكره، أسس المدرسة النظامية وشجع العلم والأدب والعلماء، وكان الشاعر الفارسي “عمر الخيام” من أحد المقربين إليه، ومن أبرز العلماء الذين قادوا حركة الإصلاح الديني هذه في عهده الإمام المجدد حجة الإسلام “محمد الغزالي” والذي كان له دور كبير في إحياء الأمة، خاطب العلماء وجعل يلومهم وينصحهم على أن يوجههوا كلامهم للعامة والأمة لا لتلاميذهم ومستمعينهم فقط، واستنكر فيهم سكوتهم عن واقع الأمة وأحداثها وانتقد فيهم التعصب المذهبي والتخلف عن أصول الدين والإهتمام بالجزئيات والفروع بينما الأمة تتآكل تحت تاثير الفرق المنحرفة والخارجين عن العقيدة الصحيحة، وانتقد أيضاً اهتمام السلاطين والحكام بالدنيا والشهوات والرغبات عن رعاية الأمة وأمور الرعية والدين، تحرك بتحرك الإمام الكثير من العلماء بتشجيع من نظام الملك، وبدأوا بنشر الأفكار المحرضة للشعب للنهوض من غفلته، وأدخلوا مايسمى بـ ” السياسة الشرعية” إلى مفاهيم الناس، ومفهوم الحاكم المسلم وكيف تكون سياسة الدنيا والدين.
لقد قامت بقيادة ذلك الإمام المجدد حركة إحياء للدين بين الناس، وقام جيل جديد من العلماء يصحح المفاهيم السابقة المغلوطة، وتربى جيل من الطلبة على حرة الإصلاح، وكان منهجهم يعتمد أولاً على العقيدة السليمة وثانيا تكامل العلم من جميع جوانبه، أي شمولية العلم والرؤية.
بقي هذا النهج مستمراً طويلاً -بفضل الله- يتبعه العلماء وطلاب العلم مائة سنة كاملة، وكان من ثمارها العظيمة الزكية العطرة أنه نشأ جيلاً جديد من الحكام الذين تربوا على نهج الإمام المجدد والذين أعادوا أمجاد الأمة من جديد أمثال :عماد الدين زنكي” و “نور الدين زنكي” و “صلاح الدين الأيوبي”.